بعد أزيد من ثماني ساعات طيران، كان الوصول إلى مدينة دبي الإماراتية في حدود الساعة الحادية عشر من ليلة العيد (21 يوليوز 2021).
قضينا بالمطار حوالي ساعة ونصف، كانت كافية فقط للقيام بالإجراءات الإدارية اللازمة للانتقال إلى الطائرة المتوجهة إلى العاصمة اليابانية. كانت الأمور تسير بإيقاع عادي وهادئ، في احترام تام للتدابير الصحية، التي فرضها تفشي وباء كورونا عبر مختلف دول العالم.
بمطار دبي، كان أغلب العاملين من الآسيويين، الذي يشتغلون كخلايا نحل، من دون كلل أو ملل، فيما يقتصر دور الإماراتيون على المراقبة من بعيد، والتدخل عند حصول أي طارئ.
في الطائرة المتوجهة إلى اليابان، فرض علينا طول المسافة والتعب الاستلقاء بالمقاعد، واستغلال قلة عدد المسافرين، ومحاولة النوم، لكنه استعصى على كثير منا، بحكم حالة الترقب لما ستكون عليه الأمور عند الوصول إلى العاصمة اليابانية، خاصة وأن من سبقونا أخبرونا بتعقد الأمور، والتشدد الكبير في المراقبة.
لم نكن نعلم أننا سنجد في انتظارنا مفاجآت غير سارة بمطار طوكيو، الذي وصلناه في حدود الساعة الخامسة من عصر الخميس 22 يوليوز. وبمجرد أن وطأت أقدامنا الأراضي اليابانية، حتى توافد علينا عدد من متطوعي اللجنة الأولمبية، وبعض مسؤولي المطار، الذين وبعد ابتسامة مجاملة، طلبوا منا فتح تطبيق أوتشا، الذي تفرض السلطات المحلية على كل وافد أن يضع فيه كافة المعلومات المطلوبة، وباستفاضة كبيرة، لكننا لم نتمكن من الأمر، لكثرة الضغط من مختلف دول العالم، رغم أننا حاولنا طيلة الخمسة أيام التي سبقت السفر، وفي أوقات مختلفة.
أخبرنا المسؤولين بالمطار بأننا لم نتمكن من ملء استمارات «أوتشا» ولم نكن نحن الوحيدين الذي تعذر عليهم ذلك، حيث ضج بهو المطار بالمسافرين، الذي فرض عليهم العبور من ممرات خاصة، أعدت بعناية لتفادي أي اختلاط بين الوافدين والمواطنين اليابانيين، الذي كانوا يحرصون على فرض مسافة الأمان، وكانوا يقتربون منا بحذر شديد، وعند الضرورة القصوى فقط.
توجهنا إلى قاعة صغيرة بالمطار بها أشخاص مكلفون بتدقيق معطيات كل المسافرين، حيث كان يتواجد بالمدخل شخص ينتصب أمام حاسوب صغير، ويدقق في شاشة المعطيات.
كنا تسعة صحافيين مغاربة (عبد ربه من جريدة الاتحاد الاشتراكي، محمد الروحلي من بيان اليوم ،جمال اسطيفي من المساء،يوسف بصور من الأحداث المغربية ،محسن صلاح الدين من الصباح ،محمد أمين العمري من لوماتان ، محمد صامت من راديو مارس ،أسامة بنحمو من موقع البطولة ثم عبد القادر بلمكي، قيدوم المصورين الصحافيين، ممثلا لموقع (الأسود)، نجر وراءنا تعب كبير، خلفته رحلة امتدت من منتصف نهار يوم العيد (الأربعاء 21 يوليوز) إلى غاية الخامسة من عصر الخميس 22 يوليوز.
أخذ منا العياء مأخذا كبيرا، وضاق صبرنا كثيرا، ولم تعد لنا قوة على تحمل مزيد من الروتين القاتل، فمجرد سماع «افتحوا تطبيق أوتشا» كان يرتفع ضغطنا، لأننا سئمنا من تكرار نفس الجواب:» للأسف لم نتمكن من فتح تطبيق أوتشا، رغم أننا حاولنا ذلك لعدة أيام، ولكننا نحمل معنا كل الوثائق اللازمة»، لأن اللجنة الوطنية الأولمبية المغربية طلبت منا اصطحاب كل الوثائق الممكنة، لتفادي أي مفاجأة غير سارة بالأراضي اليابانية.
وجدنا صعوبة بالغة في الوصول إلى نقطة مشتركة مع اليابانيين بالمطار، لأن كثيرا منهم لا يجيد التكلم بالإنجليزية، رغم أن بعضهم يحاول جاهدا أن يتواصل معنا، كما أنهم لم يكونوا قادرين على تحمل مسؤولية القرار، الذي يجب أن يأتي من «الفوق»، من اللجنة المنظمة للألعاب.
في القاعة الصغيرة، التي تفتقد للتكييف، ارتفع منسوب الأدرينالين داخلنا، خاصة وأن الأمر دام حوالي ساعتين، اكتفينا طيلتها بمراقبة المسؤول صاحب الحاسوب الصغير، وهو يضع أمامه وثائق المسافرين، بينما يقوم بعض مساعديه بعدنا، ما يبين غياب التواصل فيما بينهم، حيث كنا نرى من بعيد، وعند دخول أي وجه جديد إلى القاعة، كيف ترفع أصابع اليابانيين، وتنطلق عملية العد.
طال الانتظار وارتفعت درجة الغضب والحنق، فقررنا أن نعاملهم بالمثل، أن يتوجه كل واحد منا بشكل منفرد بالسؤال عن مستجدات الوضع، وموعد «إطلاق سراحنا».
كان لهذا القرار مفعوله، لأن صاحب الحاسوب الصغير، أكثر من الاتصالات الهاتفية، وبعد أقل من نصف ساعة، تلقى مكالمة غيرت حالنا، حيث تسلمنا شارة الاعتماد، وتنفسنا الصعداء.
حتى نوال المتوكل وعثمان الفردوس…
أخبرنا أحد مسؤولي اللجنة الوطنية الأولمبية أن نوال المتوكل، المسؤولة النافذة داخل اللجنة الأولمبية الدولية، لم تسلم من هذا الروتين، واستسلمت أمام جبروت «أوتشا» اللعين، وقضت بمطار طوكيو أزيد من ست ساعات، وهو نفس الأمر الذي تكرر مع وزير الثقافة والشباب والرياضة، عثمان الفردوس، رغم أنه كان مصحوبا بسفير المغرب باليابان، وأحد مسؤولي وزارة الخارجية اليابانية، حيث مر بدوره من هذا الصراط، الذي عبر منه كل الوافدين على اليابان، وعانى منهم من سخط عليهم «أوتشا»، حيث لاحظنا خلال تواجدنا بالمطار كيف مارس «أوتشا» شططه على بعض وزراء الرياضة العرب والأفارقة والآسيويين، ما يؤكد أن السلطات اليابانية تتعامل بتشدد وصرامة كبيرين مع كل الوافدين عليها، ولاسيما من البلدان التي تشهد تفشيا لوباء كورونا.
البحث عن صك البراءة
بعد الحصول على شارة الاعتماد، طلب منا الاصطفاف في طابور، والتوجه فرادى نحو شبابيك، تم فيها قياس حرارتنا عن بعد، بعدما كشفنا عن هوياتنا، وقدمنا نتائج الاختبارات التي قمنا بها في المغرب، وكانت قبل 96 ساعة و72 ساعة عن موعد السفر. تسلمنا بعد ذلك قارورات صغيرة للقيام باختبار الكشف عن كورونا عبر اللعاب، وعلى طول هذا المسار، الذي امتد لأزيد من 300 متر، كان يطلب منا غسل الأيدي بالمعقمات، المنتشرة مثل الفطر بمختلف الممرات التي اجتزناها.
أنهينا هذه المهمة، وتسلمنا مطبوعا مكتوبا باللغة اليابانية، توسطه رقم، سنعلم فيما بعد أنه يخص المقعد الذي سنجلس عليه في صالة أخرى، تبعد عن سابقتها بحوالي نصف كيلومتر.
وجدنا بهذه القاعة أشخاصا سبقونا، وموظفين يرتدون سترات مكتوب عليها طوكيو 2020، لكن بألوان مختلفة، وموظف بزي عصري، كان يدون المعلومات المتعلقة بنا، بعد أن سلمناه وثائق هويتنا، والورقة التي حصلنا عليها من مركز أخذ العينات.
طال الانتظار هنا، واستغرق الأمر أكثر من ساعتين، نترقب فيها مصيرا مجهولا، لأن كل من ثبتت إصابته بفيروس كورونا يغلق عليه داخل غرفة ويخضع لحجر صحي صارم جدا.
العجيب أن هؤلاء اليابانيين يبدؤون عند الدخول بالعد، وأصبح الأمر مألوفا لدينا. كانت أرقام الكراسي التي سلمت لنا متقاربة، وسهل ارتداؤنا لبدل رياضية بالألوان الوطنية الأمر، حيث كانت تسهل عملية العد، والمثير أن العملية قد تتكرر من الشخص الواحد عدة مرات، ما يؤكد على أن هذا الشعب لا يترك أي مجال للصدفة، ويحرص على تدقيق معطياته بشكل يقلل هامش الخطأ عندهم.
نتائج مع وقف التنفيذ
بعد انصرام أكثر من ساعة ونصف، تقدم إلينا المسؤول عن القاعة، وفي يده ورقة صغيرة كتب عليها أرقام، سنكتشف أنها لجوازات سفرنا، قال لنا إن أربعة أشخاص تمت الموافقة على عيناتهم، فيما الخمسة الآخرون لم تتم قراءة عيناتهم بشكل جيد، وسيتم إعادة إخضاعها للتحليل من جديد، ثم ذهب.
بدأ الخوف يكبر داخلنا، لأننا لا نعلم أي مصير ينتظرنا في حال حدوث أي مفاجأة غير سارة. بعد فترة، عاد نفس الشخص ليخبرنا بأن الأشخاص الأربعة كانت نتائجهم سلبية، ثم سكت وغادر. هنا بدأت الأمور تأخذ طريقا آخر، وأصبحت الأسئلة تتناسل داخلنا بشكل مسترسل، حول مصير زملائنا الخمسة، ومصير الباقي، في حال كانت النتائج إيجابية، باعتبارهم مخالطين.
حاولنا تخفيف الوضع ببعض المستملحات، وتجنب التفكير في الأمور السلبية، وانتظار ما ستؤول إليه الأمور. وبعد حوالي ساعة، عاد المسؤول ذاته ليخبرنا بسلبية نتائج الجميع، فهدأت أعصابنا، واستجمعنا ما بقي من قواتنا.
أخبرنا مسؤولو اللجنة الوطنية الأولمبية بأن مرحلة شارة الاعتماد والقيام بالتحاليل هما الأصعب في مسار رحلة دخول التراب الياباني، وأن ما سيتلوهما لن يكون أكثر صرامة.
بعدها توجهنا إلى مصالح الأمن، حيث أخذت لنا صور، وتم التدقيق من وثائقنا، ثم قصدنا مصالح الجمارك، بعدما مررنا عبر ممرات خاصة، تحت مراقبة أمنية مشددة، وسط تواجد عناصر من الجيش الياباني.
عند مصالح الجمارك، كانت الأسئلة حول المحمولات، ولاسيما العملة والسلاح، وأيضا النباتات والأغراس، الذي قد تفتح بشأنها حقائب الأمتعة، لأن السلطات اليابانية تحرص على الحفاظ على موروثها وغطائها النباتي، وتفادي إدخال أي نباتات قد تغير خصوصياته.
الإفراج النهائي
بعد هذا المسار الطويل والمعقد، والذي كانت ترافقنا طيلته تحايا اليابانيين، وابتساماتهم، وصلنا إلى حيث تتواجد أمتعتنا.
وجدنا بالقرب منها فتاة تحمل نظارات، وتسأل كل واحد منا عنها، ليفاجأ الزميل محمد الروحلي بأنه أضاعها بالطائرة، دون أن ينتبه. وقع على ورقة تثبت تسلمه لما ضاع منه.
قصدنا الحافلة التي ستنقلنا إلى الفندق، وكلنا اندهاش من عظمة هذا الشعب، الذي يحترم الأمانة، ويحرص على ضبط معطياته ومعلوماته، ويعامل الجميع من دون تمييز أو حيف، ويخلص في عمله، لأن السيدة التي كانت تنتظر صاحب النظارات، أعتقد أنها ظلت واقفة أمام الأمتعة لفترة طويلة، لأن المرور من هذا الصراط دام سبع ساعات، ومع ذلك بقيت واقفة، واستقبلتنا بابتسامة وحيوية، من دون تأفف أو اشمئزاز أو تذمر، وكأنها تقول لنا إن تقدم الشعوب له ثمن وتضحية.