رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..
2) التصور الكيميائي للجسم:
الجسم آلة وهي آلة- لحم (meat machine) أي حزمة مواد فيزيائية كيميائية عضوية. اللحم مجموعة مواد تتفاعل فيما بينها كيميائيًّا. يتشكل جسم الإنسان من بضعة كيلوغرامات من الكربون والأكسجين والهيدروجين والأزوت؛ ومن بضعة غرامات من الكلسيوم والفوسفور والكبريت والبوتاسيوم والصوديوم والكلور؛ ومن بضعة ملغرامات من اليود والكوبالت والمنغنيز والموليبورن والرصاص والتيتان والبروم والزرنيج والسيلنيوم. هذا التصور الكيميائي للجسم هو تدقيق أو تكميم للنزعات المادية القديمة التي تصورت الجسم بهذا الشكل. فالعناصر الأساسية لتشكل المادة الحية هي الكربون والهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والأزوت وهي العناصر التي تربط بينها روابط كيميائية.
3) التصور العددي الكمي للإنسان(7):
يحتوي جسم الإنسان على ثلاثة ملايين غدة، و16 مليون بصيلة شعر لدى الرجال و40 مليون بصيلة شعر لدى المرأة، و450 زوج من الأنسجة، وعلى 206 إلى 211 عظمة، و800 نوع من الأنسجة و4,5 مترمربع من مساحة الجلد، و950 من الأوعية الدموية و25000 مليار كرة دم حمراء، ومئة مليار خلية عصبية ومليون مليار رابط عصبي، ومئات الملايين من الهرمونات. ذاك هو التصور الكيميائى لجسم الإنسان لدى الترانس.
4) نفي وجود طبيعة بشرية:
لمفهوم الطبيعة البشرية مدلولان: المدلول البيولوجي المتمثل في DNA أو الجينوم أو ما يشكل الخصوصية النووية للكائن الحي، والمدلول الأخلاقي أو الميتافيزيقي الذي يشير إلى كرامة الإنسان أو إلى قدسيته أو إلى خصوصيته الأخلاقية التي هي أمر غير قابل للاختراق أو الاستلاب. ويبدو أن العلوم البيولوجية، ورواد الترانس يتجهون إلى إنكار أو نفي وجود طبيعة بشرية (بيولوجية) من سماتها الثبات. فكل الكائنات عاشت منذ آلاف بل ملايين السنين حالة تطور بيولوجي لقدراتها جعلت هذه الطبيعة تتغير بالتدريج، وهي لن تتوقف عند الحد الحالي بل منذورة للتطور في المستقبل بشكل أسرع، وبخاصة مع التجديدات التي يجملها لها تطور العلم التقني وبخاصة مع انفتاح أبواب تلقيح أو تهجين الإنسان بالآلة.
الترانس أقرب إلى كونه نزعة مضادة للطبيعة (Antinaturalisme) من حيث إن الطبيعة هي غير مقدسة بمعنى أنها ليست معبدًا(8). فهي تتطور تطورًا ذاتيًّا كما أنها يمكن أن تتلقى تعديلات خارجية تسرّع وتيرة تطورها وتيسر لها أداءً وظيفيًّا أحسن. وإحدى خلفيات الترانس هي الفرضية الفلسفية حول قابلية الإنسان للاكتمال (Perfectibilité) من حيث إنه كائن ناقص ويتميز بالمرونة plasticité أو القابلية المستمرة للتشكل وللتطور. وهذه هي الفكرة التي طورتها فلسفة الأنوار الأوربية ابتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي(9).
5)النظرة الواحدية Monisme:
الفكرة الأساسية التي هيمنت عبر تاريخ الفكر الإنساني كله القديم والوسيط والحديث هي فكرة الثنائية أي الاختلاف في الطبيعة والماهية بين النفس (أو الروح) والجسم؛ لأن كلًّا منهما ذا طبيعة مختلفة عن الآخر. تبلورت هذه العلاقة في كل الثقافة الإنسانية القديمة وبخاصة في الفلسفة اليونانية. الصياغة الفلسفية لفكرة ثنائية العلاقة بين النفس والجسم نجدها في فكر أفلاطون في محاوراته (فيدون وطيماوس). فالجسم مادة تنتمي إلى العالم الواقعي بينما النفس تنتمي إلى عالم الفكرة أو المثال، والجسم هو بمنزلة سجن أو معتقل للنفس، بحيث تكون عملية الموت بمنزلة «خلاص» للنفس من حدود الجسم.
كما نجد هذه الفكرة لدى رونيه ديكارت (1650 -1596م) الذي يرى أن الجسم والنفس شيئان مختلفان في ماهيتهما. فالنفس غير مادية (Immaterielle) في حين الجسم امتداد هندسي وميكانيكي، وهو أشبه ما يكون بالساعة (L’horloge) أي آلة خاضعة لقوانين الطبيعة. فكرة الثنائية (Dualisme) أو التوازي التي هي فكرة تخترق الثقافات القديمة وتتبلور فلسفيًّا في الفكر الفلسفي الإغريقي، شُكِّلت فكرة مركزية في الثقافات الدينية القديمة والوسطى والحديثة وهي فكرة تتضمن الإعلاء من النفس أو الروح وتحقير الجسم. وستتبلور بجانبها فكرة الجسم كآلة (L’homme machine) وهي الفكرة التي ستتطور في الفكر الحديث في اتجاه إعادة الاعتبار للجسم كآلة بيولوجية دقيقة. نجد بذرة لهذا التصور لدى ديكارت (في القرن 17) في «تأملات ميتافيزيقية» وهي الفكرة التي سيتبناها الطبيب الفرنسي لاميتري La metrie وسيدمجها ضمن رؤية مؤداها أن «الإنسان آلة».
وقد تبنت اتجاهات الترانس والبوست هذا التصور في اتجاه عدّ النفس معلومة (L’esprit information)(10) محمَّلة أو منطبعة على الخلايا الحية. فالمعلومات تتحرك داخل الدماغ بفضل ترابطات النويات العصبية لأن الجسم يحتاز 40 مليار وحدة عصبية Neurones تمكن من نقل الأخبار والمعلومات. يصب هذا التصور في سياق التصورات المادية المتوارثة في كل من العلم والفلسفة المثال البارز هنا هو تصور نيتشه للنفس (Ame) أو الروح (Esprit) من حيث هي عنده بمنزلة هالة (أو نكهة أو حصيلة أو أريج أو عطر) أو صدى للجسم حيث يقول: «يتعين الإقرار بأن الروح هي التشكلات أو الأصداء الحركية (gestuelle) للجسم» (هكذا تكلم زرادشت ـ الجزء الثاني) كما يقول: «منذ عرفت الجسم معرفة أحسن لم تعد الروح بالنسبة لي روحًا إلا في نطاق محدود». الجسم في هذا التصور هو بمنزلة خزان أو مستودع لكل الطاقات العقلية والوجدانية والتخيلية والروحية التي يتميز بها الجسم، وهو ما يصب في خانة النظرة الواحدية التي تضيق الفروق بين النفس والجسم إلى أقصى الحدود.
تطرح الثورة البيوتكنولوجية اليوم على الفكر الإنساني بنوعيه الحداثي والتقليدي تحديات فكرية كبرى؛ لأنها تلامس قضايا في غاية الدقة والحساسية: الطبيعة الإنسانية- الحياة- الموت- الخلود. إنها بالتأكيد موجات معرفية وتقنية جديدة تلطم كل الثقافات التقليدية وتخلخلها وتحفزها على التفكير وإعادة النظر في كثير من مسلماتها.
هوامش:
(1) في سنة 2007م قام عالم البيولوجيا الجزيئية الأميركي بتركيب كروموزوم صناعي عدَّه «خطوة فلسفية مهمة في تاريخ نوعنا البشري» أي خطوة أولى في طريق صناعة أشكال من الحياة. وفي سنة 2011م قام فنتير وفريقه بإنشاء خلية جينوم تركيبي وهو ما عُدَّ لحظة إنشائية أساسية في مجال البيولوجيا التركيبية.
(2) F. Bacon : La nouvelle Atlantide, Flammarion 2000, p133
(3) كل هذه الانتقادات مستقاة مما يروج من مواد في الشبكة العنكبوتية.
(4) Craig Vener سنة 2011 قام العالم الأميركي Craig Vener المؤسس المشارك في برنامج Synthetic Genomix في كاليفورنيا.
(5) سلوتردايك (2003) يتحدث عن «البيولوجي المدني في جلباب الفيسلوف»
(6) يمكن أن يدرج M.Besnier (فرنسا) وG.Hottois (بلجيكا) في هذا السياق.
(7) من المراجع: رضوان شقور، أستاذ الكيمياء الحيوية: تأملات في سر الحياة، الرباط 2016م.
(8) Luc Ferry, RT p
(9) Nicilas Le Devedec: la démocratie à l’epreuve du posthumain de l’himanisme au posthumanisme الشبكة العنكبوتية
(10) FARID El Moujabber: Le posthumanisme: Un epi phénomène moderne du dualisme. Ometabasis. It)
الشبكة العنكبوتية