يوميات من جحيم طوكيو مغادرة غرفة «الاعتقال» وحنين إلى رفاق السفر

لم أكن أعتقد وأنا أطأ بلاد الساموراي، أن المطاف سينتهي بي محتجزا في حجرة صغيرة، لا تتعدى مساحتها 16 متر مربع، أنتظر مصيرا مجهولا، بعدما تأكد أنني خالطت الزميل يوسف بصور، صحافي جريدة الأحداث المغربية، حيث كنا نقيم في نفس الغرفة ونقتسم الأكل والشرب، وحتى التنقل، حيث كنا إلى جنب طيلة أيامنا الأولى بالعاصمة طوكيو، في أول مهمة رسمية لي خارج المغرب.
مرت على هذا الحال عدة أيام، أبحث فيها من معلومة ولو بسيطة، تشفي غليلي، وتريح أعصابي، التي توثرت إلى حد لم أعد فيه أطيق سماع كلمة «اصبر»، لأنني أصبحت أشفق على نفسي، رغم محاولات الزملاء الصحافيين، الذين ما فتئت اتصالاتهم تخفف عزلتي، وترفع معنوياتي.

الخروج من الغرفة المظلمة

قبل أن يشد رحاله إلى المطار، في طريق عودته إلى المغرب، طلبي مني أحمد نعيم إرسال عينة من اللعاب، صباح غد الخميس، إلى المركز الإعلامي، وبعث رسالة عبر الواتساب إلى كافة الزملاء في الوفد الإعلامي، وكنا تسعة، يطلب منهم التكلف بهذه المهمة في الصباح، علما بأنه سيكون يومهم الأخير بطوكيو، بعدما قدموا موعد عودتهم إلى المغرب، على إثر حالة الارتباك النفسي، واضطراب برنامجهم بالعاصمة اليابانية، بعدما تأكدت إصابة الزميل بصور بالوباء اللعين.
تصدى لهذه المهمة النبيلة والإنسانية، الزميل محمد أمين العمري، الصحافي بيومية «لوماتان»، وفي الصباح بعث لي رسالة نصية، يؤكد فيها أنه سيمر علي في الثامنة والنصف صباحا ليأخذ العينة إلى مصلحة إجراء التحاليل بالمركز الإعلامي. وفي الوقت المتفق عليه سمعت طرقات على الباب، حملت العينة إلى الزميل العمري، وشكرته عاليا على حسه الانساني.
الحقيقة أن كل الزملاء أظهروا تضامنا كبيرا معي، وكانوا دائمي السؤال عن أحوالي، ويتسابقون لقضاء أغراضي، وأشكرهم جميعا، خاصة الزميل محمد الروحلي، قيدوم الوفد، والذي أبدى تعاطفا كبيرا معي، والزميل جمال اسطيفي، وصلاح الدين محسن وعبد القادر بلمكي، ومحمد أمين العمري ومحمد صامت، الذين لن أنسى وقفتهم الأخوية معي، وأتمنى أن أقدر على رد ولو جزء بسيط من الواجب نحوهم، فيما اختار أحد منا العزف على وتر نشاز، ولا أدري السبب، حيث لم يبادر حتى إلى السؤال عني عبر الهاتف، وهذا حز في نفسي كثيرا، خاصة خلال الأيام الأولى من المحنة، لأنني كنت في حاجة إلى أبسط أنواع الدعم، وكان الحديث الهاتفي، من الوسائل التي مكنتني من تخطي أيام «الاعتقال» على خير.
وبعدها حمل إلى الزميل محمد صامت وجمال اسطيفي وجبة الفطور، لأن إدارة الفندق رفضت التكفل بهذه الخدمة، طالما أن زملائي مازالوا متواجدين، ثم أخبرني الزميل محمد صامت أن بإمكاني تغيير الغرفة في الحال.
سلمني مفتاح الغرفة الجديدة، وكانت تحمل الرقم 901، بجوار للغرفة التي كنت أقيم بها رفقة الزميل بصور. تعجبت لهؤلاء اليابانيين، كيف لهم أن يمنعوني من تغيير الغرفة بالأمس، طالما أنني لن أنتقل لغرفتنا السابقة (902)، سيما وأنهم أكدوا أنني لم أتمكن من تغيير الغرفة، إلا بعد مرور 72 ساعة على مغادرة الزميل بصور، وبعد أن تخضع لعملية تعقيم تام وشامل.
لم أجد تفسيرا، لكن ربما أنهم كانوا يريدون أن يتأكدوا من سلامتي بشكل تام.
على أي، تناولت فطوري على عجل، وبدأت أحمل أغراضي إلى الغرفة الجديدة. كانت أوسع وأرحب. استعدت شيئا من توازني، وحمدت الله أن فك أسري، علما بأن لكل شيء مقابل هنا، حيث أخبرني الزميل نعيم، أنهم اضطروا إلى دفع 50 يورو إضافية من أجل نقلي إلى غرفة بديلة.
رحابة الغرفة مكنتني من التنقل بشيء من الحرية. لقد مشيت لعدة دقائق، وقمت ببعض الحركات، لأنني قضيت أربعة أيام ممددا على ظهري، دون أن تكون أمامي فرصة التحرك بسبب الضيق، رغم أنني حاولت في إحدى المرات المشي لفترة بممر الطابق التاسع حيث كنا نقيم، لكنني لم أعاود الكرة، لأن المكان يضج بالكاميرات، وخشيت أن أتسبب في مشكل أنا في غنى عنه، لأن التعليمات التي تلقيتها كانت تمنعني من مغادرة الغرفة.
في الغرفة الجديدة، شاهدت السماء لأول مرة منذ أربعة أيام، ووقفت أمام النافذة الموصدة هي الأخرى بإحكام شديد، بقيت لفترة طويلة أشاهد منظر الحياة عبر الزجاج.

أنا والطيف

في المساء حوالي الثالثة والنصف، سمعت طرقات على الباب، كانت للزميل جمال اسطيفي، الذي حمل إلي علبة من التمر وشيء من اللوز والجوز، وودعني، متمنيا لي عودة سريعة إلى المغرب.
بعدها بدقائق، جاءني محمد صامت، ودعني هو الآخر، بعدما بقي متسمرا في مكانه أمام الباب ينظر إلي، وكأنه يعاتب نفسه، عن رحيله وتركي هنا وحيدا، لأنه يعلم أن لغتي الانجليزية تحت الصفر، بحكم أنني درست الفرنسية والاسبانية بالمغرب، وبالكاد أتفاهم مع اليابانيين، لكن الله يخلف على الترجمة الفورية في غوغل.
وبعدهما جاءني الزميل والأخ، محمد أمين العمري، الإنسان الطيب والخلوق، والذي سعدت كثيرا بالسفر معه، وكان نعم الأخ والصديق، جاءني يحمل علبتين بلاستيكيتين، فيهما بعض الحلوى المغربية.
كان مشهد وداعه مختلفا، لأنه طبع بكثير من الحميمية، أخبرني أنه تكلم مع إدارة الفندق وطلب منهم الاهتمام بي، حيث سألهم إمكانية حمل الفطور إلي في الصباح، وكذا إمكانية استعمال المسخن، فأجابوه بإمكانية الاعتماد على نفسي بداية من الغد.
لم يكن مسموحا لي بمعانقة إخوتي في السفر والغربة، لكن نظراتنا كانت تغني عن كل شيء، كانت لحظات وداعهم مؤثرة وصعبة علي، لأنني وبداية من الآن سأعتمد على نفسي في تدبير أموري، «وخاصني نزطط راسي».
أغلقت علي باب الغرفة، وأحسست بوحدة رهيبة للغاية، إحساس لم يعادله في داخلي إلا إحساس ترك والداي في شهر شتنبر من سنة 1986، عندما كتب علي القدر ترك بيت العائلة في جماعة خميس متوح، المنطقة الدكالية الخصبة، التي لم أكن في سن الحادية عشر من العمر، أعرف غيرها هي وقيادة أولاد افرج بإقليم الجديدة، لأجد نفسي في عين السبع بالدار البيضاء، حيث احتضنني خالي وعمتي في رحلة طويلة من التحصيل العلمي.
اغرورقت عيناي بالدموع، وشعرت بوحدة ووحشة، وفراغ لا يمكن وصفه. تبعثرت أفكاري، لكني حاولت التغلب على كل هذا الأمر، فكان الهاتف أنيسي في هذه الوحدة، ربطت العديد من الاتصالات، مع زوجتي وأولادي، تحدثنا لساعات، ثم أصدقائي هنا بطوكيو، داخل اللجنة الوطنية الأولمبية والسفارة، حيث حملوا إلي بعض المأكولات، وكان من بينها سندوتش شوارما، لم أتذوقه مذ وطئت قدماي طوكيو.
أخبرني عصام برينسي، المسؤول بالسفارة، والذي أشكره بالمناسبة، رفقة إسماعيل علوي، دينامو الفريق الطبي باللجنة الأولمبية المغربية، حيث تحدثت إليهما مطولا، فتخلصت من هذا الإحساس الرهيب، لكن مع ذلك بقي طيف زملائي حاضرا معي.
أتذكر مستملحاتنا أمام باب الفندق، الذي كان مكاننا المفضل للهروب من «خنقة» الغرف، كنا نتبادل أطراف الحديث والضحك، إلى حد أصبح فيه بعض الصحافيين الأجانب يتسابقون معنا عليه.
أتذكر جولاتي مع نعيم وبصور وصامت ومحسن بحثا عن الأطعمة الحلال. حننت إلى قهوة صامت، التي كانت عبارة عن مشروب مختلط الأذواق، أوهمني يوم حفل الافتتاح على أنها قهوة، فخرجت رفقته لأشتريها، وكان ثمنها يعادل 50 درهما مغربية، لكني عند فتحها وجدتها باردة جدا، ومذاقها غريب. فقد كانت عبارة عن مزيج من القهوة والشكولاته والحليب وذاقات أخرى، ما جعلني أجد صعوبة في تصنيفها، فأطلقت عليها على الفور «قهوة صامت».
تذكرت عودتنا الجماعية من المركز الإعلامي، تذكرت أول منبه نسمعه بطوكيو، وكان على الزميل بلمكي، لأننا كنا نمشي جماعة، وحصل أن كان يسير هو فوق الشارع، وعلى الجهة اليسار. ولأن السياقة باليابان هي على الطريقة الانحليزية، وهو ما كنا نجهله في أيامنا الأولى، سمعنا صوت منبه ضخم لإحدى السيارات القادمة من الجهة المقابلة، استغرب سائقها سير الزميل بلمكي في الاتجاه الخطأ. ضحكنا كثيرا، لأنه كان أول وآخرمنبه صوت نسمعه بالعاصمة طوكيو.
كانت لحظات جميلة، تذكرها في هذه الوحدة قلب توازني، لكن ما باليد حيلة، لأن علي انتظار نتيجة التحاليل، وضغط البعثة المغربية والسفارة، ووراءهما وزارة الشباب والرياضة، حسب ما أكد لي مدير الرياضة محمد حميمز، في اتصاله الهاتفي معي، حيث قال إنه ترك نجيب عاريف الموظف بالوزارة بالقرية الأولمبية وهو أيضا يتابع وضعي.

هاجس الانتحار

قبل الخلود إلى النوم أخذت حماما دافئا، وشعرت بنوع من الراحة، ثم ربطت الاتصال من جديد بزوجتي التي ارتفعت درجة القلق عندها بعدما أخبرتها بتفاصيل ما أمر به، فكانت مهاتفتها وسماع صوت أولادي يمنحني بعض الطاقة الإيجابية في هذا المقام غير السعيد. طال حديثنا، سألت فيه عن الأحوال ومعرفة إن كانوا في حاجة إلى شيء. ثم خلدت إلى النوم.
استيقظت في الخامسة صباحا، علما بأنني لم أنم إلا في حدود الواحدة صباحا. وجدت صعوبة كبيرة في النوم بسبب الحرارة المفرطة، لأنني لم أشغل مكيف الهواء، فتعرقت كثيرا، إلى درجة ابتلت فيها ملابسي. حتى المخدة غيرتها بسبب العرق الشديد. استعنت بفوطة ورحت أمسح وجهي وعنقي ورأسي.
في حدود الثامنة صباحا غادرت الفراش، غسلت وجهي وقصدت المطعم، وكانت المرة الأولى التي غادرت فيها غرفتي، بعدما حصلت على موافقة في هذا الشأن. استقبلني العاملون بالفندق، كما هي عادتهم دائما بالابتسامة والتحية، لكن أحد العاملين بالفندق كان يراقبني خفية، حيث وجدت أنه تبعني إلى داخل المطعم يراقب ما أنا فاعله.
أخذت قفازين بلاستيكين، بدأت أجمع ما أريد وأضعه فوق مائدة متواجدة بالقرب مني. كان صاحبنا يتحجج بأي شيء كي يراقب تصرفاتي، أخذت القهوة أيضا وصعدت إلى غرفتي دون أن يحدثني، واكتفى بإحناء رأسه.
تناولت فطوري، ثم قررت أن أطلب فتح النافذة الموصدة. لم يكمن بإمكاني استعمال الهاتف، لأنني لأجيد الحديث بالانجليزية، وعمال الاستقبالات لا يفهمون غيرها واللغة اليابانية الأم، فقررت النزول من جديد والذهاب إلى الاستقبالات، لا أخفيكم سرا أنني انتهزتها فرصة للخروج من سجني. قلت لسيدة تعمل هناك، كانت تغطي معظم وجهها بكمامة، وترتدي قفازين بلاستيكيين في يديها، بعدما استعنت بالترجمة الفورية، التي يتيحها غوغل، أني في حاجة إلى فتح نافذة الغرفة. طلبت مني العودة إلى غرفتي وانتظار قدوم مختص في هذا الأمر، لكنه عجز عن فتحها رغم محاولته الجدية، لأنها كانت مغلقة بشكل محكم.
طلب مني تشغيل مكيف الهواء، وقام بالأمر بنفسه، لأتلقى بعدها اتصالا هاتفيا من عاملة الاستقبالات. لم أفهم من كلماتها شيئا غير كلمة تغييغوغ،نزلت إليها من جديد وسألتها ما الأمر. سلمتني ورقة مكتوبة بالاسبانية مفادها أن بإمكاني الانتقال إلى غرفة جديدة بداية من الثانية بعد الزوال. سألتها عن السبب فأجابتني بنفس الطريقة بأن الغرفة الجديدة بها نافذة يمكن أن تفتح.
علمت بعدها أن إغلاق النوافذ باليابان، ولاسيما بالفنادق، إجراء احترازي، بسبب ارتفاع معدلات الانتحار في مجتمع الساموراي، ولاسيما في صفوف الشباب.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد المنتحرين في صفوف اليابانيين، خلال سنة 2020، بلغ 20919، بزيادة 750 شخصا عن إحصائيات 2019، بسبب عدم الأمان الوظيفي، وزيادة الأعباء المرتبطة برعاية الأبناء، فضلا عن تداعيات فيروس كورونا، وما رافقها من انعدام اليقين بشأن المستقبل، وعزلة إجبارية أفضت إلى زيادة معدلات الاكتئاب والاضطراب النفسي.


الكاتب : طوكيو: إبراهيم العماري

  

بتاريخ : 07/08/2021

أخبار مرتبطة

أكثر من 30 سوقا بلدية موزعة على تراب مقاطعات جماعة الدارالبيضاء لا تجني منها إلا الفتات بسبب سوء تدبيرها، وبحسب

أعلنت شركة “إكسلينكس فيرست”، أمس الثلاثاء، أن الشركة العالمية المتخصصة في الطاقة ” GE Vernova ” استثمرت 10.2 ملايين دولار

لا تزال أثمنة اللحوم الحمراء تسجل ارتفاعا ملحوظا وصل أرقاما قياسية أثرت بشكل كبير على جيوب الناس وأثقلت كاهلهم، ولم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *