بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.
حين غادرتُ قاعةَ الجلسات العامة (l’hémicyle) حيث انْتُخِبْتُ رئيسًا لمجلس النواب في المملكة المغربية، وفي المَمْشَى القصير إلى مكتب الرئاسة، مكتبي الذي سأقضي فيه فترة من العُمْر ومن مساري السياسي والنضالي، لَفَتَ انتباهي “المخزني” الذي كان يرافقني وأنا أعْبُر الممر مع بعض الإِخوة والزملاء الذين كانوا يغمرونني بالتهاني والمحبة، وسرعان ما امتلأ المكتب بهم. وكان “المخزني” مع زميلَيْن آخَريْن له وَاقِفِين على باب المكتب ينظمون الدخول والاستقبال في مشهد بروتوكولي ناعم ورمزي.
“المخزني” في الإدارة المغربية هو رَجُل أمن بلدي من أفراد القوات المساعدة ؛ وهو أيضًا الاسم الذي يطلق على كل مَن يشتغل عَوْنًا من أَعوان الخدمة في “دار المخزن”، أي في القصر الملكي. وعادةً ما يرتدي لباسًا تقليديًّا مغربيًّا أبيض ويَعْتَمِرُ شاشيةً حمراء أو طربوشًا أحمر، ويؤدي غالبًا مَهَمَّةً بروتوكولية أو عملًا من الأعمال الإِدارية الروتينية. وحسب عِلْمي، إِذْ سَأَلْتُ عن الأَمر وأُخْبِرتُ، فإِن البرلمان المغربي حين انطلق في نسخته التأسيسية الأولى غير المُنْتَخَبة (1956-1959) وحتى في نسخته المُنْتَخَبة (1963-1965)، لم يكن هناك سوى أعوان إِداريين عاديين يمارسون مهام الاستقبال والخدمات الإدارية اليومية إِلى أن انطلقت الولاية التشريعية الثالثة سنة 1970 خلال رئاسة الرئيس الراحل الأستاذ عبد الهادي بوطالب رحمه الله، فتفضل جلالة الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله بإِرسال عشرة عناصر من “المخازنية” العاملين داخل القصر الملكي للعمل البروتوكولي والإداري داخل البرلمان، وذلك حرصًا من جلالته رحمه الله على إِضفاء الهيبة وتنظيم الخدمات داخل الجلسات العامة أو خلال اجتماعات مكتب المجلس أو السهر على استقبالات الرئاسة بما يليق من سلاسة ونظامية، وبالخصوص صيانة المَرَاتب والاعتبارات.
من أولئك “المخازنية” العشرة لم أجد منهم أمامي سِوَى عنصر واحد، الحاج الجيلالي بلمقدم (من مواليد 1950 بالرباط)، وإلى جانبه زَميلَاه : الحاج أحمد الزَّرُّوقي (من مواليد سنة 1954 بوَزَّان) والذي التحق بالعمل داخل البرلمان سنة 1978 خلال رئاسة المرحوم الرئيس الدَّايْ ولد سِيدِي بَابَا، والحاج إِسماعيل عَزُّو (من مواليد سنة 1953 بسلا)، والذي التحق بالعمل سنة 1984 خلال ولاية الرئيس الأستاذ أحمد عصمان. وإِلى جانب ما غَمَرَني به هؤلاء “المخازنية” خلال تحمُّلي مهامي في رئاسة المجلس من تقدير وأداء وحضور وتعاون وخدمة، فإِنهم يتوفرون على ذاكرة خصبة، ولهم الكثير من الذكريات التي تراكمت لديهم خلال مراحل العمل داخل البرلمان، مع رؤساء مختلفين وبرلمانيين من مرجعيات متعددة، ومع مسؤولين من صفوف ومراتب مختلفة. وهو ما قد يكون مفيدًا جدًّا بالنسبة لمؤرخ أو باحث مهتم بتاريخ العمل البرلماني أو بالممارسة البروتوكولية داخل المؤسسة التشريعية في المغرب.
ونظرًا لعامل السِّنِّ وحتمية التقاعد، فكَّرتُ في ضمان استمرارية هذه الوظيفة الإدارية والبروتوكولية، والعمل على توظيف مفوضي جلسات (هكذا أصبحت التسمية الإدارية الجديدة لهذه الوظيفة)، وذلك على أساس توارُث آداب وتقاليد هذه الوظيفة المخزنية طبقًا للأصول والتراكمات الإِيجابية التي تحققت.
ومع أن مثل هذا الأَمر قد يبدو جزئيًّا وشَكْليًّا، وقد يبدو من قبيل التَّرَف والأُبَّهَة بالنسبة إلى البعض، لكنني وَجَدتُه أمامي ولمستُ قيمتَه وأهميته وجَدْوَاه في أداء عمل الرئاسة، وفي إِضفاء صورة بروتوكولية لها أبعادها الوظيفية والرمزية والجمالية، مما كان في عدة مناسبات مَثَارَ انتباه واهتمام وتعليق بعض الضيوف الكبار الذين حَلُّوا بين ظهرانينا في مجلس النواب.
وسَأُولي الاهتمام نَفْسَه لتفصيل صغير آخر، وهو شَكْلُ لباس القَيِّمِين على تقديم الشاي إلى ضُيُوفِنا من داخل المغرب وخارجه، ونوعية الأَدوات وجودة المواد التي يستعملونها في مَهَمَّتِهِم اليومية النَّبيلة داخل ديوان الرئاسة. وكان هذا دَأَبي دائمًا في مختلف المواقع التي تحملتُ فيها المسؤولية. والشيء نفسه قمتُ به من حيث الحرص على لباس جميع الأعوان العاملين في المجلس، سواء من موظفينا الرسميين أو من مستخدمي شركات الخدمات الخصوصية المعتَمَدة لدى المجلس. ليس المَظْهَر بالنسبة إِليَّ شيئًا زائدًا بل يعبّر عن قيمة مُعَيَّنة، وعن صورة مُعَيَّنة كذلك.
وفي الإطار ذَاتِهِ،سَعَيْتُ إلى إعادة تنظيم مديرية العلاقات الخارجية والتعاون، انطلاقا من الممارسات الجيدة في البرلمانات الدولية والمنظمات البرلمانية الإقليمية والدولية، وذلك بإحداث قسم للتشريفات والمهام كوحدة إدارية تتولى دعم ومواكبة أعضاء مجلس النواب قصد التحضير للمشاركة في مختلف اللقاءات والمؤتمرات والمنتديات، وذلك من حيث التتبعُ الشخصي لمراحل إعداد ومواكبة مختلف المؤتمرات والملتقيات البرلمانية التي احتضنها مجلس النواب؛ السهر على تتبع تنظيم مختلف الأنشطة التحضيرية المتعلقة بالتشريفات والاستقبال وتنفيذ برامج الزيارات التي تقوم بها الوفود البرلمانية إلى مجلس النواب؛ الحرص على تتبع وتنفيذ الإطار العملي للتشريفات والمهام في مختلف اللقاءات والتظاهرات والمؤتمرات البرلمانية التي نظمها المجلس.
وحرصتُ أيضًا على تقديم جميع الخدمات المتعلقة بالتشريفات والزيارات والاستقبالات وفق أرقى المعايير، وبما يعطي صورة مشرفة ويترك انطباعًا جيدًا لدى ضيوف المجلس من جهة، وبما يخدم كافة النائبات والنواب وأعضاء المجلس من جهة أخرى، ويتعلق الأمر أساسا بالأعمال والخدمات
التالية :
تجويد ترتيبات الزيارات الرسمية لرئيس مجلس النواب والاستقبالات التي يقوم بها، وتنظيم البروتوكول في المناسبات الرسمية والتظاهرات التي يحتضنها مجلس النواب والإعداد الجيد لفضاءات إقامتها، وذلك بتنسيق مع المصالح والجهات المعنية، ويأتي في مقدمتها أنشطة التشريفات المتعلقة بافتتاح دورة أكتوبر من كل سنة التي يرأس افتتاحها جلالة الملك حفظه الله.
تخصيص استقبالات جيدة للوفود البرلمانية وللشخصيات الرسمية التي تزور بلادنا، سواء في المطارات أو في مقر مجلس النواب، وترتيب وتنظيم وتنفيذ برامج الزيارات التي تخصص لهم، والإعداد اللوجستي لذلك؛
المؤازرة البروتوكولية والقيام بالإجراءات بالمطارات عند الوصول والمغادرة بالنسبة إلى النائبات والنواب أعضاء المكتب ورؤساء الفرق ورؤساء اللجن الدائمة، وذلك بتنسيق وثيق مع الإدارة العامة للمكتب الوطني للمطارات ومدراء المطارات المعنية؛
وحرصا على ضمان النجاح الكامل للمهام الدبلوماسية لمجلس النواب، وترسيخ صورة مشرفة للاستقبالات التي ينظمها المجلس، عقدتُ لقاءً مع المدير العام للمكتب الوطني للمطارات، من أجل تيسير عملية استقبال الوفود البرلمانية بالمطارات وتجويد الإجراءات البروتوكولية ذات الصلة، كما راسلتُ كلًّا من مدير مطار محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء، ومدير مطار الرباط-سلا الدولي في الموضوع. وسُجِّلَ تبعًا لذلك تطورٌ ملحوظٌ، انعكس على مستوى إجراءات عملية استقبال الوفود التي تزور بلادنا. كما شَهِدتِ التدابيرُ والإجراءاتُ البروتوكولية لاستقبال رؤساء البرلمانات والاتحادات البرلمانية وكبار الشخصيات، تطورا ملموسا بالنسبة إلى فضاءات تنظيمها وعلى مستوى مضمونها. وهي جوانب تفصيلية بالتأكيد، لكنها ليست جزئيةً أو ثانوية، وإنما تندرج في صُلْب العمل البرلماني وتُجَوِّدُ صورةَ البرلمان المغربي بل صورة المغرب في أعين ضيوفه والوافدين عليه.
وأعتبر شخصيًّا أن المَظْهَر أو الشَّكْلَ هو الوَجْهُ الآخر للمَعْنَى، ولحقيقة المؤسسة وطبيعتها ونَهْجِها ورُوحها المميزة. الشَّكْلُ بالنسبة إِليَّ ليس مجردَ تفصيلٍ (والشياطين تقيم في التفاصيل، كما يقال) بل هو جزء من العمل، ومن فضاء العمل. وفي هذا السياق، كان عليَّ أن أنتبه كذلك إلى بناية المجلس التي لها تاريخٌ مثلما تُعْتَبرُ جزءًا من تراثنا المعماري الحديث. وهكذا، فمثلما حرصتُ في الأيام الأولى على التَّعرُّف على الموظفين والموظفات واللقاء معهم، وعلى الهياكل الإدارية التي كان معظمها شاغرًا على مستوى المديرين ورؤساء الأقسام ورؤساء المصالح، حرصتُ كذلك على أَنْ أقوم بِتَفَقُّدِ جميع الفضاءات الداخلية، القديمة منها أو الجديدة أو التي كانت تعرف بعض الترميم، وطلبتُ إِزالة ما بَدَا لي أنه يَمَسُّ بروح البناية وبفضائها الداخلي. وأَجْرَيْنا تعديلًا في الواجهة الخارجية للبرلمان بإِثباتِ اسْمِ المؤسسة باللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية يتوسطها تَاجُ المملكة. كما أوليتُ اهتمامًا خاصًّا للمجموعة الفنية للمجلس التي وجدتُها أمامي، فاستبعدتُ الصور الفوتوغرافية “الفولكلورية” التي كانت تغطي جدران المؤسسة في مختلف ممراتها وأبهائها الداخلية، وذلك لِتَقَادُمها أو لعدم صلاحية مَشَاهِدِها مع طبيعة المؤسسة التشريعية أو لضعفها الفني والجمالي الواضح. ثم فكرتُ في حِينِه في السَّعْي إِلى إِغناء المجموعة الفنية بمزيد من الأَعمال الفنية انسجامًا مع الرؤية الثقافية والفنية المغربية وسَيْرًا على عادة المؤسسات البرلمانية الكبرى والمحترمة في العالم.
إن فضاء مجلس النواب (البرلمان بصفة عامة) هو أحد أمكنة الديموقراطية، كما سَبَقَت الإِشارة، وبالتالي فهو أحد أروقة ممارسة السلطة في البلاد. الإِنجليز لديهم تسمية جميلة (The corridors of power) لمثل هذه الأمكنة الرمزية السامية في نظام الدولة، وللأسف تتم ترجمتها إِلى العربية وحتى إلى الفرنسية ترجمةً غير دقيقة، أي “كواليس السلطة” (Les coulisses du pouvoir)، إِذْ مباشرة ينتقل المَعْنَى من صورةٍ للممرات المفتوحة إِلى صورةٍ للانغلاق وأَبْعَدَ ما تكونُ عن الشفافية، وتتخذ طابع الغموض والسرية والتعتيم ؛ والحال أن الفضاء البرلماني مَنْذُورٌ للانفتاح والوضوح والعمومية لأن الديموقراطية، بالتعريف والتحديد، ينبغي أَنْ تُمارَسَ في فضاءٍ أقَلِّ انغلاقًا ومفتوحٍ على الرأي العام، وعلى الصحافة، وعلى المراقبين والملاحظين، سواء كان هذا الانفتاح مباشرًا أو من خلال التَّوَسُّطات التواصلية والإعلامية المتاحة.
وللإشارة، فإِن البناية الحالية لمجلس النواب كانت قد شُيِّدَت في عشرينيات القرن العشرين خلال مرحلة الحماية الفرنسية، وانطلق ورش بنائها في عهد السلطان مولاي يوسف، ثم تَوَاصل على عهد السلطان محمد بن يوسف (المغفور له محمد الخامس)، وذلك لتكون قصرًا للعدالة (محكمة الاستئناف بالمغرب آنذاك). ودُشِّنَتْ في ثاني أبريل 1932، كما نَعْلَم.
تاريخيًّا، يندرج مشروع إِنشاء هذه البناية ضمن مشروع عمراني معماري أشرف عليه المقيم العام الفرنسي الماريشال هوبير ليوطي (1854-1934)، وذلك ضمن رؤية كولونيالية لإنشاء مدن أو أحياء جديدة انطلقت مع بدايات نظام الحماية الفرنسية في الرباط والدار البيضاء وفاس ومكناس ومراكش والقنيطرة… وغيرها. وحسب المؤرخين والمهتمين بتاريخ العمارة المغربية المعاصرة والحديثة، فإن الماريشال الذي تَحكَّم في الحياة المغربية في الفترة ما بين سَنَتَيْ 1912 و1925 إن كان قد نجح في ميدان أكثر من غيره من الميادين، فقد نجحت خططه في حقل التعمير بالذات. لقد أنشأ مصلحة خاصة بالتعمير سارعت إلى وضع القوانين والهياكل والإِدارات اللازمة للشروع في تنفيذ تصوره. كما استجلب عددًا من كبار المهندسين المعماريين الفرنسيين وعلى رأسهم هنري بروست (Henri Prost) الذي أشرف على وضع التصاميم المديرية، واختط عمليًّا سياسة كولونيالية للبناء والترميم، والمحافظة على المدن العتيقة، وتنظيم أقسام مختصة في البلديات الناشئة تهتم بالتخطيط الحضري ومراقبة المجال بكل أبعاده العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والصحية.