رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..
عندما طلبت مني النقابة المغربية للفنانين التشكيليين تقديم مداخلة حول الأنوار لم أتردد لحظة واحدة لا في قبول الاقتراح ولا في فهم المقصود المزدوج من الحديث عن الأنوار. فالفنانون التشكيليون يسحرهم الضوء والألوان والأنوار. والسحر هنا بمعنى الانجذاب، والافتتان، أي بين بعدين أولهما فيزيائي وكيميائي والثاني روحي وسيكولوجي، أضفْ إليهما البعد الفلسفي المتمثل في الانبهار بالعقل كمصدر لنور أو لأنوار المعرفة. كنا نظن أن الفلاسفة وحدهم هم المهووسون بالأنوار لكنْ شغف بل هوس التشكيليين لا يقل حدة عن هوس الفلاسفة إنْ لم يَفُقْهُ هيامًا. ولعل هذا الشغف الثنائي هو على الأقل ما يبرر عقد القران هذا بين الأنوار التشكيلية والأنوار الفلسفية.
هكذا نطل على شسوع الدلالات المختلفة لمصطلح أو لموضوع الأنوار. فهي نقطة التقاء مجموعة كبرى من المعارف ومن الممارسات الإنسانية، أنوار الإيمان والأنوار الروحية أو الصوفية، أنوار العقل من حيث هو ضوء تسلطه المعرفة الإنسانية على كل الموجودات والموضوعات، أضف إلى ذلك الدلالات الفلسفية الخاصة التي ارتبطت بها فلسفة الأنوار أو عقل الأنوار أو مرحلة الأنوار. أنوار الروح وأنوار العقل هل يجتمعان؟ هل يتعايشان؟ أولهما مبني على الاعتقادات والمسلَّمات والغيبيات، في حين أن أنوار العقل قوامها التساؤل والتشكك ونقص البديهيات ومساءلة المسلمات. أنوار العقل قلقة ومتوجسة وكشافة، في حين أن أنوار الروح تقوم على السكينة والقناعة والطمأنينة والاكتفاء.
ارتبطت مسألة النور والأنوار إذن بتاريخ الفلسفة، وعندما نختار مصطلح النور بدل الضوء فالمقصود بذلك هو إبراز الفرق بين مصطلحي الضوء والنور. فالأول هو أقرب إلى كونه مصطلحًا فيزيائيًّا يدل على انبعاث أشعة ضوئية من نقطة مكانية ما وانعكاسها على أرجاء المكان بحيث ينتج عنها تمايزات إدراكية واضحة بين عناصر ومكونات هذا الفضاء. ولعل القول الفصل في موضوع الضوء يعود إلى الفيزياء وبالضبط إلى علم الكهرباء. وقد ارتبط الضوء أو النور منذ القديم إلى اليوم بملمح سحري وجذاب لم يتخلَّ عنه حتى وهو محط تحليل وتشريح فيزيائي وكيميائي.
فالضوء من منظور الفيزياء الحديثة هو حزمة من الأشعة أو الإشعاعات الصادرة من بؤرة ضوئية ما طبيعية أو اصطناعية. وهذه الأشعة تنتشر على شكل بلورات أو جسيمات أي بطريقة corpusculaire جسمية أي على شكل تموجات وتيارات، أو كما يقال في نظريات الضوء بطريقة تموجية ondulatoire أو بهما معًا، أو بطريقة كهرومغناطيسية.
المقاربة العلمية للضوء أبرزت أبعاده الكمية القابلة للقياس calculable: الجسيمات – الأمواج – التيار – الدائرة الكهربائية – الشدة – التردد. لكنها لم تلج سحره وسحريته وخصوصيته وانتماءه الجزئي أو الكلي للعالم المضاد له، أي عالم الغموض والخوارق. دلالات ثورة الكهرباء هي طرده الساحرات والكائنات المعششة في الظلام والبراغيث السوداء، والخنافيش…. وأنارت حيزاتها وأمكنتها لكنها خلقت لنا الفوتون والإلكترون… وهي بالنسبة لنا كائنات شبه غيبية لا مرئية أشبه ما تكون ببراغيث الظلام، وإن كانت بالنسبة للعلوم الفيزيائية كائنات قابلة للقياس والعد وللتحديد المكاني والزماني والوتيرة والتردد. وقد سبق لهيدغر أن أشار إلى اسم إشعال الضوء بالضغط على زر هو فعل لا يقل سحرية عن سابقه. وفي المقابل فقد حافظ النور أو الضوء على سمته الرمزية التي ارتبط بها منذ الحضارات القديمة، ومنها ارتباط الضوء إما بالإيمان أو بالمعرفة أو بالحقيقة.
فالاستعارة الضوئية مشتركة بين كل الثقافات والحضارات كما أنها حاضرة في كل ثقافة على حدة، إلا أن هذه الاستعارة Métaphore ظلت لصيقةً بشكل قوي بالتيارات الفكرية والأدبية والفنية التي سادت أوربا في القرن الثامن عشر والتي ربطت عن قصد ووعي النورَ بالعقل والمعرفة ورجحت أنوار العقل على أنوار الروح.
الأنوار أو عصر العقل
يطلق اسم الأنوار على مجموعة من التيارات الفلسفية والأدبية والفنية ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، ويطلق عليها كذلك اسم عصر العقل. وقد تنوعت هذه التيارات الفكرية حسب البيئات الثقافية المحلية مما جعل مؤرخي الفكر يميزون بين الأنوار الفرنسية والأنوار الألمانية والأنوار الإنجليزية والأنوار الإسبانية أو الأنوار الإيطالية والأنوار البرتغالية والأنوار الأميركية والهاسكالا اليهودية.
ورغم تنوع هذه التيارات وتعددها فإن مؤرخي الفكر يتحدثون عن القواسم المشتركة التي تجمع بين هذه التيارات، سواء من حيث القضايا الفكرية أو من حيث نوع المواقف التي تتبناها بصددها:
– نقد السلطتين الدينية والسياسية.
– الرفع من شأن العقل والدعوة إلى استعماله بقوة في كل المجالات الإنسانية.
– إعمال النقد باعتباره وظيفة عضوية للعقل، وهذا النقد يعني الاستعمال الفعلي الأقصى للعقل وإلى اليقظة والخروج من السبات الدوغمائي.
– الإيمان بالتسامح بين المعتقدات والآراء والأعراف والمذاهب المختلفة.
– التمسك بنزعة إنسانية كلية معرفية وأخلاقية.
– إيلاء الأولوية للعلم وللأفكار العلمية ولمهمة إشاعة العلم والمعرفة العلمية.
هي إذن تيارات فكرية وثقافية قوية، الجامع بينها هو التمرد وانتقاد التقاليد وسُلَط التقليد والأحكام المسبقة وسطوة السلطة السياسية والدينية وتحالفهما، والدعوة إلى الاستعمال الأقصى للعقل في المجال العمومي وإلى نقد الذات بوصفها تستمرئ هذه السلط ولا تتحمل المسؤولية الفردية في مقاومتها والتكتل ضدها، وهذه الأفكار سنجد أصداء متفاوتة لها في الأيديولوجيا المؤطرة للثورة الفرنسية 1789م.
وقد تقاسمت مجموعة كبيرة ومتعددة من الأدباء والفنانين والفلاسفة والعلماء العديد من هذه الأفكار بدرجات متفاوتة وهو ما أضفى على العصر (القرن الثامن عشر) صبغة أيديولوجية متقاربة، قوامها: محاربة السلط العتيقة الدينية والسياسية، ونقد الأفكار المترسبة التي تتحول إلى قيود في التفكير، والاعتقاد أن في الإمكان تحقيق أحسن مما كان أي الاعتقاد الراسخ في مقولة التقدم، وما لازمها من دعوات إلى تبني الروح الكونية والتسامح وطبع فكرها لقدر من التفاؤل.
ولأن هذا التفاوت الذي خلق ما أطلق عليه «روح الأنوار» التطابق التام بين المشاريع الفردية. فدافيد هيوم (Hume 1776 -1711) والمدرسة الإنجليزية عمومًا ارتبطوا بالنزعة التجريبية وركزوا على فكرة أن المعرفة العلمية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر التجربة وليس عن طريق الأفكار العقلية المسبقة.
أما جان جاك رسو (1712-1778م) فقد ارتبط بالدفاع عن فكرة المساواة بين كل الكائنات الإنسانية وبشَّر بالديمقراطية وإقامة العقد الاجتماعي، وألح على ضرورة التربية في إعداد الإنسان وتهيئته للتطور والتقدم، واستنكر وأدان التراتبية المجتمعية. هذا بينما يؤكد كانط (1804-1724م) أن العقل والعقل النقدي خاصة هو أهم ميزة للإنسان، وأنه هو الأداة المثلى للتفكير والطريق الأكيدة للمعرفة، وأن الأنوار هي خروج الإنسان فردًا ونوعًا من دائرة الخضوع إلى دائرة استعمال العقل. يُعَدُّ فولتير عنوانًا بارزًا لهذا التيار الفكري؛ بسبب راديكاليته الفكرية المتمثلة في الدفاع عن فكرة التسامح الكوني، وإدانة كل أشكال التعصب والتحجر والعبودية والسحر والحرب.
أكتفي هنا بشهادة Michel onfray في مجلة magazine de philosophie- في رجل الأنوار العظيم الذي كثيرًا ما يتم تناسيه هو كوندورسيه لانه، رجل ميال للتربية الشعبية، وهو مؤمن حقيقي بقضيته ومدافع شرس عنها، فقد ناهض حكم الإعدام ورفض العنف، وأنتج أفكارًا تنويرية واقعية، وناهض العبودية.
من أبرز الأنواريين كذلك مونتيسكيو، وهو من أهم المفكرين الذين وضعوا الأسس الفكرية للحداثة السياسية المتمثلة في المبدأ الأساسي الذي دافع عنه مونتيسكيو، وهو الفصل بين السلط المختلفة التي تشكل هيكل الدولة: الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، كما عُرف بانتقاده للسلطة الملكية المطلقة والمتعسفة.
أختم هذا الجزء المتعلق بعرض مكونات الأنوار بأكبر محاولة لفهمها وتصنيفها فلسفيًّا وهي مقال كانط «ما الأنوار»: «الأنوار هي تحرر (خروج) الإنسان من قصوره (أو عدم نضجه) الذي هو نفسه مسؤول عنه.
القصور هو عدم القدرة على استعمال أو استخدام العقل (أو الذهن) من دون الاعتماد على قيادة أو توجيه الآخرين.
هذا القصور هو صفة راجحة للإنسان (= الفرد) ذاته ليس بسبب افتقاد العقل بل بسبب افتقاد القرار، والقدرة على استعمال العقل من دون اللجوء إلى الاقتياد والاستعانة بالآخرين.
اجرؤ على المعرفة
إن شعار الأنوار هو Saper aude: اجرؤ على المعرفة لتكن لديك الشجاعة على استخدام ذهنك الخاص (أو ذكائك الخاص). ومع ذلك فإن كانط لم يتخذ موقفًا صلبًا وصادمًا تجاه هذه السلط؛ إذ إنه ميز بين الاستعمال الخصوصي للعقل والاستعمال العمومي. تعرضت الأنوار لانتقادات عديدة داخلية وخارجية. فقد كانت هدفًا للعديد من الاتجاهات نذكر منها الحركة الرومانسية أو الفكر الرومانسي في ألمانيا الذي تميز بتقربه من الكاثوليكية، ورفض النزعتين الثورية والمهدوية أو الرسولية، والدفاع عن الاستقرار، ونقد النزاعات العدمية ونقد فكرة التقدم على أن منطقه هو المنطق الميكانيكي الشكلي للتقدم الحالي.
كما عبرت الرومانسية عن رؤية مثالية وحنائنية للعلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة قبل حلول العصر الحديث، وكذا استلهام مسيحية محافظة بعيدة من أي فكر نقدي. في هذا الصدد نذكر سجالات الفيلسوف الألماني Shelling دروس ميونيخيه (1837م) ضد العقلية الهيغيلية ممجدًا في الوقت نفسه القوى والمنابع اللاعقلانية للأفكار، وهي الأفكار التي رُسِّختْ نهاية القرن في أوربا (Encyclopédie 1442).
وهذه الأفكار ستُتَبنَّى جزئيًّا أو كليًّا من طرف الاتجاهات الأدبية والفلسفية والجمالية المناهضة للحداثة أو المضادة لها. يرى لوك فيري في كتابه«Les plus belles histoires de la philosophie» Robert Laffont 2014. أن النقد الرومانتيكي للرومانسية هو على وجه العموم مجموع التيارات الأدبية والفكرية المرتبطة بالحاضر والماضي التي تتبنى تصورًا مثاليًّا وحنينيًّا Nostalgique للعلاقات الاجتماعية التي كانت موجودة قبل حلول العصور الحديثة.
عرفت الحركة الرومانسية تطورًا كبيرًا، وهو ما يميزها بين حقبتين زمنيتين متباينتين، تتميز إحدهما بنزعة ثورية وهو ما ينعكس على تنوع تيارات بين الرومانسية المسيحية والرومانسية الفلسفية والرومانسية.
اتسمت الحركة الرومانسية بنزعة محافظة قوية تقوم على تمجيد القوى والأبعاد اللاعقلانية في الحياة وبأبعادها الليليةEncyclopédie de la philosophie. Paris 2002 p 1442.
وقد شكلت النزعة الرومانسية فكرًا مناهضًا للأنوار، ومنها استلهمت العديد من الاتجاهات المضادة للثورة وللأنوار وللحداثة ثقافتها وفكرها. يمكن إجمال هذه الأفكار والتوجهات ذات النكهة الرومانسية سواء في الأدب أو الفن أو الفلسفة في نقد النزعة الكونية وعدّها مجرد زعم أو وهم، ونقد النزعة العقلانية في فهم التاريخ التي تقوم على مبدأ العلية، ونقد فكرة التقدم، ونقد الحداثة ذاتها كما نجد لدى نيتشه وهايدغر، وكذا إعادة الاعتبار للتقليد وللأحكام المسبقة كما لدى الفيلسوف الألماني جورج غادامير، وهذا مؤشر قوي يدل على مدى حيوية الفكر الغربي كما تمثلها اختلافاته الجوهرية وحِدَّة نقاشاته الداخلية. فالأنوار متعددة ومتنوعة وهي مستمرة حتى الآن.
أشكال النقد التي وجهت للأنوار يمكن إجمالها في:
1. النقد ضد الثوري والرومانسي للأنوار يندرج في سياقه نقد الحضارة وLe lux من طرف روسو، والنقد السياسي للثورة Burke وRehberg الذي يجد امتداده في الفلسفة الألمانية المعاصرة في فكر غادامير رائد الدفاع عن التقليد والأحكام المسبقة.
2. النقد الأنثروبولوجي القائم على نقد فكرة الكونية وإبراز نزعة «فروقية» Différentialisme ونسبوية ترى أن لكل ثقافة ولكل مجتمع ثقافته الخاصة وقيمه الخاصة ولا مجال للمفاضلة بينها، وهي التحليلات التي تقدمها لنا الأنثروبولوجيا البنيوية (كلود ليفي ستروس).
3. نقد فكرة الاعتقاد في التقدم، وهذه الفكرة محورية في فكر مدرسة فرانكفورت، التي ترى أن العقلانية التقنية، التي كانت الأنوار تعدها الوسيلة الأساس لتحقيق التقدم الاجتماعي للناس وتفتح لهم الطريق نحو السعادة بتحريرهم من الحتميات الطبيعية، ارتدت ضد ذاتها وبدل أن تحرر الناس ضاعفت خضوعهم لقوانين مجهولة وللتحكم والمراقبة فأصبحوا أقرب إلى أن يكونوا مجرد أشياء. وتحولت وفي نطاقها ظهرت أنظمة شمولية مهولة مثل النظام النازي والنظام الشيوعي، كما أنها هي ذاتها (الأنوار) تحولت إلى ميثولوجيا تعتقد في التقدم.
4. انتقادات صادرة عن تيار الإيكولوجيا العميقة التي ترى أن الطبيعة أولى من الإنسان، وأن المشروع الأنواري للسيطرة على الطبيعة والتخلص من إكراهاتها وحتمياتها مشروع ضارّ بالطبيعة.
والخلاصة أن عصر الأنوار طور أيديولوجيا متفائلة تقوم على أن الإنسان يمكنه أن يسيطر على الطبيعة (الطبيعة الإنسانية) محققًا الظفر والسعادة. فحسب الأنوار أن الناس سيتخلصون من كل الظلاميات المتمثلة في التصورات اللاعقلانية للدين، والشعوذة والجهل والأحكام المسبقة.
ظلامية الأنوار نفسها
مقابل ذلك نجد نقاد الأنوار والحداثة ينسبون الظلام والظلامية للأنوار نفسها، هايدغر مثلًا ينسب للحداثة سمات ظلامية فهو يتحدث عن حالة عناء العالم، عناصرها الأساسية هي:
– اقتلاع الإنسان من جذوره.
– نزع القدسية عن كل ما هو مقدس.
– إضفاء صبغة ظلامية على العالم. أو تلييل العالم (نسبة إلى الليل).
– تحطيم الأرض.
وفي الوقت الذي كان فيه المبتهجون بالأنوار والحداثة يتحدثون عن اقتلاع الطابع السحري أو التغني بنزع الطابع السحري عن العالم نجد هايدغر يَسِمُ هذه بأنها إعادة «إضفاء طابع سحري» على العالم.
قبل ذلك نجد أن فلسفة نيتشه (فيلسوف المطرقة) هي في وجه من وجوها بمنزلة عاصفة فكرية مدمرة؛ لأن نواتها هي نقد ما يسميه بالأفكار الحديثة كفكرة التقدم والنزعة الإنسانية، والهوية الثقافية والمثل الأعلى، الأخلاقي والعقلاني القاسي.
إلا أنه رغم هذه الأشكال في النقد فإن هناك تيارات فكرية ترى نفسها وريثة للأنوار وتنصِّب نفسها للدفاع عنها. فالفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس في كتابه الأساسي «الخطاب الفلسفي للحداثة» يدافع عن الأنوار والحداثة معًا ضد انتقادات كل التيارات الفلسفية اللاحقة، وبخاصة تلك المنتمية إلى ما يسمى بتيارات ما بعد الحداثة، وهو يرى أن الحداثة مشروع لم يكتمل إنجازه، بمعنى أنها لم تَفِ بالوعود الأنوارية التي قطعتها على نفسها والتي تتلخص في تحرير الإنسان من سيطرة القوى والمجتمعية.
كما نجد أن ميشيل فوكو الذي يتسم الكثير من إنتاجاته الفكرية بنقد الأنوار والحداثة (والذي قال عنه أكسل هونيت: إننا لا يمكن أن نعثر في تاريخ الفكر الأوربي بعد كتاب «جدل الأنوار» لأدورنو وهو ركهايمر، على محاولة نقدية أكثر جذرية من نظرية السلطة عند فوكو من حيث هي محاولة لفضح أو تعرية الخلفية الفكرية لهذا النقد)، إن إيمان الأنوار بالعقل لم يتبين بما يكفي أن العقل ليس فقط أداة كشف وتحرير بل هو أداة سيطرة أيضًا. وهذا هو الدرس العميق وراء العديد من أعمال ميشال فوكو الذي ينسب نفسه للتيارات الفلسفية الكبرى ابتداء من هوسرل إلى ماركس ومدرسة فرانكفورت الذى يضعه على الخط الفاصل، بحيث يكون داخل الأنوار وخارجها في الوقت نفسه، وذلك من حيث إن النقد هو روح الأنوار ومنهجها الأساسي.
هل انتهت الأنوار؟ ونحن نتحدث عنها وكأننا نرثيها أو نسير في جنازتها.
إن الأنوار هي مجموع الأفكار الجريئة الناقدة للسلطتين الدينية والسياسية في أوربا في القرن الثامن عشر، وهي المحضن الكبير لأفكار الحداثة ولعل روح الأنوار هي روح الحداثة نفسها. والأنوار لم تنطفئ، فثوراتها العلمية والفكرية والجمالية تحولت إلى ثورات سياسية، وأصبحت نموذجًا للتطور في جل بقاع العالم.
يميز مؤرخو الفكر بين بعدين مختلفين للأنوار: فهي رائدة العقلانية وطرد الساحرات والخوارق والظلاميات، وهي التي هيأت الأسس الفكرية للتحديث السياسي في الغرب، إلى غير ذلك من الإيجابيات لكن الأنوار استعملت لتبرير السيطرة والاستعمار، كما مهدت للأيديولوجيات الشمولية وللأنظمة الكليانية.
الأنوار في الفكر العربي
أما انعكاسات الأنوار على الفكر العربي الحديث فهي متنوعة؛ نورد منها كمثال نموذجي أفكار عبدالله العروي الذي يوجزها في مطالب عدة. فهو يدعونا إلى أن:
– نودع نهائيًّا المطلقات جميعًا.
– ونكف عن الاعتقادات بأن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا.
– ونكف عن عدِّ كل تقدم هو في جوهره تجسيدًا لأشباح الماضي.
– ونكف عن الاعتقادات بأن العلم هو تأويل لأقوال العارفين.
– ونكف عن الاعتقاد بأن العمل الإنساني يعيد ما كان، لا يبدع ما لم يكن.
– بذلك ندرك لأول مرة معنى السياسة كتوافق مستمر بين ذهنيات جزئية تمليها ممارسات الجماعات المستقلة وتتوحد شيئًا فشيئًا عن طريق النقاش الموضوعي والتجارب المستمرة، بحيث لا يمكن لأي أحد فردًا كان أو جماعة الادعاء أنه يملك الحقيقة المطلقة عن طريق الوعي أو المكاشفة، ويفرضها على الآخرين.
– صيرورة الواقع الاجتماعي.
– نسبية الحقيقة المجردة (التاريخانية).
– إبداع التاريخ (فعل الإنسان).
– جدلية السياسة.
هذه هي معالم الفكر والمجتمع العصري، عرفها حقًّا البعض (النخبة الفكرية الطلائعية) وفسرها ونادى بها، لكن المجتمع العربي ككل، منذ القرن الماضي (القرن التاسع عشر) يتردد في تبنيها تبنِّيًا كليًّا، ينكرها ليس فقط في دائرة الأسرة والمسجد والكتاب، بل داخل البرلمان والمدرسة العصرية والمصنع.
– وباختصار في ذهن كل فرد منا.
إذا كان لتجارب الأمم مغزى فإن أمرنا لا يصلح إلا بصلاح مفكرينا، باختيارهم اختيارًا لا رجعة فيه.
– المستقبل عوضًا عن الماضي.
– الواقع عوضًا عن الوهم.
انظر ع. العروي: الأيديولوجيا العربية المعاصرة. مقدمة الطبعة العربية. ص. 16. بيروت. ط. 3. 1979م.
فهل نحن مؤهلون للاستجابة لشروط ومتطلبات العصر؟ هل نحن قادرون على الإنصات لحفريات الطليعة أو الطلائع الفكرية والثقافية التي تحفر في جدار الأنوار لاستخراج بعض جذور التنوير ولاكتشاف نسائم الحرية المنعشة؟