تعددت الأسئلة حول الجسد في وجوده المادي وفي علاقته بالروح، ومن الصعب تجنبه في حديث العامة لأنه وسيلة للحركة والتواصل بين الناس؛ فالجسد هو الذي يتحرك ويعمل ويبكي ويضحك. كما أن التساؤل الفلسفي انطلق من أسباب وجود المادة، والجسد جزء منها. لكنه لم يؤخذ بعين الاعتبار وعلى انفراد إلا في حالات استثنائية، فقد ربط على الدوام بالروح ضمن ثنائية تعقدت عبر التاريخ حتى صارت أهم ما يوجد في تلك العلاقة القديمة المتشعبة والمتعددة التفسيرات، وكانت هذه العلاقة محل اهتمام في شتى المجتمعات والفلسفات والديانات والاعتقادات كلما تساءلت عن قضايا أصل الوجود.
وفي عقود من التاريخ كان الجسد يشكل حلقة منسية (كالعصور الوسطى)، حيث كان تظاهره الروحي أهم من وجوده لذاته، فتزايد تساؤل الفلاسفة والأطباء وعلماء النفس عن سر حيويته وعن موته أي فنائه أمام احتمال خلود الروح أو دوامها. كما طُرح سؤال حول إمكانية تعذيب الجسد عند تعذيب الروح في العالم الآخر حسب الديانات الوحيانية.
إن الاهتمام الأول الذي أقلق المرء في هذا الموضوع ليس حالة الثبات التي يعيشها الجسد طيلة حياته بل التغير الذي يطرأ عليه عند موته أي عند مفارقة الحياة له. لحظات قليلة تغير جذريا من جوهره من جسم حي إلى جثة جامدة، إنها لحظة عبور من هذا العالم إلى العالم الآخر وعلى أساس هذا الجزيء من زمن بُنيت آلاف النظريات.
وأما الاهتمام الثاني الذي شغل أهل الفكر هو وجود الجسد كمادة أو شيء متحرك (objet animé) لا غير، فلقد عرّفه أرسطو «كجسم طبيعي يحمل الحياة كقوة»[2]، ويتابع ديكارت (Descartes) (1596- 1650) قائلا أن «جوهره التفكير»[3]، فتكون المادة هي الأصل دون أي شيء آخر وهي التي تفكر. كل هذا القلق فتح المجال على المستوى العلمي لكمّ هائل من المدارس ذات الأفكار البناءة متضاربة كانت أو متوافقة لم يضعف صداها على مرّ الزمن.
قبل أن نتوغل في تفسيرات هذه العلاقة الثرية، يستحسن المرور ببعض التوضيحات اللغوية والتاريخية التي تفرض نفسها. أولا، من الجانب اللغوي نستعمل عبارة «الجسد» بدل «الجسم» لنميز بين الأول الذي يخص المادة التي تسمح للإنسان أن يولد ويحيا، والثاني الذي يكون أعم من ذلك وقد يلم بكل أنواع الأجسام التي تحدث عن المادة.
ثانياً، إذا كان الجسد هو الجانب المادي المحسوس للكائن الحي وللإنسان، فالجانب غير المادي هو ما يسمى الروح أو النفس أو الفكر أو العقل. عبارات لا تترادف لكنها تؤدي كلها معنى ما هو «غير مادي» وقد تُستعمل الواحدة بدل الأخرى دون قصد التمييز أو لأسباب فلسفية. هذا إشكال يطرح في اللغة العربية بالتحديد حيث يميَّز بين مفهومي النفس والروح، إذ يفضل البعض استعمال عبارة «النفس» لأن «الروح من أمر ربي»[4]. ولعل استخدام ابن سينا لكلمة «نفس» في قصيدته كان لتفادي حكم بعض رجال الدين في أيامه. لقد حاولنا ألا ندخل في متاهة المفاهيم العربية، وارتأينا أن نتعامل مع عبارة «الروح» لأنها أكثر استعمالاً في هذا الميدان وأفضل ما يترجم عبارة (âme) بالفرنسية، وفيها نجد المعنى الفلسفي لكل ما هو في علاقة مع الجسد لتفسير ما يؤسس حياة الإنسان. كما أن «الروح» بالعربية تؤنث وتذكر، فاخترنا تأنيث الروح أمام تذكير الجسد.
ثنائية الجسد والروح
تاريخياً، أهم ما قيل عن الجسد يخصّ علاقته الوطيدة بالروح، حيث لا يمكن تصوره دون حيويته وقيمه ونشاطاته، ولا يمكن الحديث عن هذه الحيوية والقيم والنشاطات إلا وهي في جسد يُؤويها، وفيه توضع كل الأشياء غير المرئية التي تساهم في تركيب جسديته وماديته.
في الفكر الفلسفي تعددت الآراء والأقوال والتعريفات والنظريات التي تخص علاقة الجسد بالروح، لتتحدد ماهية الإنسان بكل معانيها، وفي أغلب الحالات بهذين الطرفين في علاقتهما الدائمة. ومهما كان اتجاه الفيلسوف أو العالم، فمن الصعب الحديث عن الجسد دون التطرق إلى ما يقابله، ولا يمكن الإحاطة بمعنى الإنسان بالنظر إلى جزء واحد فيه. في هذه الثنائية (dualisme) بين الجسد والروح يكمن سر كينونة الإنسان. لذا يقول لوقريطوس (Lucrèce): «إن الجسد غلاف الروح وهي (أي الروح) حارسه وواقيه». لكن لا يشاطره أفلاطون الرأي في فكرة الحماية، لأنه يرى أن الروح لوحدها تكون في كامل قواها وتفكر بجد ورزانة طالما لم تأبه بالجسد.
وفي خضم هذه الإتجاهات، يتضح جليّاً أنّ للرأي الفلسفي اتجاهيْن هامّين: من يقول بالاتفاق التام بين الجسد والروح أمثال سبينوزا (Spinoza)[5]، ومن يقول بالتنافر أو الثنائية (dualité) أو التوازي (parallélisme)، وبين هذا وذاك تتعدد الآراء.
الثنائية في ما قبل الفلسفة
اعتدنا في الفلسفة الكلاسيكية الرجوع إلى العهد اليوناني لنتفحص السؤال الفلسفي ومنه سؤال العلاقة بين الجسد والروح الذي ما فتئ أن سُمي «ثنائية الجسد والروح». احتار ديمقريطس (Démocrite)[6] في أصل المادة لذاتها، بينما تساءل أفلاطون عن الإنسان في صورته المتكاملة بين المادة المرئية والفكرة غير المرئية. لكن لا يُمكن اعتبار هذا المرجع كالبداية الوحيدة للفكر الفلسفي أو انطلاق التساؤل والدهشة، إذ نجد عند الهنود الحمر والديانات الآسيوية والفرس والمصريين القدماء والأفارقة شمالا وجنوبا أراء لا تقل أهمية. تساءل كل منهم عن الجسد وعن الروح والعلاقة بينهما وانفصالهما ومآل كل منهما، وقد بنوا حول هذه اللحظة ـ أي الانفصال ـ طقوسا يزيد تعقيدها بقدر تعقيد ثقافات المجتمعات وأثر بصمتها في تاريخ الحضارة الإنسانية.