كيف فكر محمد سبيلا في التقنية

بالنظر إلى هذا المفعول السحري، بل لنقل التخديري، للتقنية، يرى سبيلا بأن جوهرها مدسوس بتصور خاص عن الإنسان والعالم والكون برمته، وبهذا فإنها تمتلك كل المقومات التي تمتلكها كل أيديولوجيا قائمة بذاتها. ويشخص سبيلا أول وأكبر خطر للتقنية كأيديولوجيا باعتبارها مشروع تحكم في الطبيعة، بالمرور بالسيطرة على الإنسان وتدجينه وتعليبه والتلاعب به. ويحط سبيلا الأصبع على ازدواجية صارخة للإنسان تجاه التقنية، ترقى إلى مستوى اعتبارها صنما، جديرا بالعبادة: “يبدو أن الإنسان سيد الآلة ومكتشفها، لكن هذه تعود لتتحكم فيه وتستعبده، بل لعله هو الذي يجعل نفسه عبداً لها بعد أن كان سيدها، إن الآلة كأداة تستجيب لحاجات معينة لدى الإنسان في السيطرة على الأشياء وتسخيرها، لكنها سرعان ما تستجيب لحاجة الإنسان إلى سيد أو حاجته إلى أن يصبح عبداً لمخلوقاته، وكأن الإنسان لا يتحرر إلا ليخطو خطوة في العبودية”. وبلمسه لهذا البعد العميق للتقنية، يلمس سبيلا أيضا ما نسميه هنا “خدعتها الكبرى” في ما يخص فكرة أو أمل الحرية الذي وعدت به، أو على الأصح أوهمت به منذ الاكتشافات الجغرافية. فبقدر ما هناك مكون التحرر، طبقا لسبيلا، الذي أتت به التقنية، بقدر ما تكبل أيدي هذه الحرية بسلاسل فولاذية مرئية وغير مرئية، لتتركه خاضعا لها. بتعبير أوضح، لربما انقلب السحر على الساحر، كما توحي قراءة متأنية لفكر سبيلا في هذا الإطار: أراد الإنسان استعمال التقنية للسيطرة على الطبيعة أكثر وليتحرر من إكراهاتها المتعددة، فإذا بهذه التقنية تضمن له شبه حرية في ظل سيطرة كاملة عليه. وبهذا أضاف إنسان العصرين الحديث والمعاصر تبعية لتبعية أخرى”.
يستشهد سبيلا بهيدجر للتأكيد على أن التقنية هي نمط تفكير قائم بذاته، تشمل كل مناحي الحياة، وتفرض تصورات معينة بطرق شتى، منها ما هو ناعم ومنها ما هو عنيف. من هذا المنطلق يعتبرها سبيلا “الأداة الخالصة” التي تساهم مباشرة ودون رحمة ولا شفقة، باعتبارها البنت الشرعية للفكر المادي المحض، في تلقيح كل ما لمسته بلقاح التشيؤ: “تسهم التقنية في جعل العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والأشياء علاقة أداتية ونفعية. لم تعد الآلة استمراراً وامتداداً لحواس الإنسان وقدراته، بل أصبح الإنسان ذاته امتداداً للآلة إلى حد ما. لقد اكتسبت الآلة خصائص إنسانية بينما اكتسب الإنسان خصائص آلية”. وكما نبه إيريك فروم إلى ذلك، فقد حولت التقنية الإنسان إلى مجرد بضاعة تباع وتشترى، وأفرغته من محتواه اللامادي ليصبح أداة في يد التقنية، بعدماكس هو الصحيح.
من بين الطبقات السميكة للتقنية كأيديولوجية التي خدشها سبيلا، وارتباطا بما سبق، وبالخصوص باعتبارها نمط حياة، فإنه يؤكد على أن التقنية دَكَّت في مختلف حقب تطورها نظام قيم المجتمعات التي اجتاحتها وأتت بقيم جديدة، بل فرضت معنى حياة لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. وبهذا نجحت في التغلغل إلى دواخل الإنسان لتقوم بتغييرات جوهرية في إدراكه لذاته وللعالم الخارجي، بل غيرت حتى الميكانيزمات العميقة -النفسية/الوجدانية والمعرفية-، طبقا لما تحتاجه. وإذا دفعنا بالتحليل إلى أقصاه، قد يصح القول بأن التقنية لم تعد في حاجة إلى نمط التفكير التأملي العميق، بما فيه جانبه النقدي، بل فرضت نمط تفكير آلي، سطحي، شكلي، نمطي، من خرج عن سكته يُقصى بآليات متعددة. ويعري سبيلا عن “انحراف” نظريات كان الإنسان يعتبرها “نقدية، تقدمية”، “تناضل من أجل تحرير الإنسان”، كالماركسية مثلا، مؤكدا على أن أقطاب الماركسية مثلا، انزلقوا بوعي أو دون وعي في إيديولوجية التقنية، بل روجوا لها كل بطريقته، منبهرين بتحقيقها يوتوبيات كثيرة ومتوهمين بأنها أداة تحرر في المقام الأول: “هذه الأحلام اليوتوبية التي رافقت التطور التقني تبلورت في ما بعد في إيديولوجيا عبّرت في النهاية عن نفسها بالقول بنهاية الأيديولوجيات، فبما أن التقنية هي اكتساح الطبيعة وترويضها وتسخيرها كلياً لصالح الإنسان، فإن هذا المجتمع الذي ستسوده التقنية سيكون مجتمعاً إنسانياً، مجتمع إشباع ووفرة وخلوّ من الاستبداد، وستنتفي أسباب الصراع الاجتماعي، وستتقلص أهمية الصراعات الطبقية والجيلية والعرقية والقومية وغيرها من أسباب التوتر”. فبقدر ما توهم التقنية بأنها تحارب الوهم، بقدر ما تُنتج أوهاما أكثر تعقيدا وخطرا على الإنسان ومحيطه الطبيعي العام.
من حيث أنها أيديولوجيا، نجحت التيكنولوجيا، طبقا لسبيلا، في تعميم نهاية الأيديولوجيات، وبهذا قوت وهما كانت في حاجة إليه لتحقق ذاتها كأيديولوجيا بديلة. وعلى الرغم من أن خطاب نهاية الأيديولوجيا فارغ من أي محتوى، فإن التقنية ماضية في تقوية أيديولوجيتها في إنتاج إنسان نمطي خاضع، منبهر أمام تمثال التقنية، وبهذا رجع الإنسان إلى عبادة الأوتان التي يصنعها بيده، وفي هذا المعنى العميق فهم إيريك فروم الخطر الحقيقي للتقنية. فباحتلالها للبعد الروحي للإنسان، تقدم التقنية نفسها كدين جديد، بمقومات جديدة وأماكن عبادة متعددة ومختلفة: سلاسل السوبرماركات، ملاعب كرة القدم، فضاءات الاستجمام والراحة. بل أعمق من هذا، رجعت عبادة “الثور الذهبي” بكل ثقلها، لتجثم على صدر العالم، لأن هذا الثور هو المحرك الذي لا يتحرك للتقنية، بل هو قلبها النابض وقوتها الحقيقية.
في كتابه “الثورات العلمية التقنية الكبرى وتخومها الفلسفية والأخلاقية” (حريات، 26 مارس 2012)، يشخص سبيلا بالكثير من الدقة إيجابيات وسلبيات التقنية بطريقة فينومينولوجية وصفية قل نظيرها. وكعادته في المواضيع الفكرية الكبرى،لم يقتصر الوصف على جرد معطيات ومعلومات، منها ما هو معروف ومنها ما بذل فيه جهدا لاستنتاجه من قراءات متخصصة مُجهدة، بل طعَّم كل هذا بملاحظات وتحاليل مُتأمَّل فيها بعمق.
إن تلاحق “الثورات التقنية” بهذه السرعة الفائقة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكما أكد سبيلا على ذلك في نصوص مختلفة له، روفقت بإعادة تشكيل الفكر والمعرفة، بل وأيضا تصور الإنسان للعالم وللكون قاطبة: “هذه الثورات العلمية التقنية هي تحولات معرفية وفكرية نوعية غيرت وتغير صورتنا عن العالم والأشياء، لكنها بنفس الوقت أحدثت وتحدث تحولات عملية في سلوكنا وعلاقتنا بالأشياء وبالعالم”. فبفضل هذه الخطوات العملاقة للعلم التقني، أصبح بالإمكان، طبقا لسبيلا، إعادة نظر الإنسان ليس فقط في مفهومي الزمان والفضاء (المكان)، بل في تداخل المفهومين في الواقع، إلى درجة ذوبان بعضهما في البعض الآخر، لخلق واقع ثالت زمكاني، إن صح التعبير. وتأتى ذلك بتقنيات دراسة السرعة والرفع من وتيرتها إلى أقصى حد ممكن سواء في ما يخص وسائل المواصلات أو التواصل. وهذه السرعة بالضبط هي التي قلصت الفضاء، لأن الانتقال من نقطة (أ) إلى نقطة (ب) أصبح زمنيا أقصر بكثير مما كان عليه قبل نصف قرن.
إذا كان المرء يقول قديما بأن “الأخبار تطير” (يعني أنها تنتشر بسرعة)، فإن هذا التعبير المجازي أصبح مع ثورة المعلوميات واقعا ملموسا. وما نعرفه عن هذه الثورة هو شيء قليل حسب سبيلا، بالمقارنة مع الإمكانيات الهائلة التي لم تفصح عن نفسها بعد: “إن الثورات المعلوماتية الآن تخطو خطواتها الأولى، والبشرية لم تستوعب بعد عمق التحولات الفكرية المصاحبة لها”. وكالثورة في وسائل التنقل، فإن ثورة المعلوميات روفقت أيضا بتصور جديد للمكان حسب سبيلا: “قوامه التداخل بين المكان واللاّموقع (أو اللاّمكان) أو ما يطلق عليه بعض الباحثين: نزع الطابع المكاني أو الانقلاع المكاني la deterritorialisation”. لم يعد الخبر “حكرا” على جهة معينة، بل أصبح بإمكان أي كان وفي أي مكان إنتاج أي خبر ونشره في دقائق معدودات في كل بقاع العالم. وبهذا يغيب مصدر الخبر، المرتبط بمكان معين، ليتبخر في الأثير الذي يحمل هذا الخبر، أي ما يسمى العالم الافتراضي: “إنه ضرب من الوجود يندغم فيه المرئي باللاّمرئي، والداخل بالخارج، والحضور بالغياب، والوجود باللاّوجود، والمكان باللاّمكان”. بكلمة شعبية متداولة بالخصوص في “حلقات الفرجة” في الساحات العامة الكبرى لمدننا، أصبحت عبارة “برق ما تقشع” ذات مضمون. بمعنى أن سبيلا يلمس تجاوز هذا النمط الجديد من الوجود لتصوراتنا الذهنية التقليدية، مما يؤدي إلى بناء تصور جديد للزمان والمكان، بل وأيضا للمادة نفسها. وما هو مُبهر هو هذا التداخل القوي بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل، وتبادل الأدوار بينهما. وفي هذا الصدد يقول سبيلا: “إن الواقع الافتراضي واقع أنطولوجي جديد، واقع مرئي لكنه غير ملموس، واقع “يقع ” بين الخيال المحض والواقع الفيزيائي الصلب”.
يخلص سبيلا إلى التأكيد بأن الهدف الأسمى للتقنية وعلومها هي استكشاف “سر الحياة”، وفي هذا الميدان تنشط البيولوجيا على وجه الخصوص، والسر المعني بالأمر هنا هو أساسا سر فك رموز الجينوم الإنساني: “شبه علماء البيولوجيا عملية فك رموز وشفرات سلاسل الجينات بقراءة كتاب. وهذا الكتاب هو كتاب الحياة نفسها”. ومن بين التطورات اللافتة للنظر في البيولوجيا هو ما سماه سبيلا “الإستنسال” (الإستنساخ)، والتي أصبحت بمثابة إثبات قدرة الإنسان على “الخلق”، وبالخصوص إذا أضفنا لها “التحكم في الخلايا الحية” وبالأخص تقنيات زرعها في حواضن خارجية من غير الرحم الأصلي. ويعتبر سبيلا هذا النجاح الباهر للبيولوجيا بمثابة: “أخطر عملية قام بها العلم الحديث ولا يكاد يعادلها أي اكتشاف علمي آخر كما أن نتائجها خطيرة جداً على كل المستويات، لأنها تكاد تلامس وتحاذي الحدود القصوى وتدخل البشرية في مرحلة صناعة الحياة وصناعة الإنسان ذاته في المعامل والمختبرات كما يعبر عن ذلك مصطلح “الهندسة” “الوراثية”.
لا يبقى سبيلا على مستوى المنبهر أمام الإيجابيات المختلفة للتقنية الحالية، بل يأخذ مسافة نقدية منها تتجلى في تعداد بعض مظاهرها السلبية ومساءلة بعض أسسها، كمحاولة إبستيمولوجية ضرورية تنبه إلى الوجه الآخر لهذا التطور المهول. ولعل الخلاصة التي يمكن لقارئ سبيلا استنتاجها في هذا الإطار هي إعادة تأكيده على الميزة الثنائية لهذا التقدم التقني، وهي ثنائية متناقضة في جوهرها، بحيث إن القطبين اللذين يكونانها غير متجانسين وغير متكافئين. ومن الأخطار الرئيسية للتقنية الحديثة هي خطر قضائها على ما يعتبر حقيقة أساس تقدمها، أي الطبيعة نفسها، باعتبارها مخزن المواد الأولية التي يحتاجها العلم التقني والتقنولوجي الحديث. فجنون الرغبة في السيطرة على الطبيعة والتحكم فيها وإخضاعها، وبكلمات فروم امتلاكها، دفع الإنسان إلى ممارسة عنف عليها لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، شوهها وأزاح عن وجهها تلك “الرومانسية” القديمة، لتظهر بمظهر كارثي (القضاء على غابات الأمازون، مص جوف صحاري وبراري المناطق البترولية إلخ). ونتائج هذا الاستغلال الوحشي للطبيعة كارثية على الإنسان، لأنها تسير بخطى ثابتة إلى القضاء على مقومات الحياة البشرية بتلويث المياه والهواء والغذاء،ولا عجب إن مات الإنسان في المستقبل المنظور متأثرا بقلة أو نفاذ الأكسجين على الأرض.
إن السلبية المذكورة أعلاه للعلم هي نتيجة وليست علة، فما يغذيها هي واقعة كون التقنية الحديثة، بالمقارنة مع نظيرتها القديمة التي كانت تحت سيطرة الإنسان، قادرة على التطور التلقائي المباشر وغير المباشر، يعني تحررها من الإنسان الذي كان يتوهم بأنه سيدها والمسيطر عليها. هذا الاستقلال من شأنه أن يؤدي إلى قلب المعادلة، لتصبح الآلة هي السيدة، والإنسان هو العبد: “فتطور العلم هو أشبه ما يكون بانحدار سيل يمكن توجيهه لكن لا يمكن إيقافه”. وهنا بالضبط تكمن المعضلة الأخلاقية والفلسفية الكبرى والتحديات القانونية والأخلاقية، التي تلغي بجرة قلم الكثير من الأمور التي كان الإنسان يعتبرها بديهية فكريا وقيميا. وأهم ما يحط سبيلا الأصبع عليه هو كون: “الثورة المعلوماتية بخلقها لواقع جديد، واقع افتراضي ذي كيان بيني، تقود إلى مصادمة الحدود الأنطولوجية التقليدية بين الوجود والعدم، إذ تنشئ واقعاً جديداً يتداخل فيه الوجود واللاّوجود، الحضور والغياب، والهنا والهناك، والمرئي واللاّمرئي” ويضيف: “والثورة البيوتكنولوجية مثلاً تسهم في مصادمة الحدود الميتافيزيقية التقليدية بين الخلق وإعادة الخلق والصنع والإنتاج، وتدخل مجال المعجزات المتمثلة في الإشفاء من الأمراض المزمنة أو من الإقعاد، والإبراء من الإعاقة المزمنة”. ومن الأمور السلبية الواضحة المعالم في هذا الإطار هو أن البيوتكنولوجيا، حسب سبيلا، تمشي بخطى حثيثة على درب المسح النهائي للعلاقات الإنسانية الضيقة: ” الأبوة والأمومة والأخوة والبنوة والعمومة والخؤولة …”.
لا جدال في كون المفكر المغربي محمد سبيلا من أوائل المفكرين العرب على الإطلاق الذين خصصوا وقتا وجهدا فكريا لتأمل “قضية البيوتيكنولوجيا” وما يترتب عنها من إشكاليات فلسفية وجودية تخص في المقام الأول أنطولوجية الإنسان وما تعنيه كل هذه التحولات المفصلية في التعامل مع هذا الإنسان كموضوع تكنو-بيولوجي، مجردا من كل صفاته الكلاسيكية وهويته الموروثة منذ ملايين السنين. ما تقوم به البيولوجيا حاليا، بالإستناد إلى سبيلا، هو إعادة تحديد الإنسان، أو بدقة في التعبير: إعادة تشكيل الإنسان، وبالتالي إعادة تعريفه.
في أحد نصوصه المرجعية في هذا المجال: “الثورة البيوتكنولوجية المعاصرة وآفاقها الفلسفية” (مجلة الفيصل، نونبر 2018) يؤصل سبيلا إلى ما يمكن هنا تسميته “إبستيمولوجيا العلوم البيولوجية المعاصرة”، باعتبار الإبستمولوجيا قراءة نقدية متأنية للأطروحات العامة لهذا العلم وفرضياته ونتائجه، وتأثيره على المدى المتوسط والطويل. ولكي يضع الموضوع في إطاره التاريخي العام ذكر سبيلا بـ “الثورات العلمية الكبرى”، واختار التقسيم الذي اقترحه جيرمي ريفكين Rifkin ، الذي ربط بدوره هذه الثورات بطبيعة ونوع الطاقة التي كانت محركها الأساسي. وبإيجاز شديد، يحدد سبيلا ثلاثة تواريخ، اعتبرها بداية لهذه الثورات: بدأت الثورة الأولى حوالي عام 1750، معتمدة أساسا على “الفحم الحجري” كطاقة، وحدثت الثانية عام 1850، مستفيدة من الطاقة الكهربائية والبترول، وكانت الثالثة عام 1950، التي استعملت الطاقة الذرية بالخصوص، وتحاول تطوير الطاقة النظيفة للاستفادة منها. وينبه سبيلا إلى أن هذا التصنيف هو تصنيف بين تصانيف أخرى، لأن هناك من تحدث عن الثورة الرابعة، بل حتى الخامسة. وما يهمنا هنا من كل هذه التصنيفات هو فهم كون البيوتكنولوجيا حدثت في الثورة العلمية الثالثة.
في رغبته القوية لاكتشاف “سر الحياة” أو كما عبر عن ذلك سبيلا في نصوص أخرى، “قراءة كتاب الحياة” وصلت البيوتكنولوجيا ذروتها مع “البيولوجية التركيبية”: ” التي دشنت مرحلة الصناعة التكنولوجية للحياة مثلما حدث في صناعة الكائنات الوحيدة الخلية”. ويصب هذا التطور المدهش والمهول في خانة “تطوير النوع الإنساني” بيولوجيا ومجاوزته (لربما أيضا تجاوزه). ويحدد سبيلا الخلفية الفكرية لهذا الأمر كالتالي: “الخلفية الفكرية المضمرة في كلا الاتجاهين هي أن تطور العلم والتكنولوجيا بوتيرة متوالية هندسية سيتجاوز التطور الطبيعي للإنسان وسيتخطاه، وهو ما يعنيه مصطلح التفرد أو الفرادة Singularité المتعارف عليه في هذين الاتجاهين”. وكانت النتيجة شبه الحتمية لهذا التطور هو ظهور مصطلحي “لتطوير Trans” و “التخطي Post”: “لا يجوز عدّ الترانس تعبيرًا عن إرادة الإنسان المتقدم ورغبته في تطوير العلم/ التكنولوجي، بل إن الوجه الآخر الخفي في العملية هو أن هذا التطور – الذي يبدو أحيانًا على أنه تعبير عن استقلال نسبي للتقنية وزواج بين التقنية ورأس المال- هو لحظة عضوية ضمن هذا التطور الموضوعي”. ويقدم سبيلا بإسهاب مشروع الترانس وأهم النقاشات حوله، لأن هدفه الأسمى هو”خلق” “الإنسان المستزاد”، مستدلا على ذلك بما قاله من اعتبره نبي الترانس ” كورتسفيل” عندما قال: “نود أن نصبح أصل المستقبل، نود أن نغير الحياة، نود خلق أنواع جديدة من الكائنات، أن نساهم في بناء البشرية، أن نختار مكوناتنا الحيوية، أن ننحت أجسامنا ونفوسنا، أن نروض جيناتنا، أن نلتهم ملذات تحويل خلايانا الجينية، أن نهب خلايانا الجذعية، وأن نبصر الألوان ما تحت الحمراء، وأن نسمع الموجات الصوتية الرفيعة وأن نستشم جيناتنا، وأن نستبدل خلايانا العصبية، وأن نمارس المتعة الجنسية في الفضاء، وأن نجاذب أناسنا الآليين أطراف الحديث، وأن نمارس الاستنساخ إلى ما لا نهاية، وأن نضيف لنا حواس جديدة، وأن نعيش قرنين وأكثر، وأن نستوطن القمر، وأن نخاطب المجرات…”. ولا يتعلق الأمر، كما يؤكد سبيلا على ذلك بضرب من الخيال أو أحلام اليقظة، بل بـ: “مشروع الترانس هو مشروع علمي تكنولوجي فعلي يحيا بدعم فكري وسياسي وبتمويلات فعلية من طرف غوغل وكثير من الشركات تحت عنوان الإنسان المعدّل (Amélioré) أو المقوّى أو المستزاد (Augmente) إما بالتحسين أو التهجين”.
تطرق سبيلا إلى مواقف بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين المعاصرين من “الترانس” مثل فرنسيس فوكوياما، لوك فيري، هابرماس، ميكائيل ساندل، سلوتردايك. وما يلاحظ هو أن مثل هؤلاء المفكرين لا يستقر لهم حال على موقف محدد، فموقف فيري مثلا غير قار، “يهاجم” الترانس بـ “دفاع مضمر” عنه أو بمهاجمة صريحة أو ضمينة لمن اتخذ موقفا ضده، وبالخصوص هابرماس، الذي تميز موقفه بنوع من “الحنين المبطن” لإرثه المسيحي الكاثوليكي. بعدها انبرى سبيلا إلى عرض “التحديات الفلسفية للترانس”، واضعا التحديات الإقتصادية والسياسية والقانون إلخ بين قوسين، – لربما تاركا إياها لأصحاب التخصص-: “نستنبط بهذا الصدد مجموعة مصادرات (أو مسلمات أو خلفيات) فلسفية كامنة بنسب متفاوتة في حركة الترانس ومساره، تتجه أكثر نحو دعم التصورات التالية”: التصور الآلي للجسم وللدماغ، التصور الكيميائي للجسم، التصور العددي الكمي للإنسان، النظرة الواحدية Monisme (وحدة الجسد والنفس/أوالعقل)، نفي وجود طبيعة بشرية: “لمفهوم الطبيعة البشرية مدلولان: المدلول البيولوجي المتمثل في DNA أو الجينوم أو ما يشكل الخصوصية النووية للكائن الحي، والمدلول الأخلاقي أو الميتافيزيقي الذي يشير إلى كرامة الإنسان أو إلى قدسيته أو إلى خصوصيته الأخلاقية التي هي أمر غير قابل للاختراق أو الاستلاب. ويبدو أن العلوم البيولوجية، ورواد الترانس يتجهون إلى إنكار أو نفي وجود طبيعة بشرية (بيولوجية) من سماتها الثبات”. وتمثل هذه التصورات قفزة نوعية في إدراك الإنسان لذاته، بل خلخلة حقيقية للـ “أنا أفكر”، لأن سمات وبصمات التشييء واضحة المعالم. بل إن قيمة الإنسان لم تعد هي قيمته الأنطلوجية، بل قيمته كمادة خالصة قابلة للدراسة والتشريح والتغيير. أي أن الإنسان بالنسبة للثورة البيوتيكنولوجية لا يعدو أن يكون إلا فأر تجارب في المختبرات العلمية. عليه الامتثال وقبول واقعه ولربما “هويته” الجديدة، لأنه خاضع إلى قوة تفوق كل تصوراته وميكانيزمات دفاعه عن نفسه. إن الإنسان قد أصبح “حيوانا” لا أكثر ولا أقل، فميزة “الكلام (اللغة)” و”التفكير (الخروج من ذاته)” التي كان يفتخر ويزهو بها ويرسم بها الحدود مع إخوانه في “الحيوانية” (في مقابل الإنسانية/البشرية) تُمحى وفقا لبرنامج ونظام معين، وتُعوض بلغة اللوغاريتمات والتفكير الآلي الميكانيكي المُنمّط والجاهز. يُحال تصور الإنسان التقليدي على التقاعد، ويظهر الإنسان الآلي بكل جبروته، مفعوما بإرادة قوة عمياء، لعلها تفسح المجال “للسوبرمان” النيتشيوي لتعويض العالم الطبيعي الحالي والإنسان الذي يعيش تحت جناحيه ولربما القضاء عليهما معا بجرة “فأر” في مختبر ما.


الكاتب : تقديم وترجمة: د. حميد لشهب (النمسا)

  

بتاريخ : 13/08/2021