كانت معظم قبائل الهنود الحمر تعتقد أن للجسد روحيْن تسكنانه على الأقل، واحدة حرة طليقة تستطيع أن تخرج منه أثناء نومه أو في حالة الغيبوبة وأخرى ماكثة فيه. عند الممات تنتقل واحدة منهما مباشرة إلى عالم الأرواح فتنعدم قدرته على الحركة والحيوية، بينما تبقى الثانية وقتا من الزمن حتى تنتهي الطقوس المقامة من أجله ويُنهي أهله كل الأشغال التي لم يقدر على إنهائها في حياته.
أما أهل البوذية فهم ينظرون إلى العلاقة بين المادة والروح كوحدة تجمع الجوانب المرئية وغير المرئية في وعاء واحد. كل ما هو كائن مادي أو روحي مرئي أو مخفي ما هو إلا تَجَلٍّ للشيء نفسه في إطار قانون كوني أساسي يتمثل في «الواحد»، كل أشياء الكون مرئية كانت أم غير مرئية تأتي من ينبوع واحد للحياة، فهي ليست منفصلة وكل الجوانب المادية كالجسد أو الروحية كالعقل والعاطفة والإرادة لها الأهمية نفسها. يقول «نيشيران[7]» أنه «يمكن لأي شخص أن يعرف أفكار شخص آخر من خلال الاستماع إلى صوته لأن الجانب المادي يكشف عن الجانب الروحي»، فالمادة والروح جوهر واحد وإن يبدوان بمظهرين مختلفين.
كما نجد عند المصريين القدماء نظرة غنية ومتنوعة حول الجسد أو على الأقل جسد من سيتمكن من بلوغ عالم البقاء بمعرفته الواسعة واحترامه لقوانين الكون. وهم يعتقدون أن الإنسان يتجاوز معنى الازدواجية بطرفيها الجسد والروح لأن لكل شخص عشرات المكونات المادية واللامادية تجعله ينتمي إلى المجال الدنيوي المحسوس المتمثل في موجودات الدنيا وإلى المجال الروحاني غير المحسوس الذي يكوّن دائرة الآلهة والأسلاف. وبفضل مكوناته غير المادية أو اللطيفة يمكن لكل شخص بعد موته أن يتوقع البقاء على قيد الحياة وإلى الأبد بجوار القوى الغيبية الخارقة للطبيعة التي تقنن الظاهرة الكونية. ومن أجل ذلك، عليه أن يعمل على المحافظة على «آنخ» أي نفَس الحياة (souffle de vie) باحترام مبادئ «معت» (Maât) إلهة النظام والسلم والعدالة والحقيقة والتوازن في العالم لأن التوازن هو الذي يسمح للبشر بفهم عالم الآلهة وإدراكه واستيعابه.
وفي الأراضي الإفريقية، كان الاعتقاد بوجود قوة غير مادية في الجسد المادي من وقت مبكر، منذ أن شرعوا في دفن جثث موتاهم بتطبيق طقوس خاصة بها[8]. فمن يعتقد بخلود الروح ومن يذهب إلى خلود الإثنين وعودتهما بعد الموت، كل ورشات العمل ما زالت مفتوحة، إلا أنّ نتائجها لم تُعْطِنا نتائجها الأدلة الكافية لتفهم طبيعة العلاقة الدقيقة بين الروح والجسد قبل مجيء أولى الديانات السماوية. فالظروف التاريخية لهذه المناطق وكثرة الحركة فيها تجعل البحث في الماضي متعدد الجوانب، ولم توفر لهذا النوع من الاكتشافات الاهتمام والإمكانيات والوقت الكافية. كما أن الديانات السماوية أضفت لونها الروحي على معتقدات وطقوس هذه الشعوب بوضوح جعل ما سبقها عديم الحضور.
حقا، إن للديانات السماوية رأياً مؤكَّداً في النظر إلى الجسد في علاقته بالروح والآراء حول لحظة اللقاء ولحظة الفراق بين الطرفين حاسمة ومتنوعة. هذا ما جعل الميتافيزيقا تسعى مسعاها وتقيد إتجاه الفكر لعدة قرون.
عُرفت الميتافيزيقا على أنها القدرة على تفسير الكون، وقال أرسطو أنها الفلسفة الأولى (philosophie première)، يقصد بها كل ما لم يستطع العلم أن يحصره في التجربة. لكنها تطورت مع تطور الفكر خاصة في ظل الديانات لتبني هرما من المعتقدات يصعب تجاوزه. وقد عرّفها كانط (Kant) على أنها «علم الأصول الأولى للفكر الإنساني» تلم بمعرفة أسرار الكون وتطمح إلى معرفة اللامحسوس أي اللامادي.
تطورت الميتافيزيقا وتأكد نفوذها في تفسير أصل الوجود إلى أن صارت هي أساس تفسير الكون والحياة، طبعت الفكر الإنساني في العصور الوسطى حتى استحال التفكير بالجسد دون المرور بدواليبها. وقد نُسبت لها قضايا عديدة كالروح والله والخلود وأصل الوجود ومصير الإنسان وأشياء أخرى. وهي تفسر علاقة الجسد بالروح على مبدإ «الثنائية» على غرار العلاقات التأسيسية للفكر كتقابل الخير والشر أو الجنة والنار أو السماء والأرض أو النهار والليل، ما يؤكد علاقة الثنائية والتضاد بين الروح الإيجابية والجسد السلبي. في هذا التقابل تتغذى الروح بالروحانيات وهي الغذاء المناسب لوضعيتها حتى تكون خفيفة ولطيفة وطاقتها علوية طاهرة ويتغذى الجسد بالشهوات فيكون دنيئاً من مادة غليظة وطبيعة دنيوية. هذه الفرضية الموسومة بالعداوة فرضت فكرة سقوط الروح من عالم علوي إلى العالم المادي حيث تعرفت على الجسد، فاقترحت سؤال تحديد أصل العلاقة بين الطرفين وإمكانية أسبقية الروح عن الجسد في الخلق وكذا أزليتها، ثم إمكانية بقائها أي أبديتها بعد اندثاره وفنائه. يقول ابن سينا أنها «هبطت» إليه ويقول أفلاطون أنها «فقدت أجنحتها». وقد حاول بعض الفلاسفة أمثال القديس أوغسطين[9] (Saint Augustin) الخروج من هذه المقابلة إلى فكرة أكثر شمولية، إلا أن الرأي الثنائي بقي سائدا طيلة القرون الوسطى.
بالمنظور الفلسفي، يقول المؤرخون أن «الثنائية» فكرة أفلاطونية، وينسبون النقاش حول علاقة الروح بالجسد إلى نظرية «عالم المُثل» أو «الأرواح» (idea) حيث أكد في (Phédon) عن وجود عالمين متميزين وجعل نوعين من الكائنات المرئية وغير المرئية تتقابل[10]، كما تحدث في «كتاب السياسة» عن روحين كونيتين تمثلان إلهين متضادين[11]، وفي «كتاب القوانين» سلّم بأخلاق الكون الذي كان يسير في طريق إيجابي لما كانت تقوده الآلهة وتحوّل طريقه إلى عكس ذلك لما تركته الآلهة يسيّر نفسه بنفسه[12].