أُنطولوجيا الجسد (34)

مفهوم الجسد عند هايدغر (8)

يعطي هايدغر في «ملتقيات زوليكون» أدلة عملية لإثبات أن الدازاين -الذي كان قلقا لما كان متغربا في العالم- صار يسكن في الكلام الشاعري بكل رزانة. يفسر ذلك بالنتائج الإيجابية التي تحققها ورشات العلاج الفني كالموسيقى أو الرسم أو النحت وأثرها على الأمراض النفسية[55]. إذا حدث خلل بين أعضاء الجسد لدى شخص ما أو مع وسطه وبيئته (يعطي مثل القلق) يجب عليه أن يمارس نشاطا رياضيا أو فنيا لاسترجاع توازنه، لأن النشاط الجسدي والعمل الفني يعيدان التوازن للشخص، وكأن الجسد يرجع إلى شبكة علاقاته التي تجعله أهم من مجرد شيء.
وإن كانت فكرة التحام الجسد بالروح أو الفكر أو النفس لا توحي بالأفلاطونية المبنية على التمييز إلا أن فكرة أهمية تعليم أو ممارسة الفن قد تكون من ذوق أفلاطون وسقراط[56]، لأنه يجعل الجسد والعقل يتفقان. تبقى الفوارق في مسألة أسلوب التعليم ونوعية الفن وذوق الأشخاص. إن الجسد في نظر هايدغر يحتل المكان ويتمدد وينفتح فيتجاوز غلافه، إذ يرى أصحاب الهندسة والفيزياء أنه يتردد أو يتقدم نحو حدود الحدود وحتى نحو اللاحدود، بينما يغذي الوجود الضمني الامتداد في المكان. فقال في محاضرة «نبني نسكن نفكر» (Bâtir Habiter Penser) «أن الجسد يوحي بالامتداد». أخذ مثال الإصبع الذي يشير إلى النافذة ليفسر أن الحدود لا تتوقف عند الغلاف الجسدي الذي يتمثل هنا في الأصابع بل يمتد إلى معنى النافذة وما فوق حيث سبب الإشارة إليها[57]. ولا يقصد بهذا المثال العودة إلى إشكالية الدلالة (signe) التي لا تدرج في منطقها الالتحام، بل بالعكس تقول بالفصل والتجزئة، فهو يقصد الوصول إلى كل متكامل. في هذا الصدد، تقول «ماري جائيل»: يمكن لليد أن تحجب كل مفاتيح البيانو، وهي تلعب بالمسافات حتى يتلاحم الجسد بالبيانو كشيء واحد. الخيال يحجب الفراغات فتجتمع أبعاد المرئي بغير المرئي حتى يمكن التعامل معهما كشيء واحد. هكذا نصل إلى القول أن الامتداد من المكونات الأساسية للجسد والذات[58].
يقول هايدغر كذلك: إذا كان الكشف (Ereignis) أحد مفاتيح الكينونة، فالإمتداد مفتاحها الآخر. لذا فإسكان أو إعادة إسكان الجسد في المسكن الشاعري خاصة بواسطة اللغة يضعه في وضعية ملء أصلي وأصيل حيث يصبح غير مرغم وغير محبط وغير ناقص وغير محروم حتى يجتمع بالكينونة التي تحركه. أما الحدود أو الحد الأقصى فهو ليس النقطة التي فيها ينتهي الشيء المادي أي الكائن على حسب فلاسفة الإغريق، بل تكون الحدود حيث يبدأ جوهر شيء.[59]
هكذا يعيش الإنسان في هندسة متغيرة ينتقل فيها الجسد كذات نحو الكينونة. وفي ضرورة إبيستيمولوجية معرفية تلتقي ميزة الامتداد بعملية الانفتاح والتجريد فيكون الجسد فيها بدون حدود وبدون قطيعة. وهو قد يشكل لوحده الميزان الشاعري، أي الخط المستقيم الذي يجمع ويوحد الأرض والسماء في فعل شاعري يسمح للكينونة أن تكون ليعبر عن جمالية وشاعرية هذا الالتحام. نجد هذا المعنى العميق في إحدى قصائد هولدرلين «بالأزرق المعبود» (En bleu adorable) لما قال: «إن النظر إلى الأعلى يقيس الفاصل بين حدين، السماء والأرض. هذا الفاصل هو مقياس سكن الإنسان. أما الحد القطري المخصص لنا والذي عن طريقه يبقى الفاصل بين السماء والأرض مسافة مفتوحة، فنسميه «البعد»[60]. هكذا يصبح سكن الجسد وبذلك الإنسان يتمثل في كل ما هو موجود بين السماء والأرض وهي حدود تمد بأبعاده إلى أبعد ما يمكن.
بهذا البعد الشامل يقترح هايدغر نوعاً من اللاتمركز أو لامركزية الموضوع تجاه الكينونة التي نجد نفسها في وحدة جديدة تجمع حولها ذات الجسد وذات الشخص والصفات والأعضاء والعناصر والمحيط – إنه نوع من التحام الكل. وباحتوائها الطبيعي للفكر واللغة الشاعرية تبلغ هذه الوحدة أوج معنى المسكن الشاعري بحيث يتمسك الكل بكيفية ديناميكية في علاقة ضرورية مع الجسد، تظهر فيها جليا العلامات التي يتركها الجسد في تطوره وحركاته وإيماءاته. كل هذا يساهم في عملية تدوين الجسد في مركزية أنطولوجية تعيده إلى الكينونة.


الكاتب : ويزة غالاز

  

بتاريخ : 20/08/2021