المفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار (20)

رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..

رسالة شكر وتقدير إلى الأستاذ محمد سبيلا  (2)

الأخ العزيز الأستاذ الدكتور محمد سبيلا المحترم

بدورنا نقول انطلاقا من قانون التسوية والتزكية: إذا كان علماء الشريعة قد أوجبوا المعرفة بعلم أصول الفقه من أجل فهم الخطاب الشرعي واستنباط الأحكام الشرعية منه باعتباره ضربا من تزكية العقل في مجال اللغة ومجال المقاصد الشرعية الجزئية منها والكلية. فإن المعرفة بقانون الحداثة يكون أوجب وبخاصة في القسم الخاص من كتابه العزيز بالآفاق والأنفس الإنسانية. إذ كيف يمكن أن يحصل لنا الفهم مثلا لقوله تعالى:” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” (النحل 78) و قوله سبحانه: ” ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” (الإسراء 36) إذا لم يكن لنا إلمام بالمذاهب الحداثية في نظرية المعرفة: المذهب التجريبي، والمذهب العقلاني، والمذهب الجامع بينهما ، وكيف يمكن أن يفسر قوله تعالى:” أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (الأنبياء 30-33) بعيدا عما تقول به الحداثة في المنظومة الشمسية من انفجار وجاذبية ودوران.. ومعنى هذا أن كتبكم في الحداثة ضرب من البيان لمفهوم التزكية المأمور بها في القرآن.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، إذا نحن التفتنا في كتابكم “مخاضات الحداثة” الى الموازنة بين الإسلام والحداثة من خلال إجابتكم عن سؤال عبر به صاحبه عما يروج في الواقع من أن “هناك تعارضا أو تقابلا بين الإسلام والحداثة، أو بين العقل والوحي”، حيث قلتم من جهة الحداثة:” إن الحداثة هي حركة اجتماعية تاريخية كاسحة، حدثت في الغرب، اكتشفت عبرها قوانين الطبيعة والكون، والاجتماع، والتاريخ، و اللغة، ومستكشفات لا نهائية لها: مجاهل الكون، والمادة، والنفس و اللا متناهي في الصغر، واللا متناهي في الكبر، وهذه الرؤية مرتبطة بمكاسب الحداثة وقدرتها على اكتساح العالم لأن من طبيعة الحداثة الانتشار والاكتساح، ولأن مكتشفاتها تتطلب أسواقا وفاعلين” (ص 514- ص 515)
وقلتم من جهة الإسلام : “إن الإسلام كبنية عقدية، وفكرية، واجتماعية، وتاريخية لا يتعارض مع الحداثة لكونه دعوة إلى التطور والتقدم، وفهم العالم، واعتباره بمثابة اختيار” (ص 515) وقلتم أيضا: ” فالإسلام لا يتعارض مع الحداثة بل هو قادر على أن يكتسح الحداثة، وأن يستوعبها شريطة أن تحرر النخب الفكرية والتقليدية من العوائق المعرفية، والرؤى المكبلة للفكر والإبداع، فالمشكل ليس في الإسلام ذاته من حيث إنه يتضمن الكثير من القدرة على التأويلات الإيجابية والإنسانية” (ص 516)
يتبين لي مما نطقت به هذه الاجابة، وأوحت به إلي أن اكتساح الإسلام للحداثة له جانبان: جانب الاستيعاب وجانب التجاوز
أما الجانب الأول فيتجلى في أننا لو استبدلنا كلمة الحداثة بكلمة الإسلام فيما تمت الإجابة به، ثم أضفنا إلى الإسلام كل الأوصاف التي تم نعت الحداثة بها فقلنا مثلا: “إن الإسلام حركة اجتماعية تاريخية، كاسحة حدثت في الجزيرة العربية، اكتشفت عبرها قوانين الطبيعية، والكون، والإجتماع والتاريخ … ” الخ لوجدنا أن الإسلام لن يرفض وصفا من هذه الأوصاف، فالقول مثلا بأن الإسلام حركة اجتماعية تاريخية، يمكن توضيحه من مستويين: مستوى ما أحدثه الإسلام ويحدثه من تغييرات في المجتمعات المومنة به، إن على مستوى العقيدة أو على مستوى القيم الأخلاقية، أو على مستوى اللغة وما أحدثه فيها من مصطلحات وتراكيب حقيقية ومجازية وكنائية… أوعلى مستوى القوانين الضابطة لسلوك الأفراد والجماعات إن على مستوى الأحكام التكليفية أو الأحكام الوضعية، أو المقاصد، بل حتى على مستوى المسار التاريخي للإسلام ذاته نجده في البداية كان عبارة عن فطرة تم تركيزها في الإنسان جسدا وروحا من قبل الخالق جل جلاله، ثم جاء كنصوص معبرة عن هذه الفطرة، حدثت فيها تحولات عميقة المرة بعد المرة إلى أن استقرت في النص النهائي الذي هو القرآن، والأمر مثله في باقي الأوصاف…
هذا عن الجانب الاستيعابي، وأما عن جانب التجاوز، فيبدو أن تشخيصه ممكن من مستويين: مستوى علمي، ومستوى أخلاقي
أما المستوى العلمي فنجده شاخصا في القانون الذي تمت الإشارة إليه، وأعني به قانون التسوية والتزكية من حيث كان في تناوله القضايا، يتناولها من جانبين: جانب التسوية وجانب التزكية، بينما قانون الحداثة يتناولها من جانب واحد هو ما يقوم به الإنسان، ويغمض فكره فيها عن الخالق الذي كان له الخلق والإبداع والتدبير. وللكشف عن أبعاد هذا القانون، أقول لو أننا عدنا مرة أخرى إلى هذا القانون أو إلى السورة الوارد فيها ذكره، لتبين لنا منها أولا أن هناك إضاءة علمية أحدثتها في الكون، والنفس الإنسانية والحياة الاجتماعية، إذ فيها يتبين أن الخالق جل جلاله يتحدث عن نوعين من الأفعال، أفعال يتولاها هو نفسه سبحانه وهي التي اطلق عليها مصطلح: “التسوية”، وأفعال يتولاها الإنسان الخليفة له في الأرض، وهي التي أطلق عليها مصطلح “التزكية”، ولتبين لنا منها ثانيا أن هذه الأفعال منها ما له علاقة بالكون الأكبر، ومنها ما له علاقة بالكون الأصغر، مما يدل على أن هذا القانون، قانون التسوية والتزكية جار فيهما معا على السواء في حديثه عن الشطر الأول من القانون نجده سبحانه يسوق أربع آيات من مخلوقاته، ثلاث منها تم انتزاعها من الكون الأكبر، وهي: الشمس، والسماء، والأرض، ورابعة من الكون الأصغر وهي قوله: “ونفس وما سواها”، ونجده أيضا في حديثه عن الشمس يتبعها بأربعة أوصاف: ضوؤها، تلو القمر لها، بروزها بمجيء النهار، وغياب ضوئها بمجيء الليل أما حديثه عن السماء فنجده سبحانه يكتفي فيه بهذا الذي يراه الإنسان وهو يرمي ببصره إلى السماء عند سمعه لفظ البناء في قوله تعالى: ” وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا”. والذي يراه بالقطع هو الإتقان والجمال، كما هو وارد في سورة الملك حيث يقول سبحانه: “الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ” (الملك 2-5)، وكذلك هو الأمر في حديثه عن الأرض نجده سبحانه يكتفي بقوله: “وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا” وكأنه سبحانه أيضا قد اكتفى في الشرح بهذا الانبساط الذي يمتد بامتداد الآفاق، أو بهذا الجمال الذي يتراءى في هذا الانبساط، وبخاصة في فصل الربيع وقد أزهرت الأرض. يقول الشاعر أبو تمام وهو يدعو صاحبيه لمشاركته النظر إلى هذا الذي يراه:
يا صاحبي تقصيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارا مشمسا قد شابه زهر الربى فكأنما هو مقمر
ثم ينعطف من الحديث عن الآفاق إلى الحديث عن النفس الإنسانية، فنجده سبحانه يبسط القول فيها كما بسطه في الشمس حيث يقول : ” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ” إذ هو في تناوله النفس قد تناولها من جانبين، جانب تكويني وذلك بإيجاده القوى المادية فيها من غرائز وانفعالات، والقوى العقلية المدركة لظواهر الأشياء وعللها، وجانب تعليمي يندرج فيه ما هو تعليمي بالذي هو تكويني وهو المعبر عنه بقوله سبحانه: ” فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا” حيث نجده سبحانه “قد فطر آدم على معرفته وتوحيده وشكره، وعبادته، وزاده هدى بما كان يلهمه إياه من الأقوال والأفعال، وما يصل إليه اجتهاده، كما قيل في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار قبل البعثة” (تفسير المنار (7/608) ثم علمه إلى جانب هذا، الطريق السالك في كل من الفجور والتقوى والعقاب والثواب بواسطة الرسل عليهم الصلاة والسلام.

(*) أستاذ مادة أصول
الفقه بجامعة سيدي
محمد بن عبد الله – فاس

 

 

 


الكاتب : n إدريس حمادي (*)

  

بتاريخ : 23/08/2021