يشكل مؤلف ” الأناشيد الوطنية المغربية ودورها في حركة التحرير” للأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل مادة مرجعية، تعيد الاعتبار ليس فقط للدور الذي اضطلع به هذا الجنس الأدبي والفني، من بث لليقظة، وتحريك الوعي، وتوجيه الرأي العام، وإعداده لمعركة التحرير من الاستعمار وتعبئته للتضحية والفداء، ولكن إلى تنمية ملكة الإبداع والجمال لدى الناشئة من أطفال وشباب وتربيتهم على قيم التعاون والتضامن والتسامح والمواطنة وحماية البيئة والتغني بجمال الطبيعة.
فمناسبة الحديث عن هذا المؤلف الذي قام بجمعه ودراسته وتدوين موسيقاه الأستاذ بن عبد الجليل، العضو الدائم بالهيئة العلمية للمجمع العربي للموسيقى، هو ما طوقني به عدد من الأصدقاء في المجال التربوى وخاصة منهم أعضاء حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي من مسؤولية الكتابة عن هذا المؤلف الهام على الرغم من إصداره ورقيا منذ 2005، لتعميم الفائدة وفتح نقاش حوله خاصة لدى الأطر التربوية المشتغلة في حقل المخيمات الصيفية بعدما تداولت الحلقة ما بينها نسخة الكتاب الإلكترونية على وسائط تواصل البث الفوري.
النشيد قصيدة قصيرة بإيقاع خفيف تعتمد الأداء الجماعي
فالنشيد – كما عرفه الأستاذ عباس الجراري، عضو أكاديمية المملكة المغربية – في تقديمه لكتاب عبد العزيز بن عبد الجليل، الصادر ضمن مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية ب ” سلسلة التراث” من حيث هو نص شعري أبدعه شعراء المرحلة الحديثة والمعاصرة، يتمثل في قصيدة قصيرة أو مقطوعة تقوم على إيقاع خفيف وسريع وتعتمد الأداء الجماعي موضحا أنه إذا كان النشيد أحد مظاهر التشكيل، التي جربها الشعراء المغاربة منذ ظهور بوادر النهضة في القرن العشرين، فإن جانب المضمون الوطني كان هو الهدف ومن ثم لم يلتفت كثيرا إلى الجانب الشكلي وما يقتضيه من عناية بالملامح الفنية الجميلة.
وتكتسى الأناشيدالمتداولة في مختلف الأوساط المغربية، خاصة أوساط الشباب، طابعا متميزا، سواء من حيث بنيتها اللحنية والإيقاعية أو من حيث أغراضها وموضوعاتها وبواعث نظمها، الأمر الذي يبرر إدراجها بين فنون الموسيقى المغربية، فضلا عن أن الطبيعة التسجيلية التي اتسمت بها الأناشيد وحولتها إلى ما يشبه الوثيقة التاريخية انطبعت بالحيوية المتجسدة في وظيفتها التحريضية الداعية إلى استنهاض الهمم وشحذ العزائم.
وفي إطار أعمال التعريب والاقتباس تدرج جهود فئة من الأشخاص كان لهم الفضل في إغناء خزانة الأناشيد الشبابية، ومن بين هؤلاء، يشير المؤلف إلى كل من الهاشمي بناني ( 1927- 1994 ) مدير منظمة العمل العربية الأسبق رئيس أول مجلس بلدي بالرباط سنة 1963 وعبد الواحد الراضي السياسي ورجل التربية،وأبوبكر الصقلي وعبد العزيز بن عبد الجليل وآخرون.
فمن بين هذه الأناشيد تلك التي عربها الهاشمي بناني من اللغة الفرنسية، والتي لاتزال تردد على أفواه أطفال وشباب الألفية الثالثة بالمخيمات الصيفية، كما كان أسلافهم، منها “فرس علي ينام في الإصطبل بينما علي يزدرد الحلوى” و” لنسر في جنح الظلام” و” حل الظلام والليل ران” و” قولو لي ياناس” و” إلى اللقاء قبل أن نفترق في المساء”.
جهد في الاقتباس وتعريب الأناشيد
كما قام عبد الواحد الراضي وأبوبكر الصقلي بتعاون مع السيدة كاترين صرفاج، رئيسة قسم الموسيقى بإدارة الشبيبة والرياضة بتعريب مجموعة من الأناشيد كان من بينها:”وعل كبير بالغابة” و” ذا جرس الكوخ القديم” و” عند شمس الغروب تجتمع القلوب حول هذه النار تجتمع الأفكار ” و” سيروا بغنى غنى الشباب سيروا بغنى غنى الصحاب” و” هذا المسا رطيب” و”ولدي ولدي هل رأيت ولدي” و” في الغابة البعيدة أنصت إلى الطيور” و”هلمواهلمواهلموا أجمعين”.
ومما عربه عبد العزيز بن عبد الجليل أو اقتبسه في مجال الشباب والكشافة، ” لم تدومي ياسويعات الهنا” و” هيا بنا إلى الغاب نستنشق الهواء” و”وسط غابة رأس الماء”. كما أن هناك أناشيد غربية صيغت في كلمات عربية من أمثلتها، “شمسي أشرقي حول هذه الربى شمسي أشرقي حول هذه الهضاب” و” نادى الرحيل بالفراق هل بعده لقاء..نادى الرحيل بالفراق هل في اللقاء رجاء”.
لم يتم الاكتفاء خلال تلك الفترة بترجمة الأناشيد إلى اللغة العربية، لكن تم نقل بعضها من أدباء عرب منها نشيد “الرياح” لميخائيل نعيمة الذي جاء في مقدمته “هللي يارياح وانسجي حول نومي وشاح” ونشيد “أرض الأجداد” للشاعر اللبناني حليم دا موسى يقول مطلعه ” عليك مني السلام يا أرض أجدادي .. ففيك طاب المقام وطاب إنشادي”.
إغناء مخزون الأناشيد في أول تدريب للمخيمات بالعربية سنة 1949
أول تدريب وفي مؤلفه ” المغرب الذي عشته” ذكر عبد الواحد الراضي،بمسار الدورات التكوينية خلال المرحلة الاستعمارية منها أول تدريب تحضيري سنة 1949بغابة المعمورة ، الذي ينظم لفائدة مدربي المخيمات الصيفية باللغة العربية، وكان خاصا بالأطر التي ستشرف على تسيير مخيمات الأطفال مشيرا إلى أن من بين المشرفين على هذا التدريب محمد الحيحي( 1928-1998 ) والهاشمي بناني وعبد اللطيف الباشا ومحمد بنسعيد والعبدي وكلهم كانوا من أبناء الحركة الوطنية ومن أطر الشبيبة والرياضة.
وأمام توالي هذه اللقاءات التكوينية، يقول الراضي، أغنينا مخزون الأناشيد المغربية بحرص وتحفيز من المرحوم الهاشمي بناني، الذي ترجم بمعيته عددا من الأناشيد الفرنسية إلى اللغة العربية، وذلك إدراكا لأهمية النشيد في العمل التربوي داخل المخيمات الصيفية، ولرسالته الوطنية التي يمكن أن يؤديها النشيد وما يمكن أن يبثه من قيم في نفوس الأجيال المتعاقبة.
وأوضح أن الأناشيد الفرنسية كانت كثيرة ووافرة، بينما كانت المكتبة المغربية تكاد تكون فارغة من الأناشيد باللغة العربية، فكان من المفروض بذل جهد جماعي في تعريب عدد من هذه الأناشيد الفرنسية الملائمة لثقافتنا وخصوصياتنا وللقيم الإنسانية والجمالية التي نعبر بها ونعبر عنها مبرزا أن المخيمات، وكذا الجمعيات والمنظمات الكشفية، لعبت في الواقع دورا حيويا في إشاعة ونشر هذه الأناشيد الجديدة التي عربناها أو ابتكرناها.
كتاب الأناشيد الوطنية مرجع علمي وتربوي متفرد
وفي بوح خاص أشادت عدة فعاليات تربوية بمنجز الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل منهم الصديق بوقوص رئيس الرابطة المغربية للمكونين التربويين، الذى قال إن مؤلف”الأناشيد الوطنية المغربية ودورها في حركة التحرير” يعد مرجعا أكاديميا علميا وتربويا متفردا في الساحة التربوية بتناوله واستعراضه لمادة الإنشاد أوالنشيد لمساهمته في دعم حركة التحرروالاستقلال من الاستعمار، مذكرا بأن الأناشيد الوطنية المغربية ارتبطت بأحداث المقاومة المغربية والنضال الوطني، وتميزت بالحيوية المتجسدة في وظيفتها الحماسية الداعية إلى استنهاض الهمم وشحذ العزائم لمواجهة المستعمر ومقاومته لاستعادة الحرية واسترجاع الكرامة الوطنية.
أما فريد مسناوي مؤلف ديوان ” نبض الطفولة” فثمن الجهود التي تبذلها أكاديمية المملكة لتوثيق مبادرات المبدعين المغاربة للحفاظ على التراث اللا مادى ومن بينها الكتاب القيم للشاعر والملحن عبد العزيز بن عبد الجليل، الذى قام بتوثيق وتدوين أناشيد مرحلة مقاومة الاستعمار، كلمات وصولفيجا، وهو ما يجعل الأسرة التربوية تنهل من مبادرته والتعرف على قيمة الأناشيد في حقبة زمنية معينة.
ومن جهته أكد أستاذ التعليم الموسيقي عبد الرحيم المنتصر صاحب مؤلف ” الأنشودة التربوية” الذي يوجد حاليا قيد الطبع إن مؤلف عبدالعزيز بن عبدالجليل شاهد على عصر الأوائل الذين لحنوا وترجموا وأبدعوا، مما يشكل مساهمة هامة في حفظ الذاكرة التربوية وإغناء الإبداع الموسيقي، وتشجيعا للبحث الأكاديمي، وإعادة الاعتبار للتدوين الموسيقي للأناشيد، وذلك مساهمة منه في الحفاظ على اللحن من التحريف والضياع.
لقد اضطلعت الأناشيد الوطنية في الماضي بدور رائد في إذكاء الحماس في نفوس الأطفال والشباب وحتى الكبار وبث الشعور بالانتماء والحب والإخلاص للوطن والذود عن حريته واستقلاله أيام الحماية الفرنسية، حسب المبدع التربوي عبد الوهاب بنصر، الذي أضاف أن الأنشودة كان يهتم بها زعماء الأحزاب السياسية والعلماء، كما كان للمدارس الحرة الفضل الكبير في تلقينها عن طريق المعلمين والأساتذة بالمدارس الحرة، وبالمخيمات الصيفية.
ونقل بنصر، ملحن قسم المسيرة الخضراء عن امحمد بوستة ( 1927- 2017 ) قوله إن علال الفاسي ( 1910- 1974) كان مولعا بكتابة كلمات الأناشيد وتلحينها حيث كان يختلى بنفسه في ركن من بيته ويبدأ في النقر بأصابعه، وكان جلساؤه يعلمون أنه بدأ في تلحين أحد الأناشيد التي كتبها.
ويرى المنتصر، الذي ألف ولحن عددا من الأناشيد الخالدة منها ” قمر أنا واحد ” و” كثافة السحاب”و”شقائق النعمان” و”إجر يادوري”و”على وتر العود” .و” أنا الصحراوي”، أن جل النظم التربوية أولت الأناشيد مكانة متميزة باعتبارها أفضل وسيلة للتنشيط في الوسطين المدرسي والتربوي، خاصة بالمخيمات الصيفية ودور الشباب، في الوقت الذى ذكر الزجال محمد الملوكي والفاعل التربوي، بأن الأنشودة التي هي عبارة عن أشعار وأزجال كانت كذلك تكتسى أهمية قصوى منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي في المجال التربوي النظامي والتطوعي.
الأنشودة الجديدة تغيير في ظل الاستمرارية .. ضعف في الاهتمام
بيد أن الاهتمام بالأناشيد لم يتوقف عند تلك المرحلة، بل تواصل بعد مرحلة الاستقلال خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي من لدن الجمعيات التربوية وأطر المخيمات الصيفية، وذلك في ظل ضعف الاهتمام بهذا الجنس الأدبي والموسيقي، حيث بادر عدد من شباب الجمعيات والمخيمات الصيفية إلى تأليف وتلحين عدد منها أغنت الخزانة المغربية بأناشيد تربوية هادفة منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الآن، وهي التي تشكل امتدادا لما أبدعه السلف، لكن في حلة جديدة وببهارات تتماشى مع العصر الحديث وتستجيب لانتظارات الأطفال واليافعين والشباب، تتردد في كل المحافل التربوية من مخيمات ودور الشباب ومؤسسات تعليمية، كما يوضح فريد مسناوي صاحب سلسلة ” حكاية نشيد ” التي يقدمها رفقة شقيقه المبدع ناصر مسناوى على قناتهما على ” youtubeيوتيوب ” الذي يحكى في سلسلة حلقات، ظروف نص كل نشيد والظروف والسياقات التي أحاطت بتأليفه شعرا ولحنا، معززا هذه الحلقات باستجواب خاص مع صاحبه.
وفي مقاربة مختصرة للنشيد التربوي وأهميته بين الماضي والحاضر، يشدد الفاعل الجمعوي الصديق بوقوص على أن الأناشيد كمقوم أساسي في تربية الشباب والأطفال وتنشئته وتكوينه،” فقدت حاليا أهميتها وأدوارها كما عايشناها في فترة مابعد الاستقلال وحتى نهاية عقد الثمانينيات خاصة في فضاءات التخييم ودورالشباب والمؤسسات التعليمية كذلك” معربا عن الأسف لكون هذه المادة التربوية تراجعت قيمتها العلمية والموضوعية لعوامل متعددة ومتداخلة، وأصبح مجالها سوقا للاستهلاك خارج إطار الدراسة والاختصاص.
من أجل انطولوجية للأناشيد المغربية وتخصص أكاديمي
ويذهب فريد مسناوي أحد أعضاء ” حلقة الوفاء لذاكرة الحيحي” في نفس المنحى، لكن من زاوية الاهتمام حينما لاحظ أن الإبداع التربوي عموما،لا يحظي بما يستحقه خاصة من طرف وسائل الإعلام، كما لا يلقى الدعم الكافي من المسؤولين، فضلا عن أن أغلب الشعراء لا يكتبون في السهل الممتنع والنزول إلى مستوى الأطفال والبراعم، ولا يجدون تشجيعا لخوض هذه التجربة، بدليل أن المكتبات والمعارض تفتقد فيها هذه الإنتاجات من أدب الأطفال.
وباعتباره مؤطرا تربويا وطنيا دعا الزجال محمد الملوكي من جيل الشباب، إلى فتح أفق جديد للأنشودة حينما قال إن للرواد مسؤولية إعادة الاعتبار لهذا الجنس الإبداعي لدوره الطلائعي في ترسيخ الوازع الوطني وترسيخ قيم التربية والمواطنة مع العمل على تجديد مواضيعها بما يتلاءم وتطلعات الأجيال الناشئة ويستجيب بالتالى لحاجياتها في زمن الثورة الرقمية .
لكن رغم ذلك يستدرك مسناوي بالقول إن هناك من يجتهد ويبدع أشعارا جيدة للطفولة، مراعيا إخضاعها للتفاعيل، مع إغنائها برصيد معرفي يساعد الطفل على تنمية ملكاته ومهاراته وانتقاء كلمات تتناغم مع المغزى التربوي وتتلاءم مع قدرات الأطفال مع عدم تكرار المواضيع وتفادي اللجوء إلى الحشو والإطناب.
ومن جهته لاحظ المنتصر، وهو من مؤسسى وقياديي جمعية المنار للتربية والثقافة، عدم إيلاء الاهتمام الكافي بالأنشودة على الرغم من أنها تعد ركيزة أساسية في تهذيب الذوق الفني للمتلقي وتعزيز حسه القومي والوطني والديني والعاطفي.
إن الحاجة أضحت ملحة من أجل إعداد انطولوجيا الأناشيد المغربية كما كان الشأن بالنسبة إلى أصناف من الموسيقى والأغاني المغربية، مع العمل على إحداث تخصصات علمية بالمؤسسات الجامعية، وذلك حتى يكتمل ” السفر القيم” الذي أنجزه عبد العزيز بنعبد الجليل عن الأناشيد الوطنية، وأن يتم التجاوب مع النداءات التي طالما رفعتها الحركة التربوية التطوعية في ذات المجال.