الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق (22)

سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

أوروبا:
ترسيخ البعد البرلماني في روابط التاريخ والمصالح والمشترك القيمي الكوني

تحتم عوامل التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا، أن تكون علاقات بلادنا مع أوروبا، وبالتحديد مع الاتحاد الأوروبي متميزة. وبعد أن كان الاقتصاد والتجارة خلال المراحل الأولى للبناء الأوروبي العاملين الحاسمين في الروابط المغربية الأوروبية، تعززت هذه العلاقات على نحو متدرج وتم تأطيرها بعدة اتفاقيات وآليات قانونية، وامتدت إلى حقول عديدة منها الديموقراطية والحكامة وحقوق الإنسان والعلوم والثقافة وإدماج المرأة، فالمنافع المادية لم تعد وحدها في قلب رهان هذه العلاقات. وبقدر ما تتوسع هذه العلاقات، وتدمج قضايا ومجالات جديدة، بقدر ما تزداد أهمية دور البرلمانات، ليس فقط من أجل التصديق على الاتفاقيات لضرورات مسطرية، ولكن من أجل تيسير تنفيذها وأساسًا من أجل مواجهة العراقيل والألغام التي تعمل بعض الأطراف المعادية لمصالح المغرب، على نحو مدروس زرعها في طريق الشراكة المتقدمة بين المغرب وبلدان الاتحاد.
وفي هذا الصددَ تلعب اللجنة المختلطة بين البرلمان المغربي والبرلمان الأوروبي دورًا حاسمًا يجمع بين اليقظة المثمرة، والترافع الرصين، والحضور المستدام، وذلك بتعاون تام مع وزارة الشؤون الخارجية، وفي إطار التوجهات العامة للدبلوماسية الوطنية. وقد حرصنا على عقد اجتماعات منتظمة مع أعضاء هذه اللجنة وتمكينها من كافة الإمكانيات للاشتغال، إذ الأمر يتعلق بضرورة التعبئة المستمرة للدفاع عن المصالح العليا للبلاد وبمعركة مستمرة في مواجهة جماعات الضغط التي احترفت محاولات إلحاق الضرر بالعلاقات والمصالح المغربية في المؤسسات الأوروبية، وخصوصا في البرلمان الأوروبي، وكلما تعلق الأمر بمحطة فاصلة ومتقدمة في هذه العلاقات. ويتذكر الرأي العام تلك المحاولات اليائسة التي اعتاد تكرارها خصوم الوحدة الترابية للمملكة للتشويش على الشراكة المغربية الأوروبية في مجال الفلاحة والصيد البحري، ومساعيهم لتقويض الأمن القانوني للاتفاقيات بين الطرفين، وكذا حجم الضجيج الإعلامي المشوش على روح الاتفاقية وعلى التعاون الثابت والمتوازن القائم في هذا المجال بين المملكة والاتحاد.
وتجسيدًا منّا لمكانة العلاقات المغربية الأوروبية في دبلوماسية مجلس النواب، كانت أول مهمة إلى الخارج قمنا بها في إطار الدبلوماسية البرلمانية بصفتي رئيسًا للمجلس، تلك التي قمنا بها إلى البرلمان الأوروبي يوم فاتح مارس 2017، حيث تباحثنا مع رئيس البرلمان الأوروبي السيد Antonio Tajani ومع رئيسي أكبر كتلتين برلمانيتين في البرلمان الأوروبي : رئيس فريق حزب الشعب الأوروبي ورئيس التحالف التقدمي للاشتراكيين والديموقراطيين، ومنسقي ورؤساء عدد من اللجن الدائمة في البرلمان الأوروبي. وكان لزاما علينا التوجه إلى المشرعين الأوروبيين في تلك اللحظة التي كانت حاسمة في علاقاتنا.
ولم يكن إدراكنا لحجم التحديات التي علينا دوما أن نرفعها في علاقاتنا مع أوروبا وليد اليوم. فعلى مدى أكثر من خمسين عامًا تابعتُ، وكنت في صلب المشتغلين على هذه العلاقات، من موقع المختص بحثًا ودراسات، ومن الموقع السياسي والدبلوماسية الحزبية، ومن موقع المسؤولية الحكومية والمؤسساتية كعضو في الحكومة وكنائب برلماني على مدى حوالي ثلاثين عامًا.
لقد حرصنا على أن يكون مجلس النواب مساهما على نحو فعال في توفير المناخ السياسي الملائم للحوار المغربي-الأوروبي ولتطوير الشراكة وبنائها على أسس صلبة غير خاضعة لتقلبات السياسة والاستراتيجيا ولا للنزوعات الشخصية.
وقد كنا في مساهمتنا هذه، مسترشدين بتوجيهات ورؤية جلالة الملك للشراكة التاريخية المتميزة مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما تمثلناه في جميع مبادراتنا ومرافعاتنا ونقاشاتنا في إطار هذه الشعبة التي تتشكل من رجال دولة مشهود لهم بالكفاءة السياسية والاقتدار والالتزام الوطني، وفي اتصالاتنا على مستوى الرئاسة.
وإذا كان الخصوم يؤسسون ادعاءاتهم على الشعارات والايديولوجيا المضللة، فإننا نستند كمكونات سياسية وطنية في مرافعاتنا على عدة شرعيات، وعلى الإصلاحات التي نعتمدها منذ عقود، وعلى الصِّدْق في الشراكة وعلى الثقة المتراكمة مع شركائنا الأوروبيين الذين يدركون أهمية إصلاحاتنا ومكانة بلادنا في محيط إقليمي مضطرب، وأيضا على ما نتقاسمه معهم من قيم ديموقراطية وحقوقية وفي مجال التعددية السياسية والثقافية والحريات إلخ.
إنهم يدركون ويقدرون أننا شريك صادق ومستدام، وأن مناخنا السياسي والمؤسساتي هو الأقرب إليهم من بين بلدان الجوار الأوروبي في جنوب وشرق المتوسط، وأننا في كل التحديات المشتركة التي نواجهها، بما فيها الإرهاب والعنف والتطرف والاتجار في البشر وفي الممنوعات، نتحمل مسؤولياتنا، ليس من باب الابتزاز ولا المقايضة، ولكن لأننا مقتنعون بما نقوم به، ولأن ذلك في صلب سياساتنا، ومن صلب تقديرنا لمسؤولياتنا الداخلية وعلى صعيد العلاقات الدولية.
وإلى جانب الاجتماعات والاتصالات والمهام المنتظمة التي تقوم بها اللجنة المختلطة بين البرلمان المغربي والبرلمان الأوروبي، والتي تتابع بدقة تطورات العلاقات بين المغرب والاتحاد الأوروبي، وتحرص على المساهمة في معالجة كل طارئ في هذه العلاقات، وتتصدى لمناورات خصوم المغرب في المؤسسات الأوروبية، حرصنا على مستوى الرئاسة، إلى جانب تتبع ومواكبة أعمال هذه اللجنة، على إجراء مباحثاتٍ واتصالاتٍ منتظمة مع مسؤولي البرلمان الأوروبي، رئيسًا ورؤساء اللجن، بقصد توضيح مواقف بلادنا والترافع عن مصالحها وتعرية الخطابات التحريفية لخصومنا.
وإذا كان من دروس يمكن استخلاصها من التعاطي مع المؤسسات الأوروبية، فإنها تتمثل في :
أن شراكتنا لا تقوم على المصالح والمنافع المتبادلة فحسب، ولكن بالأساس على القيم المشتركة ومنها دولة القانون والمؤسسات والديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان ؛
أن بلادنا في تَمَثُّل المؤسسات الأوروبية هي شريك صادق ومستقر وعريق والأقرب من بين بلدان الجنوب وشرق المتوسط إلى الاتحاد ؛ وشريك يعتمد عليه في مواجهة عدة تحديات : الأمن الجماعي والهجرة بالتحديد.
أن بلادنا كذلك تعتبر شريكًا متوسِّطيًا أساسيا، لا فقط بحكم الجوار الجغرافي واعتباره يمثل جارًا للحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ودوره في بناء الجسور الأورو-متوسطية وتحمُّلِه لمسؤوليات قيادية لعدد من المؤسسات البرلمانية التي تشترك فيها البلدان الأوروبية والبلدان المتوسطية من خارج الفضاء الأوروبي، وإنما أيضا لطبيعة القضايا والملفات والمعضلات الإشكالية المطروحة على أوروبا كتحديات أو كتهديد ملموس (الهجرة غير النظامية، الإرهاب والتطرف، الجريمة المنظمة، تهريب البشر والمخدرات والأسلحة…) التي ينهض المغرب بدورٍ وازن في التصدي المشترك لها مع أصدقائه الأوروبيين. ناهيك عن المشترك الحضاري والتاريخي والثقافي الذي يمثِّلُ بالتأكيد رأسمالًا رمزيًا نصنع المستقبل المشترك على هديه وباستثماره.
أن مستقبل العلاقات المغاربية الأوروبية لن يقوم على نحو متين ومستدام دون الدور الإقليمي والقاري ودون تقدير المكانة المتميزة للمغرب، اعتبارًا لإمكانيات بلادنا والإصلاحات التي أنجزتها، مع كل كلفتها على مختلف المستويات، وأيضًا بحكم التاريخ وعراقة الدولة المغربية وبفضل التراكم في سياساتنا إزاء الجوار الأوروبي.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 01/09/2021