حوار مع الناقدة والباحثة ابتسام الوسلاتي : نصوص بيرم وثيقة أدبيّة تشهد بعبقريته وتمرده وثورته

ابتسام الوسلاتي ناقدة وباحثة تونسية، اختارت دراسة الأدب التونسي في مرحلته التأسيسية،مشروعا وطنيا، ومواطنة ثقافية، كانت البداية مع كتابها الأول «في الشعر العصري التونسي“، ثم كتابها عن «مجموعة تحت السور» التي شكّلت محطة تمرد على الثقافة التقليدية ثم كتابها الصادر مؤخرا بعنوان «محمود بيرم التونسي: الصورة وفتنة المتخيل» حول هذه الحفريات في الذاكرة الثقافية التونسية كان لنا معها هذا الحوار:

 أولا .. نبدأ من كتابك الصادر مؤخرا “محمود بيرم التونسي الصورة وفتنة المتخيل “، لماذا بيرم من بين الكتاب التونسيين ؟

يندرج كتاب “محمود بيرم التونسي الصورة وفتنة المتخيل” الصادر حديثا عن دار الجنوب في سياق الاشتغال على تجربة جماعة تحت السور التي بدأت مع كتاب “الهامشية في الأدب التونسي” فكان ذلك حافزا للاهتمام بشخصيّة شدّت انتباهي لانتمائها لمجتمع تحت السور، نتحدث عن محمود بيرم التونسي الذي مثلت حياته وإبداعه محور اهتمامي وحافزا للبحث في الجوانب المهمشة من هذه الشخصيّة. وشكّل مناسبة للتعرف على المدونة الثّريّة لبيرم وإعادة قراءة نصوصه وفق مقاربات حديثة من شأنها إيلائه المكانة التي هو بها حقيق وقد ركزت في هذا الكتاب على مجمل النصوص التي كتبها في المنفى من خلال دراسة الصورة الأدبيّة للآخر باعتبارها تمثل تجسيدا لفعل ثقافيّ، فالنص الأدبي يسهم في المزج بين الثّقافات والتّصوّرات والخيال، وقد تميّزت هذه المرحلة باكتشافه للآخر مثله في ذلك مثل ثلّة من المثقفين العرب الذين مثلت الرحلة إلى الغرب بالنسبة إليهم فرصة للبحث عن سبل تحقيق التواصل بين الأنا والآخر في خضم سياق فكريّ وحضاريّ فرض طرح هذه القضية بمختلف خلفياتها وأبعادها. فقد عاش بيرم وفيّا لبيئته على الرغم ممّا قاساه من آلام الغربة والنفي وكانت نصوصه وثيقة أدبيّة تشهد بعبقريته وتمرده وثورته.

 

وما الذي استفزك للاقتراب من عوالم جماعة السور ومساربها الخفية والمعلومة ؟

إنّ الغوص في عوالم جماعة تحت السور كان منطلقه الإيمان بدورها في تغذية المشهد الثقافي التونسي خلال الثلاثينات من القرن العشرين بروح حداثية. فشكّلت هذه الجماعة لحظة فارقة في تاريخ الإبداع التونسي كشفت الغطاء عن المواضيع الأكثر جرأة وإحراجا للمنظومة القيمية والمعيارية السائدة وطرحت قضايا المقصيين والمهمشين أولئك الذين يمثلون المرآة الحقيقية للمجتمع. وإنّ العودة إلى مختلف الأعمال الإبداعيّة لأفراد هذه الجماعة يؤكد انخراطهم في سياق الدعوة إلى التحرر الفكريّ وذلك عبر التأسيس لممارسة أدبيّة تقوم على البحث عن أشكال فنيّة جديدة فتحوّل الهامش إلى متن، أمّا الكتابة فصارت فعل رفض ومقاومة تنهل مادّتها من المسكوت عنه والمقصي. ولكن مقاربة جماعة تحت السور من منطلقات أخلاقيّة واعتبارها جماعة منحرفة حجب قدرتها على رسم أفق جديد للكتابة يخرج عن الأنماط السائدة لذلك تركز مجهودي على تسليط الضوء على منجزها الإبداعي، وعلى دورها في الحراك الثقافي في سياق رؤية أدبيّة جامعة هي الهامشيّة بما هي تشكيل فكريّ اتخذت وجهين: فهي هامشيّة فنّ في وجهها الأول وكان الإبداع هو الفضاء الذّي مارست من خلاله هذه الجماعة رؤيتها، أمّا الوجه الثاني فيتعلّق بهامشيّة الإنسان الذي يقرر موقعه.
*في نفس السياق ما الذي تبتغيه ابتسام الوسلاتي من هذا الحفر في الذاكرة الأدبية التونسية ، ومن هذا الاختيار لدراسة التجارب التأسيسية؟
إنّ اختياري الاشتغال على هذه التّجارب المسكوت عنها في تاريخ الإبداع التّونسيّ. تلك التي لم تعرف حقّها من الدّراسة والبحث على الرغم من أنها من التجارب التي أسست للأدب التونسي يندرج في سياق العمل على إبراز خصوصيّاتها فكانت مقاربة هذه التجارب محكومة بسياق تاريخيّ لم تكن فيه العقليات مهيأة لقبول التجديد، ولم يكن تقصي مظاهر الإضافة التي حققتها أمرا يسيرا بقدر ما يحتاج من الباحث أن يتجرّد من الأحكام المسبّقة والقاضية على هذا الإبداع بالعقم والجدب فتندرج قراءة هذه النصوص وتأويلها في سياق تحديد للأطر التي لا يخرج عنها البناء الفكري والمعرفي مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة النص. فقد شكّلت هذه التجارب جزءا من الذاكرة الأدبيّة التونسيّة وانخرطت في مشروع وطني غايته الدفاع عن الكيان التونسي ضدّ سياسة التهميش التي يمارسها المستعمر في ظلّ مناخ سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي كان يستدعي من المبدع أن يهجر برجه العاجي ويلتحق بصفوف الشعب.

 الكتاب الاول هو أشبه مايكون بإثبات الهوية الأدبية، بالمناسبة، ماالذي بقي موشوما لديك بخصوص كتابك الأول ( في الشعر العصري التونسي 1900 – 1930)؟

كانت تجربة الشعر العصري لحظة مهمّة من لحظات التجديد في الأدب التونسي لعبت دورا في التمهيد لإرساء ركائز إبداع تونسي يواكب الواقع ويرصده، فتركز مجهودي على تقصي ملامح التجديد التي لحقت بالنّصّ الشّعريّ ورصد شواهد الإضافة التي تعكس رؤية هؤلاء المبدعين الذين وضعوا اللبنات الأولى لتأريخ الأدب التونسي ولعلّ أهميّة هذه التجربة تتجلى بالخصوص في فضل التأسيس والتأصيل لهذه التغيّرات التي طرأت على القصيدة، وفي روح المغامرة التي تحلى بها العديد من شعراء هذه المرحلة.

 أي من المناهج النقدية تتبنى ابتسام الوسلاتي؟ وهل تمارسين سلطتك النقدية مع ما تكتبينه؟

لا أتبنى منهجا نقديا بعينه بقدر إيماني بضرورة تنويع المناهج والمداخل والمقاربات باعتباره رهانا معرفيا يسمح لنا بقراءة هذه التجارب من منظور مختلف. فالتّقيد المنهجي عموما هو تقيّد بالشّروط العلميّة، تفاديا للانغلاق المنهجي الذي يضيق من حرية الإبداع. والمقصود بالمنهج النقدي في مجال الأدب تلك الطريقة التي يتبعها الناقد في قراءة العمل الإبداعي والفني قصد استكناه دلالاته وبنياته الجمالية فيكون النص الأدبي هو الذي يستدعي المنهج النقدي وليس العكس أي أن يفرض المنهج قسرا على النص ومن هنا يحصل التفاعل بينهما. أمّا عن السلطة النقديّة فإنني لا أؤمن أنّ النقد سلطة تفرض على النص فرضا بقدر ما يتعلق الأمر بمحاورة وتناغم بين الناقد والنص الإبداعي حيث تمثل المناهج الأدبيّة مداخل تسمح بالغوص في النسيج النصّي لفهم أبعاده ودقائقه دون أن تكون معطى جاهزا يسلط على النص.

لا تكمن أزمة النقد في قلة المتابعات النقدية ومقاربتها ، بل تكمن في سوء فهم مهمة النقد عند كثير ممن يمارسونه أو يتلقونه ويطالعونه…ما تعليقك؟

أشاطرك الرأي تماما. يكمن الإشكال في ما التبس بالعمليّة النقديّة من أفكار مسبّقة ومغالطات كما قال شارل بيغي حول حرفة النقد هي حرفة شؤم لا يُنصح بها إلاّ قليلا، على أساس أنّ النقد ليس متاحا للجمهور بل إنّ الأعمال النقديّة توّجه إلى جمهور الأكاديميين وهذا ما يفسر عزوف دور النشر عن إصدار الأعمال النقديّة وتوجهها نحو الأجناس الأدبيّة مثل القصة والرواية والشعر باعتبارها الأقدر على الوصول إلى الجمهور ـ فظلّ النقد حبيس مكتبات الجامعات والجامعيين. أضف إلى ذلك فإنّ التصوّر الذي كرسته وسائل التواصل الاجتماعيّ الحديثة أضرّ بالنقد حيث أصبحت التعليقات التي تنطوي على الكثير من المجاملات تدخل في باب النقد في حين أنّ النقد منها براء هذا ما أسهم في إفراغ العمليّة النقديّة من أغراضها المعرفيّة فكلمات من قبيل نصّ رائع وجميل…..وغيرها من العبارات كثير ليست نقدا للعمل بل تدخل في باب المجاملة بما يقتضيه الذوق واللياقة.

 يواجه البحث العلمي بمختلف دول العالم العربي كثير من المشكلات ، فهل من متاعب ومعوقات وأنت تنجزين مشاريعك وحفرباتك في الأراضي المقصية والهامشية في الأدب التونسي؟،

فعلا هناك صعوبات عديدة تواجه البحث العلمي وقد واجهت الكثير منها خاصّة أنني أشتغل على المقصي والمهمش في سياق إعادة قراءة هذه التجارب الفرديّة والجماعيّة التي عرفها الأدب التونسيّ من منظور جديد، بالتوقّف عند خصوصيّاتها وتقييم منجزها ولن يتسنّى بلوغ هذه الغاية إلاّ إذا نظرنا إلى نصوص أفراد هذه الجماعات الأدبيّة والفنيّة فوضعناها على محكّ الدّرس وتناولناها في ضوء مقاربات من شأنها أن تكون وفيّة لروح هذه النصوص، فتكون مداخل علميّة لا لمجرد التغني الرومانسي بوضعيّة مؤقتة بل لكشف خصوصيّتها. وهذا ما يجعل التحدي أكبر علما أنّ تقييم هذه التجارب التي عرفها الأدب التونسي خضع في أغلب الأحيان إلى مقاربات عاطفية سلبت عنها حقها في الإضافة أو أنها تتناولها بنوع من التقديس المبالغ فيه باعتبارها جزءا من الهوية الوطنية التي يحتفى بها أحيانا احتفاء فلكلوريا.

 ما تقييمك لحصاد غوصك و رحلتك في أراضي الهامش والمسكوت عنه ‘بدءا من (في الشعر العصر التونسي) ، حتى (بيرم التونسي)، مرورا ب (جماعة السور)؟

يتنزل مجهودنا في إعادة قراءة هذه المراحل التأسيسية التي مرّ بها الأدب التونسي دون تقديس ولا تبخيس لقيمتها فنجازف بدراسة هذه النصوص والوقوف عند أبعاد رسالتها الفكريّة وفق مقاربة تجمع بين جملة من العناصر أوّلا طبيعة النّصّ، ثانيا طبيعة السياق الذي ظهر فيه، ثالثا اعتماد أدوات معرفيّة قادرة على تفكيك التجربة. وقد تنزل مشروعنا في سياق البحث في خصوصيّة هذه التجارب بنقائصها وكمالياتها لأنّها جزء من إرثنا الحضاريّ الذي علينا أن نتقبله مغتبطين أو كارهين، ناظرين إليه بعين المودة أو السخط على حدّ تعبير محمد صالح الجابري بما أنّه مرحلة من مراحل تاريخنا الأدبيّ ولبنة أساسيّة في سيرورته نحو التطور عبر مختلف الأجيال، فللأجيال الأولى فضل التأسيس والتمهيد لممارسة إبداعيّة مختلفة.


الكاتب : حاورها: عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 22/09/2021