عباس بن فرناسْ يحط بحاضرة فاسْ ( 1 )

إلى أصدقائي الجراديين وهم يضعون أولى خطاهم بكلية ظهر المهراز في منتصف السبعينيات بفاس: محمد العرجوني ـ محمد السايح ـ سعيد بونوّة ـ عبد الرحمان طنكول ـ حسين موزوني ـ العربي عبّي ـ محمد بوضرسْ ـ مصطفى حمزاوي ـ والمرحوم: رشيد أولحاجيَّنْ.

أَسْرِعي أيتها العجوز الشمطاءُ.. أيتها الهَرِمَة الحيزبونُ؟ من أيّ حديد صديء ـ مَوَّهوهُ بالأحمر القاني، وأخفوا سوءَتَه بصورة غزال رشيق ـ قُدِدْتِ؟. سلحفاة أنتِ ـ وأيم الله ـ محال أنْ تَصِلي بنا إلى هدفنا المنشود. إذْ كيف تَصِلينَ، ومتى، وأنت تقفين عند كل شبح يحمل صرَّةً أو يلوّح بعصا، وعند كل كومة حجر، ولدى كل محطة مهدومة تَصْفِرُ فيها قُبَّرَاتُ الحكاية، وعصافير الدوريّ المشردة التائهة؟. هديرُك مزعجٌ، ودخانك أسود سميك وقاتمٌ، وريحك مُقَزِّزَة خانقة، وعادِمُك مُنَفِّرٌ لا يطاق. فإلى متى سنظل نَحْشو أنوفنا بقطع القطن والفليّن، والكتّان؟، ومتى سنتنفس الصعداء، ونتنشق الهواء الأزرق العليل الصافي الرقراق مثل أمواه بحيرات ساحرة هاجعة ومتوثبة في سفوح وخواصر الجبال، تكتنفها الخضرة الزاهية، والأيك الشَّجيرُ، وتحنو عليها سماء لازوردية، وتدوّمُ على ضفافها طيور مزوقة مزخرفة الريش كأنها هبطت من فردوس عدن. بحيرات يذوب الصحو منها، ويكاد من الغضارة يمطر، فيما قال جدي وسيدي أبو تمّام.؟ وإلى متى نكف عن غنائنا الجماعي الذي هدَّ رئاتنا وحناجرنا:
يا فاسُ حيّا الله أرضكِ من ثرى // وسقاكِ من صوْب الغمام المُسْبلِ
يا جنةَ الدنيا التي أرْبَتْ علــى // حمصٍ بمنظرها البهيّ الأجمــلِ
ولم ينفع، البتّةَ، في حجب ضجرنا الذي ازداد، وتأففنا المتصاعد وأنت تطوين المسافات، وتنهبين الطريق، وتسعلين عند كل منعرج، وتزحفين عند كل عقبة ومرتفع يا أتان الشيخ المهزولة؟
الساعات الخمس الفاصلة بين وجدةَ وفاس، أصبحت سبعاً؛ والفجر الذي حفنا بنداوته، ورشنا برذاذه، ونحن انتظارٌ للكارْ بشارع مراكش الشهير، تبخر تحت شمس خريفية حارقة شرعت ، منذ انبثاقها، تنهش بقاياهُ المُبْتَردة نهشا، وأنتِ لاتزالين تُقَرْقِرين: أمعاؤك تتلوى، وخياشيمك تشم الغبار، ولسانك يلعق أويقات النهار. جاثمة حيث أنتِ كأنما أوْصَوْكِ بتعذيبنا، وجَعْلِنا نرتابُ في وصولنا إلى حاضرة الأدارسة في الوقت المطلوب، والمبتغى المرغوب، إذ أن طوابير طويلة، طوابير لا تحصى رؤوسُها، احتلت المكان، وغشيتْ الصفوف الأولى، وسدت المنافذ في وجوهنا.
صرنا نحن الفتية الجراديين السبعة نتوسل إلى السائق أن يتحرك، أن يقود ويسوق حديدَتَه الخرافية المسماة بالحافلة العمومية، أنْ يُلْهِبَ ظهرها بالسوط كأنها حمار حرونٌ، أو بغلٌ شَمَسَ فجأةً في عز ظهيرة قائظة، فلا هو مَشَى، ولا الماء ُمع مُمْتَطيه وصاحبه، متوافرٌ.
وها نحن في الطريق التي لا تكاد تنتهي، نُمْتَخَضُ، فيعترينا دوار ودوخةٌ لا قِبَلَ لنا بهما، وينتابنا شعور داخلي غير مبرر بأننا لن نصلَ أبداً. أزْمَعتُ أمري، وفارقتُ صحبي ثم طرْتُ. مُدّا لي جناحان لاَمرئيان، جناحان عريضان هائلان مثل جناحيْ نسر ملكي. الجبال والهضاب، والتلال، والأودية والأشجار، وصحراء جرسيفْ تحتي، والناس جيئة وذهابا يهرولون كلٌّ صوب حاجته وبغيته، كأنهم غربانٌ خِماصٌ تبحث عما يملأ حوصلتها.
سمعت صحبي يهللون، وينادونني: عباس بن فرناس، ياعباس أيها الفلكي الألمعي، يا سيد الخوارق والصنائع والمعجزات، توقفْ لحظةً لنرافقك فنحن ظِماءٌ وبنا توقٌ للوصول سريعاً مثلك. قلت: كيف تلحقون بي وأنتم إنسٌ بلا حول ولا قوة، ولا أجنحة، مشدودون إلى كراسي مبقورة ضاحكة ومُخَلَّعة؟.
واصلت طيراني خفيفا كندفة، محلقا كنسمة، طيرانا استغرق مسافة الملكة بلقيس إلى الملك والنبي سليمان. ومسافة طيران الهدهد الذي جاءه بالنبإ اليقين.
ثم حَطَطْتُ وأنا في كامل خفتي وفرحتي، بظهر المهراز ( المهراسْ )، ظهر الواعدين والموعودين بالجنة أو بالجحيم والتهراسْ. حطَطْتُ في باحة الجامعة العامرة، وكانت تعج بالطالبات والطلاب الآتين إليها من شرق ووسط وشمال وجنوب المغرب، وكلهم أملٌ في أن « يفوزوا « بغرفة في الحي الجامعي، غرفةٍ أشبه ما تكون بزنزانة. لكن، طوبى للزنازن حين تكون موضع علم، ومكان مدارسة وشغب ثوري، وحرية بلا ضفاف.اا
اِسْترْعَى انتباهي حشدٌ من الطلبة يرددون شعارا مبهما لم أتبيّنْ معناه، وإنْ طَرَقَتْ سمعي كلمة ( محسوبية ). هكذا، إذنْ، أُسْتَقْبَلُ. أهكذا، إذنْ، ستمر الأعوام السِّمانُ أو العِجاف بالجامعة؟
قلتُ: فْلأَخترْ غرفةً في الطابق الأول تكون في أقصى يسار الحي الجامعي بمحاذاة حي الطالبات لعل أنفاساً عَطِرةً منهن تصلني فأستطيب وجودي، ويروق نشيدي، وأقهر بها الضيق والحيف والضجر، والزحام الذي يهزهز الجدران، ويَدُكُّ السلالم والأدراجَ. فالحيان متقاربان متلاصقان. والمطعم على مبعدة أشبار، وساحة العشق والغرام على ما يرام. وجَدْلُ ضفائر الأماني والآمال، ونسج سجاجيد الأحلام في الحب والثورة، قيدَ اليد، وطوعَ التحقق والبَنان؟ا
نوديَ عليَّ فجأةً: عباسُ.. يا عباسُ، إنك تقف في ساحة هوشي مِنْه، ورِواق أنجيلا ديفيسْ، وتطأ مدنا وقرى فلسطينية مقدسة وتاريخية صارت إلى تلاشٍ وطمرٍ. إنها أريحا، وطولكرم، وبيسان، والبروة، وحيفا ويافا. نحن نُحْييها، ونرد غائلة الغدر والطمر والنسيان عنها بقطع دابر المؤامرة العربية، والصهيونية العالمية، وبتسميتها ، وتَرْداد أسمائها وذاكراتها، وذكرياتها. هنا كلية الآداب والعلوم الإنسانية. هنا قبر الرجعية والماضوية، والأمبريالية، وأذناب الأمبريالية، ووكلاء البورجوازية، وَسَدَنَة الكومبرادورية. وهاهي فُرُشٌ للكتب المصادرة والممنوعة، والمهربة، و» المخيفة»؛ فخذها بقوة. فمنذ اليوم صارت إنجيلَكَ، وإنجيلَ صحبك ورفاقك الذين لا يزالون محشورين متراصين كالسردين المعلب في الحديدة الخرافية الصدئة، في الحافلة العمومية المَصْدورة. وعندما ينزلون بعد ساعات أو أيام، كنْ دليلَهم إلى الأماكن الساخنة، والمدرجات المنيرة، والأساتذة الأجلاء الذين يدرسون بالكلية وهم مَنْ هُمْ مكانةً، وعُلُوَّ كعب في الأدب والشعر والفكر واللسانيات، وفقه اللغة، إِنْ في وطنك، أو في أمصار البلاد العربية.
أفقتُ على نَخْسٍ في جنبي أوْجَعني، وهديرٍ في رأسي خَضّني، وضوضاءَ أقدام تصعد وتنزل، وصوتٍ مُنْكَرٍ أجَشَّ يوقظني:
ــ لقد وصلنا يا محمد. أفقْ خفيفَ الظلِّ؟
ــ أين وصلنا؟، على رِسْلِكُمْ أيها الأصدقاءُ. لم أُرِكُمْ بعدُ، مقصفَ الحي، ففيه الحلوى الشهية، والشاي المنعنع، والقهوة المنعشة. وفيه الرائع مارسيلْ خليفةْ يستحضر درويشْ، وسميحْ، والمْناصْرَةْ موسيقيا. وفيه أغاني الثورة الفلسطينية: ( أغاني أشبال فتح، وأشبال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأشبال الجبهة الديموقراطية، التابعين على التوالي لياسر عرفات، ولجورج حبش، ولنايفْ حواتْمةْ ). وفيه فيروز ملكة متوجة بلا منازع، تصدح آناء الليل وأطراف النهار. تشحذ العزائم، وتملأ الوجدان عنفوانا وحبورا وأملا: ــ ( سنرجع يوما إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى // فيا قلبُ مهلاً ولا تَرْتَمِ على درب عودتنا موهَنا. سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى) . ثم: ( مَرّيتْ في الشوارع .. شوارع القدس العتيقة) . ثم: (سيفٌ فلْيُشْهَرْفي الدنيا وتَصْدَعْ أبواقٌ تَصْدَعْ الآنَ الآنَ وليس غداً أجراسُ العودة فلْتُقْرعْ. أنا لا أنساك فلسطينُ أنا في أطيافك نسرينُ). وَ ( لأجلك يامدينة الصلاة أصلي // لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائنْ يا قدسُ يا مدينة الصلاة، أصلي ).
ــ محمد: قُمْ ـ يا أخانا في الله ـ اِجمع مؤونتك الضئيلة، واحزم حقيبتك وعتادك. لقد قهرتنا السلحفاة، قهرتنا الحيزبونُ. يا لَسَعْدِكَ لقد نِمْتَ واستغرقتَ في النوم أكثر من ساعتين. سنمضي قُدُماً إلى الحي الجامعي لحيازة غرفنا. ولْيَخْتَرْ كل منا من سيكون معه فيها. وبعدها ننزل جماعةً كعصابة مدججة إلى الملاّحْ، أو بوجلودْ ( أبو الجنود )، فالثمن مُوَاتٍ، والأكل شهي.
ــ هيّا بنا ـ إذنْ ـ أيها الصحب العجيبُ..اا


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 24/09/2021

أخبار مرتبطة

كان الأستاذ والمؤرخ إدريس بوهليلة واحدا من ضحايا وباء كوفيد 19، عندما سقط صريعا بعد أن فتك الوباء اللعين بجسده.

  سفر بلا تذكرة على متن القطار ، كان يستلٌ – بين الحين والآخر – صورتها القديمة ، من بين

يصدر للقاص محمد بوشيخة عن منشوراتSO-ME PRINTبأكادير، مطلع شهر شتنبر2024م، مجموعة سردية ثانية في جنس القصة القصيرة جدا بعنوان: «طيور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *