تراجيديا التشظي : قراءة في «أتربة على أشجار الصبار» للروائي عبد الواحد كفيح

كان جدي يقول: لا يكفي أن تكون لنا عينان. بل أن نتعلم كيف نستخدمهما. هكذا استرجع موبسان شريط حياته، وبالضرورة ذلك الطفل الذي كانه، عندما دأب فلوبير على مرافقته ليجلسا أمام شجرة فيمنحه ساعتين ليصفها. كان لهذا الصنيع مفعول السحر، به تعلم موبسان أن يرى.
فأن نرى شيءٌ معقد إذن؟ وليس سهلا في متناول الجميع كما قد يُفهم؟

تمهيد لابد منه

يطالعنا عبد الواحد كفيح بعمل روائي متميز؛ برهن من خلاله-وعبر مساره الإبداعي الحافل؛ الذي امتد من الثمانينيات إلى الآن-عن علو كعبه في ميدان السرد، تشهد على هذا أعماله الروائية والقصصية، بدأ مسيرته كقاص لينتقل بعد ذلك إلى عوالم سرد أرحب، ليحفر اسمه روائيا مسكونا بهاجس التجريب، هذا، دونما إغفال انشغالاته النقدية. من أعماله نذكر على سبيل المثال لا الحصر: «أنفاس مستقطعة» «رسائل الرمال» رقصة زوربا» «روائح مقاهي المكسيك» وغيرها من الأعمال التي بوأته مكانة متميزة في عالم السرد الأرحب.
انتخبنا لهذه القراءة المتواضعة روايته «أتربة على أشجار الصبار» الصادرة مؤخرا في حلة أنيقة عن دار نشر أكورا للنشر والتوزيع بطنجة؛ وهي رواية لا تقدم نفسها إلى القارئ طيعة، بل على العكس من ذلك تماما، هذا التمنع؛ فرضته حبكتها المربكة التي يتناوب عليها ثالوث: الراوي، والسارد، والكاتب، وعليه، وجب الخضوع لضرورات الحيطة والحذر، بدءا من عنوانها الملغز الصاعق المفجر لدبوس السؤال قبل الولوج للبهو النصي.

من العنوان
إلى النص

من المعلوم، أن مرحلة نهاية القرن التاسع عشر قد أحدثت خلخلة في ميادين عدة، فمع انتعاش خطاب التجريب بدأت نواميس التمرد على القوالب الكلاسيكية من الداخل والخارج، تمتد وتتمدد، لتشرع بذلك ممكنات كتابة جديدة. إضافة إلى ما شهدته مرحلة «بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم إعلاء شأو الجدل/ السجال الذي عرفته الساحة النقدية من خلال التعارض القائم بين كل المناهج الفكرية والنقدية الحديثة، كالوجودية، الظهراتية، الملحمية، السريالية… وما استتبع ذلك من تحديات فرضت نفسها على الخطاب النقدي العربي قاطبة، خلال فترة الثمانينيات، بعد دخول مناهج ما بعد البنيوية كالسميائية(السميولوجيا) والتفكيك… أفضى هذا التنوع في الاتجاهات والتيارات الأدبية والنقدية إلى إحداث «تغير في وظيفة الأدب وأشكال وآليات اشتغاله» .
من هذا المنطلق، وفي ظل صعود فلسفات التفكيك، استعاد العنوان (بما في ذلك النصوص الموازية: صورة الغلاف، الإهداء..) جذوته بعدما أقصته وهمشته النظريةُ الأدبية الكلاسيكية، أو بتعبير ياكبسون لا شيء يهم غير النص. سيستعيد العنوان حظوته التي فقدها، ومعه كل الأشياء التي اعتبرت هامشية، لا مفكر فيها/مسكوتا عنها، هكذا سيتوازى الهامش والمركز على مستوى الأهمية، وإن كان في بعض الأحيان للأول دور حاسم في قلب بنية المركز/النص.
يعرف جيرار جنيت العنوان، «بأنه البوابة الرئيسة للولوج إلى بهو النص الروائي، والتعرف على متاهاته وتلمس أسرار لعبته وإدراك مواطن جماليته…» فهو إذن بهذا المعنى يعد عنصرا مكونا لنصية النص وأدبيته. أما عند دريدا فالعنوان، وإن كان يقدم نفسه، بصفته مجرد عتبة Seuil للنص، فإنه بالمقابل، لا يمكن الولوج إلى عالم النص، إلا بعد اجتياز هذه العتبة. إنها تمفصل حاسم في التفاعل مع النص. فالعنوان؛ قد يشجع القارئ على تلقي النص، وقد ينفره من قراءته. وبالتالي لا يظل العنوان، مجرد عتبة للنص، بل مفصلا محددا لفعل قراءته، ومحفز لعملية استهلاكه واقتنائه، إنه باستعارة أفلاطونية نوع من الفارماكون سم وترياق، فعندما يستميل القارئ إلى اقتناء العمل/النص وقراءته يكون ترياقا، محفزا على فعل القراءة، وحينما ينفر القارئ يغدو سما، يفضي إلى موت النص.
بهذا؛ تصير العناوين مركزية في كل نص/عمل سواء كانت علامة تجارية/تسويقية تنحو منحى دغدغة العواطف للي عنق القارئ لاقتناء الكتاب كما يذهب إلى ذلك بارت الذي أخضع العنوان في تصوره لقانون السوق، يقول بارت: «ما يمكن قوله فورا، هو أن المجتمع يحتاج بسبب الدوافع التجارية، وحاجته إلى إدماج النص في الإنتاج والسلعة إلى علامات للوسم Des opérateurs De Marque للعنوان وظيفة وسم بداية النص، أي أنه يحوله إلى سلعة» أو قد تكون من جهة أخرى(العناوين)، مدخلا لتأسيس المفارقة وهذا في رأيي هو الراجح، وفي كلتا الحالتين فإن العنوان هو بمثابة مقصلة تخضع العابر/القارئ لشروطها.

بالعودة إلى عنوان الرواية اللافت، «أتربة على أشجار الصبار» نجده قد انتصب وسط صفحة الغلاف، مع ميله النسبي إلى اليمين قسرا، تركيبيا: تحيل أتربة-وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه أو تلك-صرفيا هي جمع قلة مشتقة من تراب، جمعه أتربة أو تربان: والتراب متعدد الدلالات في المعاجم، فهو قد يعني ما نعم من وجه الأرض، أو قد يأخذ معاني أخرى، منها: كأن نقول مثلا: تحت التُّراب : ميّت ، – تراب الأجداد : أرض الوطن ، – سفَّ الترابَ : ندِم وتحسّر ، لا يملأ عينه إلا الترابُ : طمَّاع جشعِ.ثم تأتي [على] وهي حرف جر لتأخذ معنى الظرف فوق، أشجار: اسم مجرور، الصبار: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهر على آخره، جاء المركب الإضافي [أشجار الصبار] على صيغة جمع الكثرة، وتسمى كذلك بالتين الشوكي، وهو نوع من أنواع الفواكه.
إن التعويل على الدلالة الحرفية لهذا المركب لن تفيد القارئ في شيء، الكمون عند هذا الحد يجعل الدلالة مستغلقة على ذاتها. فحتى لو عولنا على الإبحار الجزافي، دون الأخذ بعين الاعتبار الصبار وأنواعه، سنصل على سبيل المثال.
*دلالة1: يحيل الصبار على كل ما هو مغمور، اعتبارا لكون الصبار يزرع بكثرة في الهوامش المحايثة، بحيث توصف في بعض الأوساط على أنها «فاكهة الفقراء» ولكن الإمعان فيما آلت إليه هذه الفاكهة المثمرة بعد انتشار الحشرة القرمزية التي أتت عليه، وبهذا الانقلاب يظهر كيف تتغير الدلالة ومعها القيمة، فبعدما كانت بخسة الثمن، مع تمدد يد الأطماع إليها ارتفع ثمنها وحجزت لها مكانا في الأسواق التجارية الكبرى، وقد رافق هذ التحول موجات سخرية واسعة، من قبيل (اصبر كما صبرت الهندية حتى يتغير الحال). طبعا السخرية كفعل احتجاج، لكن إلى أي حد يمكن الاطمئنان لهذه الدلالة.
يمكن الآن اختبار معطى آخر، لملاحقة سراديب الدلالات ووفرتها المطوحة بأي تأويل ممكن. ولنحاول الإمعان في موازيات نصية أخرى مقرونة بالعنوان الذي يشكل عتبة مهمة-كما أسلفنا -لا يمكن تخطيها، بالعودة إلى صورة الغلاف، نجدها تأخذ طابع الإضافة المراد منها التخصيص، أي أنها تقدم نوعا خاصا من أشجار الصبار، ليس المثمر، وإنما صنف آخر غير مثمر، وهذا الصنف معروف بأشواكه الطويلة والحادة.
*دلالة2: شكلت صورة الغلاف التشكيلية، مفتاحا لطلاسم المخبوء والمتمنع، وبهذا نفهم بعد هذا التتبع والرصد، أن عنوان الرواية رمزي، يضرب في عمق المتخيل، هكذا فالأديم/الوجه وإن نَعم فلا فكاك من وخزات الأشواك الموجعة التي تتخفى تحت الناعم والرطب، نوع من الحربائية والتمويه.

استنتاج

تأسيسا على المعاني المحايثة لبنية النص، يصير لازما على القارئ أن يتجرع مرارة السير على الأشواك، أشواك أشجار الصبار المصقولة على حدين، وأن يتحمل الوخزات وهو يقتفي أثر الحكاية/الحكايات، بهذا يمكن تمثل البهو النصي بلغة جنيت، على أنه حقل ألغام. ومن ثم، -ففي سياق هذه القراءة-وبناء على هذا السيناريو الذي نفترض من خلاله سلسلة من الموجهات التي تعمل ك»تمثيل» لعالم النص-حتى وإن خالف النص هذه التوقعات-فالباب يبقى مفتوحا لرفع الالتباسات الممكن حصولها إذا ما رواغنا النص مكسرا أفق توقعاتنا.

ملخص الرواية

اختار عبد الواحد كفيح في روايته الجديدة «أتربة على أشجار الصبار» توجيه تلابيب سرده نابشا بين حدين أو امتدادين؛ المدينة والدوار والفضاء البيني(دور الصفيح). ولأن الكاتب من طينة أولئك الذين وصفهم فرويد في هذياناته وأحلامه بأعز حلفائه.. فقد استطاع تسريد تلك المعركة الأبدية التي لطالما كانت هاجسا مؤرقا للإنسان، ذلك الصراع السرمدي الذي لا ينتهي، أو ينتهي ليتخذ مظاهر حربائية أكثر قسوة، فيتعمق التشرذم، لتشرع دهاليز التيه واللامعنى. هكذا دشن كفيح طريقا ضم كل المتناقضات الدجل/الدين، الحقيقي/العجائبي، التيه/الاستقرار، الواقعي/التخييلي، المعنى/اللامعنى، الدوار/المدينة البؤس/الرفاهية.. متوسلا ببراعة سارد مهيمن برع في سرد تراجيديا التهجير القسري.
بين نتوءات الترحيل، وغبن الفراق، وآهات التمزق والأنين، يسافر بنا السارد من داخل بهو الرواية أو خارجه سيان، بلهجة ساخرة أحيانا، يملأها العبث حد اللامعقول، وبلهجة نقدية حازمة في أحايين أخرى، تضع الواقعين السياسي والمجتمعي، على خشبة يلعب ممثلوها على نوتة مسرح المقهورين. هكذا أدت شخصيات الرواية الدور. وهكذا بنفس العملية يتبلبل المتلقي(القارئ) لتنقذف في ذهنه كومة من الأسئلة بعد انتهائه من التهام أوراق الرواية، ليصطدم بسيناريوهات المآلات. ما سر ذلك الذي ظهر غريبا ورحل أغرب «هكذا كانت ظروف نهايته مدهشة غامضة، بل أغرب من لحظة ظهوره. وظلت حكايته بأحداثها المريبة ترخي بظلالها وتلابيبها على كل لسان حتى….. آخر نفس…. من….. هذه الرواية» (النهاية/ص309) نهاية مخيبة للآمال، ولكن هي في الحقيقة هي دقة رابعة لراوٍ دق ثلاثا، معلنا في الأولى، خطر انفلات خيط السرد من يد الراوي، دقات نزعت الألفة عن المألوف، لتظل خيوط السرد منسابة، بينما الخيوط الفاصلة بين العالمين الحلمي/الواقعي فقد تواشجت حد الذوبان.
بهذا، فالرواية-قيد الدراسة-لا تحتاج جمهورا محتشدا، بل تحتاج متلقيا(قارئا يقظا مشاركا في بناء الحدث)، بهذه الطريقة امتد النفس التجريبي للرواية لتقنية نزع الألفة عبر توريد ما يعرف بالتغريب/الإغراب، كما اعتمده بريخت ركنا لمسرحه الملحمي.

أسئلة الهوية ودوالها الدالة

عرفت امبراطورية السرد اتساعا حتى أصبح النص الروائي مادة لكثير من الطروحات خارج حقل الدراسات الأدبية، فإلى جانب قدرتها(الرواية) استيعاب باقي الأنواع السردية الأخرى، بما فيها الشعرية، امتدت رحابة عوالمها لتشتمل على التاريخ، والدين، والممارسة القانونية، السياسية.. هكذا سيتم إعلاء شعار «السرد في كل مكان» إلى الحد الذي بات فيه الحديث عن التصنيف والتجنيس حديثا دون جدوى، بل عقيما.
استمدادا للمعطى أعلاه، والمتمثل في استعادة العنوان لجدواه بعدما فقدها في سياق تمركز النص في بنية النظرية الأدبية الكلاسيكية، وتحت وطأة الإبدال/المنعطف «المابعدي»-كما سلف-سيعاد الاعتبار لكل ما عُدَّ هامشيا، مسكوتا عنه، هكذا، مرة أخرى سيمتد النفس التفكيكي ليطارد رواسب الحداثة الآفلة بشعاراتها وسردياتها التي كرست تمركز الأدب الرفيع على حساب هامشية الوضيع، أو بمعنى آخر مركزية الثقافة العالمة في مقابل هامشية الثقافة غير العالمة، وحتى داخل هذه التصنيفات السابقة تطرح أشكال أخرى من التمركزات القائمة على تغليب عنصر على حساب هامشية عنصر آخر.
بهذا الشكل، ستستعيد الثقافة «غير العالمة» جذوتها لتعلن حضورها، حضور سيشرع إمكانات كتابة أخرى ممكنة، تستجيب للأحداث الساخنة التي تطبع الحياة المعاصرة بمتغيراتها المتسارعة، كتابة تتفجر من عمق ما يسميه البعض ب»المتخيل المختلف» يمكن التمثيل لهذا النوع من الكتابات-على سبيل المثال-بالأفق الذي كشف عنه محمد شكري «الذي كشف الغطاء عن واقع «وضيع» يعيش متخفيا أو مطمورا تحت ركام وغبار الخطاب الإبداعي والمتخيل المسمى «رفيعا» وتحت غطاء/قناع ما اعتبر «وضيعا» هامشيا، مسكوتا عنه، تتوارى ظواهر اجتماعية، تتراءى عبر رحابة الثقافة الشعبية، التي تمثلها المعتقدات الثقافية في صيغتها الاجتماعية أو الدينية: الأغاني الدارجة، المواويل، الأمثال…
تلك الظواهر الاجتماعية، تأخذ صور دوال ثقافية، مهما بدت سطحية، هامشية بالمعنى القديم، فهي في الوقت ذاته، دوال هويتنا الثقافية، خصوصا أمام هول التصدع والشرخ الذي يصيب تلك الهوية هنا والآن، في سياق لحظة حضارية مصيرية تمتحن فيها الهويات وتختبر ممكناتها لمواجهة التحدي المفروض واقعا.
بمعنى آخر، تعمل تلك الدوال المسكوت عنها، كصورة بالنسبة للآخر بها يكشفنا وعبرها يتعامل معنا، وهذا ما شرعته الآفاق البحثية الجديدة ك»الاستشراق».

كوة من جدار الفكر

هكذا، تزاحمنا طلعة الرواية التي تومئ دونما سابق إنذار، بأطلال مسرح بائد، أو بطيف حكواتي أخرس: لا أحد يعرف بالضبط، لا كيف ولا متى، ولا من أي طرف من الدنيا أتى ذلك الداهية الغريب، الذي قيل طلع بغتة من جوف الأرض أو هبط فجأة من السماء، حتى شق صيته، عنان الشرق والغرب، ودانت له أقلام حاضرة فاس، وتعزيم أهل مراكش الحمراء ودائرة سوس العالمة وإيالة مكناس، وبز العلماء والمنجمين الدهاة. لا أحد يعلم من يكون، في رمشة عين، أصبح رمزا من رموز الوجاهة والورع والتقوى، يوزع البركات والأدعية المستجابة والأوراد بسخاء، على المريدين الأصفياء من المتصوفة الأتباع، وحتى الدهماء والرعاع. ص8
بهذا الاستهلال المثير، يدير دفة السرد سارد مجهول، بالعودة إلى النظرية السردية التي جاء بها جيرار جنيت، نجده يميز بين نوعين من السرد، سرد عالم الحكي الداخلي homodigetic narrative؛ هذا النوع «تحكى فيه القصة بواسطة سارد عالم الحكي الداخلي، الذي هو أيضا أحد شخصيات القصة الفاعلة..»سرد متجانس الحكي» في حين يهمنا في مقام هذه الدراسة الصنف الثاني، الذي سماه جنيت ب (سرد عالم الحكي الخارجي) heterodiegetic naraative يختص هذا النوع من السرد «بقصة تحكى بواسطة سارد عالم الحكي الخارجي والذي لا يحضر بوصفه شخصية في القصة، «سرد حكي متجانس» وهو الشيء الممكن ملاحظته في هذه الرواية إذ يظهر السارد(الراوي) منفصلا تماما عن عالم الشخصيات التي يقدمها، وهذا المعطى يضعنا مباشرة إزاء عالمين متوازيين عالم الحكي وعالم الشخصيات التي تحدث الحكاية. بهذه الكيفية يدرج السارد صوت الشخصية داخل صوته، مستفيدا من الأسلوب غير المباشر الحر، أو بواسطة المونولوغ المسرود، الذي يعين على إبراز «انطباعات الشخصية وإحساساتها الداخلية.. بحيث تبدو الشخصية حية من الداخل والخارج في آن واحد» . في المثال الآتي ينفذ الراوي العليم إلى أغوار نفسية «محمد» «استحضر محمد عزة النفس والإباء، والرجولة، والشهامة وكرامة البدو الشجعان الأقحاح، استحضر كل الآلام والمصائب التي حلت بهم، تذكر أمه المنتظرة التي ما فتئ تتردد على مسامعه: نحن قوم خلقنا للشدائد. تذكر زوجته الوفية، تذكر ابنه الذي ما زالت أخباره في علم الغيب، فعوت بداخله قوى مدمرة كذئاب جائعة.. (ص126 )
هذا الملمح، يرسم إطاره في ذلك التواشج بين عالمي: الدرما والسرد، فمن خلال دراما العبث واللامعقول تحول مفهوم البطولة من الصراع مع الظروف والعوالم الخارجية، إلى دواخل النفس الإنسانية ورغباتها المسكوت عنها، بهذه لم تعد الشخصيات عائمة في الفراغ، نظرا لارتباطها بعنصري الزمان والمكان «فكل حادثة تقع في مكان وزمان بذاته، وهي لذلك ترتبط بظروف وعادات ومبادئ خاصة بالزمان والمكان اللذين وقعت فيهما» من هذه الزاوية يمكن أن ننظر إل شخصيات الرواية الفاعلة(بوعزة، وأتباعه، الميلودية وعائلتها) في علاقتهما بالفضاءين الزماني والمكاني الذي يؤطرهما (الدوار والمدينة) وما يستدعيه كل عالم من هاذين العالمين من أفضية داعمة لسيرورة الحدث، وانعكاس ذلك كله على دواخل الشخصية.
هكذا حقق طبيعة الأسلوب المختار للسارد وظيفتين اثنتين: فإلى جانب محافظته على تلفظ الشخصيات فهو لا يفرط في السرد، ومن جهة أخرى لا يترك العنان للشخصية في حرية التلفظ، بهذا يتوسل ببعض العلامات اللغوية (ضمير الغائب) بما هو سرد غياب، وبعلامات أخرى أسلوبية، كما سنلاحظ «تزعم بعض الأقاويل الموغلة في الغرابة أن سبب سطوع نجمه وعلو شأنه يعود، في لحظة تجل شيطانية إلى أرنب أسود..» (ص8) بهذا يستأثر بالكلمة، ولا يحيلها مباشرة إلى غيره، يستعين بأفعال من قبيل(تزعم- قيل-حكوا-حكى-يشاع-سألتهم..) توفر هذه الاستراتيجية كذلك إمكانية تقليب الحكاية على ألف وجه، وينظر إليها من مختلف الزوايا. فميزة هذا السارد المتواري بحسب (جاتمان) تتجلى في كونه غير واضح، ويسعى ليبقى في الخلفية وربما يموه نفسه أو يلوذ بالفرار، وهو بذلك لا يلفت الانتباه إليه، إذ يتجنب الحديث عن نفسه» .
ونحن نحاول أن نلج مناطق الظل، أو نستمتع بانقذافنا داخل هذه المعمارية المحمولة على الانزلاق، تدفعنا أشواط القراءة نفسا بنفس إلى تأمل سديمي. تأمل مفروض، فرضته عوالم الدهشة المحفوفة بالحذر والاحتراس، تأمل أملاه عنفوان السرد والوصف، أو بالأحرى تواتر الحركة كما تولد من رحم السرد، وبين الصورة والمشهد والمكان بما هي خصائص الوصف.
تأسيسا على ما سبق ذكره، تحفل الرواية بالشفاهي إلى جانب الكتابي، إضافة إلى كسرها للتنميطات السابق ذكرها؛ جدلية الوضيع والرفيع، يظهر هذا التمرد من خلال انتقال السرد إلى عالم الحكاية الشعبية وإلى أزمنة أسطورية محتشدة بالأوهام، دون الانفصال التام عن العالم الواقعي، هكذا، ومنذ الاستهلال المثير، يحاصرنا حضور المعتقد وهو أس بناء نص الرواية، ومحركها. فإذا كان مبدأ «تراجيديا التشظي» كامنا في ذلك الاعتقاد الذي جعل شخصيات الرواية تحمل إيمانها على أكتافها-بالفهم الذي يقترب من المعنى الوثني-بدل أن يكون نقطة تفيض في القلب، فإن جوهر الصراع الذي تحمله الشخصيات النامية ، برانيا وجوانيا كما تكشف عن ذلك المونولوغات، آتٍ من هذه النقطة مؤشر هذا الخلل/الاختلال يجد ملمحه البارز في الاعتقاد التي تدين به قرية لالة مريم والمداشر المجاورة، طبعا كصورة مصغرة لمعتقد يخترق التخوم، حيث الولاء الأعمى، سيجد هذا المعتقد/الاعتقاد امتداده حتى في المدينة (زيارة الوالي). بدرجة أقل، فإذا كان «بوعزة» بدهائه الماكر، قد تولى مهمة في مملكة دوار لالة مريم، فهذا على محمول النص لا يعدو أن يكون وجها من أوجه السلطة، ولأن السلطة كما وصفها بارت بأنها كرؤوس الشياطين ستجد امتداداها في المدينة في صورة مغايرة تماما، حيث سلطة المال، و»عقيدة الغلبة للأقوى واحم ظهري اليوم أكن لك إذا ستارا واقيا، وانصر أخاك ظالما أو مظلوما..»(ص160)
عمد بوعزة (الراعي، المشعوذ، المحتال، الداهية..) إلى استمالة العوام بطلق لحيته كما نصحه أحد المصدقين الأوائل، واعتمد شعارا قوليا، «والشعار شيء يخص الشخصية، طريقة اللباس، أو الكلام أو المكان الذي يعيش فيه والذي سيحضر في الذهن كلما ذكرت الشخصية، إنه مثال الاستعمال المجازي للغة وبالتحديد المجازات المرسلة» . هكذا ستتساوى شخصية بوعزة مع شخصية الفقيه أمديدش، من حيث الاشتغال على «الإيتوس» لغاية التأثير في «العوام» «هكذا هم ضعاف النفوس إذا لم يجدوا ساحرا أو مشعوذا كهانا صنعوه وآمنوا بتراهاته»(ص10)، إذ «كلما مثل في حضرته فريق من العوام، تمتم وبسمل وحوقل واختار بعناية فائقة من دولاب اللاقة، ألفاظا عذبة لا معنى لها، ولكنها ساحرة تسري مسرى السحر في النفوس. (ص13) باسم الخارق «وظف الدين توظيفا سيئا، واستغله من أجل التغطية على ما يقترفه من أفعال مشينة من شعوذة واحتيال. (ص18) ولإحكام السيطرة اتخذ «المكي» خادما مطيعا، في سياسته الداخلية «ضاعف شبكة من البصاصين، يثق فيهم ويجزل لهم العطاء ليأتوه بكل كبيرة وصغيرة. ص19 وفي سياسته الخارجية، «اعتمدوا على سفرائهم المتجولين في الأصقاع من العطارين وتجار القوافل، فربطوا معهم علاقات متينة وكسبوا ودهم وثقتهم فأصبحوا يزودونهم بالأخبار أولا بأول تحت قيادة موسى الجزار، وتحت إمرة صويلح والعربي الأعور وربيعة الملقبة بفنيدة البغية واحميدة الإشاعات وعمر السلاخ كتيبة من الدهاة كانوا قادرين على نبش الأسرار من أجداث القبور. (ص19) «ولأن السلطات القوية تحرسها الخرافات العظيمة، ولما كان الشيخ والحاشية يستخدمونه(بوعزة) ورقة رابحة في أمور دنياهم، وترجيح كفتهم في مواجهة العوام، فقد باتوا يأتمنون بأوامره في طقوسهم وشعائرهم الدينية والدنيوية، لا يردون له طلبا ولا يعصون له أمرا.. (ص14).
ختاما، وبهذه القراءة المحمولة على الانزلاق، مهما توغلنا داخل البهو النصي، ومهما احترسنا ونحن نجاري مسار الرواية السردي التراجيدي المتكسر، والذي لم ينضبط للخطية السردية المعهودة، في المقابل تم التعويض عن ذلك بتقنيات من قبيل: الاسترجاع والاستباق، اعتبارا لقناعة الكاتب نفسه الذي صرح في سياق، أنه لا يعطي منومات للقارئ، ومن ثم فهذا الإجراء يفتح أمام القارئ أبواب التأويل لتنظيم الأحداث والمشاهد خلال زمن القراءة.
في ما يخص الشخصيات الرئيسية في الرواية، وهي شخصيات نامية حية من الداخل والخارج، تتطور من موقف لآخر، كل موقف تظهر تصرفا جديدا، عكس الشخصية المسطحة الجاهزة، إلى جانب كل هذا، نجد أن الشخصيات الرئيسة جميعا محكومة بفعلي «التحول والتجاوز»، بوعزة من راعي إلى ملك ينقصه عرش وصولجان، لكن نهايته كانت مأساوية غامضة، يعود السارد بأسلوبه غير المباشر الحر-في الفصل الأخير من الرواية-لعرض المزاعم التي ترافقت وخبر اختفائه الغامض.
من جانب آخر، نجد الميلودية وكنتها ايزة وابنها محمد وابنه الشرقاوي، لم تفارقهم صدمة التهجير ولم تنطفئ لديهم جذوة الانتقام، إلا أنه بعد التشتت، ومع فارق دال، بقي الشرقاوي الابن محافظا على قيم الوفاء على الرغم من الإغراءات والإغواءات، حيث وقع بين رغبتين متناقضتين، «الحاج يدعوه للمغادرة في كل مناسبة وبدون مناسبة، والصالحة مهددة تتوعده بالويل والثبور إن هو حاول التفكير في المغادرة.. بين حاقد خسيس، آخر مغرم لعوب» (ص196). أما الميلودية ومحمد فكانا مدعاة للتحلل «انتقلت الميلودية ويزة إلى المدينة، في قفزة نوعية عملاقة، جعلتهما تنتميان إلى طبقة أخرى من البشر الذين يسكنون قلب المدينة في الأحياء الراقية. واتخذتا لهما هيئة نساء الطبقات الراقية، هيئة تتناسب ومقامهما الرفيع. عرفتا أنهما خرجتا من منطقة الخطر بعد بناء منزلهم الأول، وهاهما تتبوآن مراتب الرقي في سلم اجتماعي أرقى وهما في منزلهما الثاني في الوقت الذي يستفيد فيه الناس من قواهم العقلية التدبيرية استمد محمد نجاحه من قوته الجسمانية وذكائه البدوي، ومن دعم عيسى الروبيو صاحب سينما الشعب وصاحب الحل والعقد. (ص280) لكن لم يشفع هذا التسلق الطبقي، والتحول من حال إلى حال، أن يمحي نتوءات النفس المقذوفة في عوالم الفراغ، ظل الشرقاوي بحكايته المتفردة ومحمد والميلودية بأسطورتهما منذورين جميعا للتآكل من الداخل، من التمزق والتشظي.. هكذا يمكن تلمس مآلات التراجيديا في الداخل والخارج في الأفضية والساحات، في اللغة والتراكيب، في كل جزئية من جزئيات هذا النص. وما العودة إلى دوار لالة مريم في النهاية إلا تأشير خصوصا بعد كشف خديعة التهجير وما رافقها من عذابات التشظي والانشطار، وما تلاها من انخراط إرادي بعد فك طلاسم المدينة الغول في لعبة حقيرة، عبر التلذذ بممارسة نفس الأفعال على من هم أسفل.. حيث تطأ القدم المصائر لتسلق مراقي الطبقات مستفيدة من الريع.


الكاتب : الحسين الرحاوي

  

بتاريخ : 24/09/2021