المهدي بن بركة في مذكرات المهدي العلوي: كيف عاشرت الشهيد وكيف عشت جريمة اختطافه

لم تمر سنون كثيرة على حادثة وادي الشراط، حتى قرر الراسخون في “علم الإجرام” حلول ساعة الصفر لتصفية المهدي بنبركة الذي لم يَعد يزعج فقط أصحاب المصالح الاقتصادية والمتحكمين في القرار السياسي والأمني في المغرب، بل تعدى ذلك إلى آفاق أخرى أكثر اتساعا وتشعبا.
فمن يكشف عن المتواطئين في هذه الجريمة، التي ما تزال أطوارها مستمرة لأكثر من نصف قرن من الزمن دون معرفة الحقيقة؟ فالحسن الثاني تبرأ، في شهادته على عصره، من “قميص الرجل”، أما المحاكمة التي حضرتُ جل فصولها، مُمثلا للحزب، فقد أدانت الجنرال “أوفقير”، وانتهى الملف إلى الإقامة الطويلة في “رفوف الملفات السرية الكبرى”، تحت ذريعة السرية وواجب التحفظ ومتطلبات حماية الأمن القومي لفرنسا.
في ذلك الوقت، كنتُ ما أزال في فترة النقاهة في باريس، فإذا بي أتلقى هاتفا يطلب عودتي إلى المغرب، وكان في الطرف الآخر أحد أفراد عائلتي، يخبرني باستفحال الوضع الصحي لوالدي، جراء مضاعفات إصابته بالمرض الخبيث.
ونظرا لظروف الاستعجال، آثرت ترك سيارتي في باريس والعودة رأسا بالطائرة، حيث سأقضي قرابة شهرين إلى جانب والدي، قبل أن يلاقي ربه في شهر شتنبر عام 1965.
بعد وفاة الوالد رحمه الله، عُدت إلى باريس لاستعادة سيارتي، فكان آخر اتصال لي بـ”المهدي بن بركة”، حين اتصل بمقر الحزب وأخبر بوجودي هناك، فطلب الحديث إليّ لتقديم واجب العزاء في وفاة والدي.
كانت الإقامة في العاصمة الفرنسية تُتيح إمكانية الاستمتاع بالأنشطة الفنية التي تحتضنها فضاءات مختلفة، فكنت أحضر، بين الفينة والأخرى، العروض المسرحية والموسيقية التي يقدمها “مسرح لا هوشيت”Théâtre de la Huchette ، بحي “سان جيرمان دي بري” Saint-Germain des Près بالدائرة الخامسة، على الضفة اليسرى لباريس.
وحدث في إحدى المرات، أنه بعد مغادرتي لمسرح “لا هوشيت”، التقيت بأحد الصحفيين من أصدقاء “المهدي” وهو “فيليب بيرنيي” Philippe Bernier، وكان في حالة سكر طافح برفقة إحدى السيدات، ليخبرني على انفراد، باتصال “أوفقير” به ثلاث مرات، إيذانا ببدء المفاوضات بينهما حول طرق اصطياد “بن بركة” ونصب فخ له، أو كما قال بالفرنسية Un traquenard لاصطياد طريدة ثمينة. وكان قد حدد سعر “الطريدة” في البداية في عشرة ملايين فرنك، قبل أن يتضاعف لاحقا إلى 100 مليون فرنك. وقد أكد لي أنه أبلغ “المهدي” بهذا الأمر بواسطة الأستاذ “محمد اليازغي”.
في الواقع، كُنت على إطلاع بوجود علاقة بين الصحافي الفرنسي و”المهدي بنبركة”، حيث كنا قد التقينا عدة مرات قبل ذلك في إحدى مقاهي حي “سان جيرمان دي بري” Saint- Germain des Prés، وكنت ألاحظ أنه كان دوما مرفوقا بأحد أعضاء السفارة اليوغسلافية بفرنسا.
كنت أستغرب عندما أرى “بيرنيي” Bernier يُسلم “المهدي” أوراقا وجذاذات مقطعة من كل مكان، تحتوي على معلومات تدل على أنه مراقب ليل نهار من قبل المخابرات، التي تسجل بدقة كل اتصالاته وكل الأماكن التي يرتادها.
فهمت من “المهدي” أن الرجل عميل لأجهزة المخابرات، ومعرفته به قديمة، وعلمت كذلك فيما بعد أنه مكث في المغرب فترة معينة قبل الاستقلال، وأنه كان يعمل في الإذاعة الرسمية آنذاك Radio Maroc، كما اشتغل بالجزائر بصفته الصحافية. ومعنى كل هذا أنه كان للرجل ارتباطات مشبوهة، وأن “المهدي” كان على علم بكل هذه التفاصيل، فكان كل واحد منهما يعرف طبيعة عمل الآخر.

لحظة اختطاف المهدي

في الذكرى الأربعينية لوفاة والدي، عُدت إلى المغرب، فصادف أن أقمت يوم 29 أكتوبر 1965 حفلا دينيا ترحما على روحه الطاهرة، وهو ما شكل فرصة استعدت من خلالها شريط علاقتي الخاصة بوالدي رحمه الله. كنت أتجول في المكان بنظرات أحاول أن أسترجع فيها طقوسه اليومية مع أهله وأصدقائه، التي كانت تشهدها جنبات البيت؛ ومن بينها جلسات الذكر والقرآن، التي كنا نستمتع بها كل يوم جمعة بعد تقديم طبق “الكسكس”، الذي تهيئه الوالدة رحمها الله، بمساعدة “للا زهور” للضيوف في هذا اليوم العظيم.
في لحظة التأمل والاسترجاع هذه، رنّ هاتف البيت لأنتبه إلى من يطلبني للرد على سيدة كانت تعمل في السفارة النرويجية بالرباط، وكانت تجمعها علاقات صداقة بإحدى رفيقات المرحوم “التهامي الأزموري”، لتخبرني باختطاف “المهدي بن بركة” في ذلك اليوم من أمام مقهى “ليب” Lipp، وكان برفقته، حينها “التهامي الأزموري”، الذي كان طالبا يتابع دراسته في باريس.
تلقيت الخبر، وزادني ألما، على ما أنا فيه من أحزان، إلا أنني اضطررت إلى تجميع قواي، لأتصل بعبد الرحيم بوعبيد، وأخبره بما كان من أمر الاختطاف، مرددا ما سمعته من السيدة النرويجية.
في 30 أكتوبر 1965، دعيت لحضور حفل زفاف الأستاذ “محمد الصديقي” بالدار البيضاء، فكانت الأجواء في فضاءات الاحتفال مفعمة بالمشاعر المتناقضة، التي تخيم عليها أخبار اختطاف “المهدي”، ذلك أننا أصبحنا نتحدث عن عملية اختطاف، وليس عن اعتقال، فقد انقطعت المعلومات عن الرجل المختطف، ولم يكن شقيق “المهدي”، وهو “عبد القادر بن بركة”، و لا “محمد الطاهري” المتواجدين حينها في العاصمة الفرنسية يتوفران عما يمكنه أن يقودهما إلى معرفة مصير “المهدي”.
وقد أدى ذلك إلى نشر الخبر بالخط العريض في أعلى الصفحة الأولى من جريدة “المحرر” يوم 2 نونبر 1965: “اختطاف الأخ المهدي بنبركة: هل لاختطاف عضو الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية علاقة برآسته للجنة التحضيرية لمؤتمر شعوب القارات الثلاث بهافانا؟”.
وجاء في كلمة العدد نفسه من المحرر التي حملت عنوان: “المسؤولية بين دولتي فرنسا والمغرب”:
“خلافا للخبر الذي نشرناه في عدد يوم الأحد الأخير، فإن السلطة الفرنسية لم تلق القبض على الأخ المناضل المهدي بنبركة كما جاء في الأخبار الأولى التي توصلنا بها. فالحكومة الفرنسية، على لسان وزارة الخارجية ووزارة الداخلية الفرنسيين، تؤكد أنها لم تعط أية تعليمات في شأن إلقاء القبض على الأخ المهدي أو مضايقته بشكل من الأشكال، حيث إن الحكومة الفرنسية تسمح له بالإقامة في فرنسا في إطار القوانين الجاري بها العمل.
وتأكد، إذن، أن الأخ المهدي بن بركة، كان ضحية اختطاف من طرف منظمة إجرامية تقول الحكومة الفرنسية إنها أجنبية دون أن تبين إلى أي جنسية أو دولة تنتمي، وخطورة هذا الحادث لا تخفى على الرأي العام الفرنسي أو الرأي العام الدولي، نظرا للسمعة العالمية التي يتمتع بها الأخ المهدي بن بركة، ونظرا للشكل الإجرامي الذي كان عليه الاختطاف في أحد الشوارع الكبرى بباريس وفي التراب الفرنسي.
أما الحكومة المغربية، فهي إلى حدود صدور هذا العدد ما زالت متمسكة بالصمت كأن الحادث لا يعنيها. ولا يمكن أن لا يتبادر إلى الذهن أن في هذا الصمت ريبة وشكوكا.
لذلك، فإن جماهير الشعب المغربي وكل المواطنين بصفة عامة إذ يعبرون عن اشمئزازهم وغضبهم العميق على التصرفات الوحشية والتي لا تخضع لأي قانون، ولا لأي مبدأ أخلاقي، لا يمكنها أن تنتظر التطمينات على حياة الأخ المناضل، ولا الإيضاحات الضرورية، إلا من حكومة المغرب ومن حكومة فرنسا. فالحكومة الفرنسية عندما سمحت له بالدخول إلى ترابها فهي قانونيا ومبدئيا وأخلاقيا مسؤولة عن حياته وأمنه. نعم، نقول الحكومة الفرنسية ليست لها يد في هذه العملية الشنعاء. ونحن نريد أن لا نشك، مبدئيا، في صحة تصريحاتها، لكن الشيء الذي نطالب به ويطالب به الرأي العام في الداخل والخارج هو أن تعطي الحكومة الفرنسية كل الإيضاحات اللازمة حول المنظمة الأثيمة التي عملت في ترابها وبالرغم من سيادتها. فمصالح الشرطة الفرنسية، ووزارة الداخلية بفرنسا، هي أدرى بوجود هذه المنظمات الإجرامية والعناصر المنتمية إليها حيث أن لها وسائل الاستخبار ووسائل الضغط التي تمكنها من معرفة الأشياء على حقيقتها.
أما حكومة المغرب، فلا يمكنها أن تلزم الصمت كذلك، ولو أنها اعتبرت المجاهد المهدي بن بركة كخصم لها، لأنه مواطن مغربي، زيادة عن كونه من أفذاذ رجال هذه البلاد الذين بني الاستقلال وتحرير المغرب على أكتافهم، فأقل الإيمان أن تطالب حكومة المغرب الحكومة الفرنسية بالإيضاحات اللازمة حول هذه العملية الشنعاء التي تمت على التراب الفرنسي، لأن كل حكومة تحترم نفسها وتحترم القوانين التي تعمل بمقتضاها هي المسؤولة عن أمن وحياة كل مواطنيها كيفما كانت وضعيتهم الاجتماعية أو السياسية”.
بعد هذا الموقف الذي عبرت عنه قيادة الحزب، كان الرأي الراجح أن يتم طرح القضية على أنظار القضاء لاستجلاء الأمر، والوقوف على حقيقة ما جرى أمام مقهى “ليب” في واضحة النهار.
لهذا الغرض، طلب مني “عبد الرحيم” الاستعداد للسفر إلى فرنسا لتتبع مجريات القضية عن كثب، بحكم علاقتي مع الأوساط السياسية والصحافية بباريس.
وصلت إلى باريس يوم 3 نونبر 1965، فوجدت نفسي في دوامة جديدة عشت خلالها ترحالا دائما جعل مقامي في العاصمة الفرنسية يستمر زهاء 13 سنة.
في اليوم التالي لوصولي، اتصلت بكل من “عبد القادر بن بركة” و”الطاهري”، لأعرف ما إذا كانا قد اهتديا إلى أي معلومات عن المختطف المهدي، في ظل الجو السياسي المشحون بهذه القضية سياسيا وإعلاميا، مما جعلني أستعيد ما ذكره لي الصحافي “بيرنيي” من أمر استدراج “المهدي”، فتبين، مع مرور الأيام، أن ذلك لم يكن سوى مجرد تغطية على عمل أكبر كان يُدبر له.
لم أكن أتوفر على رقم هاتف الصحافي “بيرنيي”، ولا أعرف طريقة للاتصال به لاستجلاء الأمر، حتى سمعنا يوما أنه تقدم لقاضي التحقيق للإدلاء بإفادته في الموضوع، قبل أن يتم اعتقاله على ذمة القضية.
في هذه الأثناء، طفا على السطح اسم شخص آخر يدعى”فيغون”Figon ، وهو في رأيي مجرد نكرة، إذ لم يكن اسمه متداولا، وربما كان يشتغل مع المخابرات. وقد ادعى أنه كان رهن الاعتقال بسبب ميولاته اليسارية المتطرفة، فأدلى بتصريحات لمندوب مجلة “ليكسبريس” L’Express قدم فيها عددا من الإشارات لمن يعتقد أنهم كانوا وراء هذه العملية، وقد فصل في الحديث عن الواقعة بالأسماء والوقائع، وكان سببا، مع ذلك، في إخراجها للعلن وتحويلها لقضية دولة بامتياز. ذلك أنه ذكر بكامل الوضوح أن المخابرات المغربية لعبت دورا أساسيا في أمر الاختطاف زيادة على المخابرات الفرنسية والبوليس الفرنسي الذي قام بالتنفيذ، ولا يجب أن نغفل أن فرنسا كانت في هذه الفترة على أبواب الانتخابات الرئاسية.
لم تكن أحزاب المعارضة واليسار الفرنسي يريدان استغلال هذه القضية لاستجلاب المزيد من الأصوات، إلا أن حضور البوليس الفرنسي والمخابرات في قضية الاختطاف سيضر حتما بسمعة الحكومة القائمة آنذاك، وسيطال الأمر كذلك سمعة الرئيس “شارل دوغول” Ch. De Gaulle.
وحدث أن الجنرال “دوغول” حينما توصل بتلغراف من أم المختطف “المهدي” تطالبه بإنقاذ ابنها من مخالب مختطفيه ومعرفة الحقيقة كاملة، أولى القضية أهمية قصوى تجلت في تصريحاته العديدة في المجلس الحكومي وفي تحركاته في هذا الشأن، مما جعلنا أكثر تفاؤلا لمعرفة الحقيقة بحكم تدخل رئيس الدولة. المهم من هذا وذاك أن الرئيس الفرنسي كتب جوابا يتعهد فيه بالبحث عن مصير بن بركة، وعلم فيما بعد أن ذلك الجواب قد مر من القنوات الدبلوماسية، فزمجر وطلب أن تسلم الرسالة مباشرة إلى “ماما فطومة”، والدة بن بركة (نوفيل أوبسرفاتور.2-8 فبراير 1966).
وكانت جريدة “لوموند” ليوم 18 نوفمبر 1965 قد خصصت مقالات حول تطور التحقيق في قضية اختطاف بن بركة، والذي مس في البداية الشرطيين: “سوشون وفواتو”، وأدت أقوالهما أمام قاضي التحقيق إلى استنطاق “لوبيز”. فقد صرح الشرطيان أنهما قاما بفعلهما نظرا لدور “لوبيز” داخل مصالح المخابرات، التي كانت تنعت في الصحافة في البداية بـ”هيئة رسمية”، وأنهما كانا يعتقدان القيام بمهمة رسمية. واعترف “لوبيز” أمام قاضي التحقيق أنه حضر إلى موعد الاختطاف متنكرا بنظارات وبشارب مستعار استعاره قبل مدة من الشرطيين “سوشون” و”فواتو”، وأن “فيغون” هو الذي رسم للشرطيين ملامح بن بركة، ليلتحق بعد ذلك بالمقهى، موعد اللقاء، حيث ينتظره كل من “بيرنيي” و”فرانجي”. وعندما حضر بن بركة والطالب الأزموري، كان “ديباي” و”باليس” يراقبان العملية في الجانب الآخر من الطريق. واقتفيا بسيارتهما سيارة الأمن التي كانت تقل بن بركة نحو فيلا “بوشسيش”. قال “لوبيز” لـ”بوشسيش”: “عليك أن تقول إننا حملناه إلى هنا لحمايته من محاولة اغتيال”، بعد ذلك عاد لوبيز إلى باريس رفقة أحد الشرطيين، وهاتف الجنرال أوفقير الموجود بالمغرب. وسيصرح لوبيز فيما بعد أن “لوروا” رئيس المصلحة التي كان يتعامل معها، أوحى له باتهام أوفقير، كان هذا عندما أحس لوبيز بأن جهاز “السديك” (S.D.E.C.E) لم يمتعه بأي حماية أثناء التحقيق والمحاكمة.
صرح “لوبيز”، إذن، أمام قاضي التحقيق، أن “الشتوكي” عضو في جهاز الأمن المغربي، وأنه باتفاق مع سلطات فرنسية، طلب منه استقطاب شرطيين فرنسيين. وأضاف أنه التحق في اليوم الموالي بالمطار في الساعة الخامسة والنصف لاستقبال الجنرال أوفقير، الذي كان برفقة الدليمي ورجل آخر اسمه الحسيني (لعله الممرض الحسوني)، وأن لوبيز نقل الجنرال أوفقير إلى فيلا بوشسيش، في حين انتقل الدليمي و”الممرض” اعتمادا على وسائلهما الخاصة. وبعد تسليم مفتاح فيلته إلى أوفقير التحق بعائلته التي كانت في عطلة بمنطقة “لواري”.
لاحظ المحامون ومتتبعو قضية بن بركة، ومن خلال ما تم الكشف عنه خلال التحقيق أو المحاكمة، أن ردود فعل مصالح المخابرات الفرنسية (S.D.E.C.E)، عقب عملية الاختطاف كان مثيرا للانتباه، خاصة بالنسبة لـ”لوروا” الذي لم يلتحق بعمله صباح يوم 29 أكتوبر. وتوجه مباشرة إلى مطار أورلي، حيث وصله حوالي التاسعة والنصف، وهو التوقيت نفسه الذي وصل فيه بن بركة إلى مطار أورلي قادما من جنيف. وبرر “لوروا” هذا التنقل بكونه جاء إلى المطار لاستقبال رئيسه الجنرال جاكيي، لكن المحكمة ستكتشف أن طائرة الجنرال كان موعد وصولها في الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة، وليس التاسعة والنصف، كما أن “لوبيز” هو الذي يتكلف عادة بهذه الشكليات، وهي إجراءات قصيرة، كما اعترف بذلك “لوبيز” نفسه، والذي أخبر “لوروا” في صبيحة ذلك اليوم بأنه لن يكون موجودا في المطار، وبأن زوجة “لوروا” هي التي تلقت المكالمة. وصرح بما يلي:
“طلبت منها أن تخبر زوجها بالموعد مع المغاربة، وقد نطقت باسم بن بركة أو ب ب، ولن يكون هناك أدنى خلط في ذهن لوروا عندما تخبره زوجته بمضمون المكالمة”.
كانت عملية اختطاف المهدي لدى الدوائر الرسمية المغربية مبررة الحدوث في فرنسا، حيث اعتبرتها بمثابة تكرار لنفس السيناريو الذي قامت به المخابرات الفرنسية عند اختطافها للكولونيل “أنطوان أرغو” Antoine Argoud، أحد زعماء المنظمة السرية “OAS”، المختطف في ميونيخ بألمانيا سنة1963 ، وقد حُوكم بعدها بالمؤبد ليطلق سراحه سنة 1968. ومعلوم أن “أنطوان أرغو” الذي قاد مجازر في الجزائر، كان يشتهر بقطع رؤوس المعتقلين ويرمي الجثث على قارعة الطريق و له مقولة شهيرة “قطع رأس عربي واحد و تركه على قارعة الطريق هو أمر أكثر فاعلية من قتل عشرة في الخفاء”.
ومما زاد من تخوفاتي هو وجود المدعو “بوشسيش” Boucheseiche، ضمن مجموعة المختطفين، ذلك أن وجوده أنذرنا بوجود خطر أكبر، لأن هذه المجموعة ليست سوى عدد من المجرمين القتلة المأجورين، الذين يقدمون خدمة لمن يدفع لهم، ولهم سوابق ولا تعنيهم أمور الحرية والديمقراطية في شيء، مما زاد من قناعتي الشخصية، حينها، بأن “المهدي” غُرر به لكي يرافق هؤلاء في سيارتهم.
ولما كنت أعلم بأن “بن بركة” يعرف مدينة باريس بتفاصيلها الدقيقة، فلابد أن يكون قد انزعج حينما رأى السيارة تتوجه صوب الضاحية الباريسية عكس الوجهة التي من المفترض سلوك طريقها، مما سيحمله على التساؤل وطلب التوضيحات، التي ستزعج، من دون شك، مستضيفيه.
ومن الممكن أن تكون هذه اللحظة (لحظة اكتشاف بن بركة للمقلب ومحاولة الإفلات) قد أدت إلى انفلات أعصاب أحد المجرمين، مما دفعه إلى إسكات “المهدي” بتوجيه ضربة موجعة إلى رأسه أو عنقه، الذي كان ما يزال يؤلمه جراء حادثة السير المعلومة على قنطرة “وادي الشراط”.
غير أنه من الممكن، أيضا، طرح بعض الاحتمالات الأخرى في شأن غيابه القسري. فقد تكون لحظات مواجهته لـ “أحمد الدليمي”، قد صاحبتها معركة بين الرجلين، الذين كانا لا يطيقان بعضهما البعض، حُسمت لصالح الطرف الغالب، أو الطرف الذي كان مسنودا برجال عصابات مدربين على الاختطافات والتصفيات الجسدية.
أما الافتراض الثالث، فيتعلق بحضور الجنرال “أوفقير” نفسه ومعاملته الفجة المعروفة وأساليبه الوحشية في تعذيب السجناء والمعتقلين، وهو ما عُرف عنه سواء أثناء عمله بالجيش الفرنسي في الفيتنام، أو أثناء مواجهته لانتفاضة الأهالي في الريف المغربي بعد استقلال المغرب نهاية 1958 وبداية 1959، حيث قاد عمليات شنيعة، وأبان عن قسوة منقطعة النظير، بما فيها الذبح والقتل والتعذيب.
هذه مجرد تخمينات واحتمالات. لكن الحقيقة المرة هي أن المهدي قُتل. وقد تم القيام بتحريات دقيقة في مختلف الأمكنة التي يحتمل أن توجد بها الجثة، التي لم يعثر لها، حتى الآن، على أثر.
ومما زاد من صعوبة العثور عليها أن المساهمين المباشرين في العملية، ماتوا في ظروف أقل ما يقال في شأنها إنها غامضة. ففي شهر يناير 1966، وُجِد “جورج فيغون”، الذي شكل الطعم الذي أسقط بنبركة في الفخ بعد أن أقنعه باللقاء بباريس بدعوى إنتاج فيلم عن مرحلة تصفية الاستعمار، ميتا بشقة بباريس سُجلت انتحارا. وفي العام 1971، وُجِد التهامي الأزموري، الذي كان مرافقا للمهدي لحظة اختطافه وأعلم عائلته بالأمر، معلقا بحبل داخل شقته الباريسية فسجلت وفاته انتحارا. وبعدها بسنة “انتحر” الجنرال أوفقير بخمس رصاصات بعد فشل محاولته الانقلابية على الحسن الثاني. ثم تلاه رجال الشرطة الفرنسيون الأربعة المشاركين في العملية (سوشون، أنطوان لوبيز، فواتو، لوروا)، وهم الذين اختاروا اللجوء بالمغرب قبل أن يسجنوا أولا، ثم يقتلوا في ظروف غامضة بعد أن صاروا عبئا ثقيلا على الأجهزة..
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد حيث مات أحمد الدليمي في حادث سيارة بضواحي مدينة مراكش بالمغرب بداية ثمانينيات القرن الماضي، ليكتمل عقد اختفاء المشاركين الفعليين الذين وردت أسماؤهم في محاضر المحاكمة التي عاشتها فرنسا على إثر “الفضيحة”، واستمرت تسعة أشهر كاملة، حتى شهر سبتمبر من العام 1966، بحضور أكثر من 150 شاهدا انتهت بأحكام سجن كان أبرزها من نصيب “أنطوان لوبير”، العميل المزدوج للمخابرات الفرنسية والمغربية بمطار أورلي.
ومع مر السنين، ظهرت أسماء أخرى كثيرة لعل أهمها جاء في كتاب “السر” لضابط المخابرات المغربي أحمد البوخاري حيث كشف “تفاصيل” العملية ومعها أسماء الفريق المشرف عليها من داخل الجسم المخابراتي المغربي.

المحاكمة

إذا كانت المحكمة قد خلُصت إلى تحميل جزء من مسؤولية اختطاف “المهدي” وتصفيته للمخابرات المغربية، فإن القناعة الثابتة لدينا أن ذلك لم يكن ممكنا لولا تواطؤ أطراف أخرى أبرزها الجهات الأمنية الفرنسية أو ما كان يمسى “البربوز”Barbouze، وهو الاصطلاح الذي أُطلق دوليا على الشرطة السرية التي تعمل في ظروف خارجة عن القانون، وتختص في الاختطاف والاستنطاق عن طريق التعذيب. ولا شك أن المخابرات الأمريكية كانت حاضرة أيضا ولكن من وراء الستار إلى جانب حضور المخابرات الإسرائيلية.
أمر اغتيال “المهدي”، في تقديري، لم يكن هدفا في حد ذاته، خصوصا إذا علمنا أي نوع من العلاقات كان يجمع بين الحسن الثاني، ملك المغرب، والرئيس الفرنسي “شارل دوغول” الذي لم يكن ليقبل بتاتا أن يتم اغتيال “المهدي” على الأراضي الفرنسية، مهما كان الأمر. بيد أن “أوفقير” و”الدليمي” جعلا المغرب وفرنسا، بتصرفهما الأخرق، في ورطة كبيرة.
وأعود للقول، إن الأمور من بدايتها لم تكن بكامل الوضوح، غير أن التحريات التي جاءت بعد الاختطاف والضغوط القادمة من كل جهة من الصحافة والرأي العام وحتى المجموعة القريبة من الجنرال “دوغول” De Gaulle ، حاولوا الضغط من أجل الوصول للحقيقة إلى أن تم التعرف على بداية عملية الاختطاف، والكشف عن مختلف المشاركين فيها، من دون أن نتمكن من التعرف على النهاية المؤلمة لهذه العملية ومصير جثة المهدي إلى يومنا هذا.
كان علينا كحزب تشكيل هيئة الدفاع من طاقم من المحامين من مختلف الخلفيات والاتجاهات، حتى نضمن أكبر قدر من النجاعة، التي تُراعي ظروف فرنسا ومتطلبات المرحلة الدقيقة عشية الانتخابات الرئاسية.
هكذا تم، بالحنكة المشهودة للأستاذ “عبد الرحمن اليوسفي”، تكليف طاقم من المحامين يمثل كل الاتجاهات السياسية من شيوعيين واشتراكيين وليبراليين ومن التيار “الدوغولي”، للحد من التجاذبات الحزبية، وأيضا لإخماد رغبة البعض في استغلال القضية لتحقيق مكاسب انتخابية، وهو ما سمح بالتركيز على نحو تام على المحاكمة، التي كانت تشكل للعائلة وللحزب أولوية قصوى.
نجحت فكرة “اليوسفي” في توحيد رؤى الجميع حول قضية واحدة، بغض النظر عن اختلاف المرجعيات والإيديولوجيات والولاءات والحساسيات السياسية، مما شجع على انخراط عدد من الأسماء الوازنة في سلك المدافعين، من بينها المحامي “رولان دوما” Roland Dumas، الذي سيتولى فيما بعد حقيبة الخارجية في فرنسا في إحدى حكومات الرئيس الراحل “فرانسوا ميتران” François Mitterrand، قبل أن نطلب منه الانسحاب من هيئة الدفاع بعد تحريره لمقدمة كتاب يروج لأطروحة كان الغرض منها التشويش على المحاكمة، أصدره أحد الصحافيين المعروفين بعلاقتهم مع المخابرات أثناء مرحلة التحقيقات.
بعد سنة تقريبا، بدأت جلسات المحاكمة تنعقد بكيفية عادية، وكان رئيس المحكمة يوقف أي محام يتعرض لقضايا تمس سيادة المغرب أو فرنسا، مُعتبرا ذلك خروجا عن سياق المحاكمة، الذي مثل المغرب فيها فريق دفاع مشكل من عدد من رجال القانون، المغاربة والفرنسيين.
مع اقتراب نهاية المرافعات، كُنا نحس بأننا نكسب الجولات في معرفة الحقيقة وفضح تواطؤ قوى الفساد في بلادنا، حتى قرر القاضي توقيف المحاكمة بالإعلان عن مثول أحد المطلوبين المغاربة أمام القضاء الفرنسي، على أن تستأنف الجلسات فيما بعد.
حضور “أحمد الدليمي” إلى باريس كان، فيما نقله إلينا “عبد الرحيم بوعبيد” نتيجة اتفاق مسبق بين السلطات المغربية ونظيرتها الفرنسية، مما حذا بالقائد الاتحادي إلى الحضور لمقابلة فريق الدفاع وطرح المستجدات، لا سيما وأننا قد بدأنا ساعتها نسجل وفاة عدد من أعضاء الفريق، من بينهم “ميشيل بريجيي”، الذي كان يرأس الفريق وينسق أعماله.
في غضون ذلك، بتنا شبه متأكدين من طبيعة المنعطف الذي ستأخذه قضية “بن بركة”، التي سيراد لها أن تتحول تدريجيا لتصبح قضية مغربية محض، لا شأن لفرنسا بها، مع ما سيكون لذلك من تداعيات على البعد الدولي الذي أخذته، إذاك، بالإقرار الضمني بتورط محتمل للمخابرات الأجنبية في الجريمة.
كنا في فريق الدفاع نرفض أن يتم تحجيم القضية بالحد من جذوتها من خلال إعطائها بعدا محليا تواجه فيه المعارضة ممثلي الحكم، على حساب ما أصبح يعرفه العالم من معلومات عن القضية التي تسير في اتجاه إدانة كل المتورطين في عملية الاختطاف، مهما سمت مراتبهم، وتجذّرت صلاتهم برموز الحكم ومؤسساته، في فرنسا وفي المغرب.
لهذا طلب فريق الدفاع مهلة لإعداد خطة جديدة في ضوء المستجدات، وتطعيم الطاقم بفريق دفاع جديد قادر على المواجهة، إلا أن السلطات القضائية الفرنسية رفضت الاستجابة لهذا الأمر.
وأتذكر أنه أثناء هذه الفترة، جمعنا غذاء بـأحد مطاعم “سان جرمان دو بري”S.G. des Près مع “هيبر بوف ميري”Herbert Beuve – Mery، مؤسس يومية “لوموند” Le Monde ، وهو رجل يقدر الجميع أخلاقه ومبادئه، وقد كان من بين المدافعين عن مبدأ عدم تأخير المحاكمة، وذلك لإقناعه بمنح الدفاع فرصة لإعداد المرافعات.
لم يتمكن “عبد الرحيم” من إقناع ” بوف ميري”، إذ أبدى كل منهما تشبثه بموقفه، مما دفعنا إلى اتخاذ القرار بعدم المشاركة في المحاكمة بعد استئنافها، حيث كنت أحضر بمفردي لمتابعة أطوارها، باتفاق مع قادة الحزب.
استأنفت المحاكمة كما أرادتها السلطات الفرنسية، وذلك بما يخدم مصالحها، فلم نكن نسمع سوى أصوات الإشادة بشخص “الدليمي” وبشجاعته للمثول أمام هيئة المحكمة وبمواقفه، في ذلك المشهد الفرجوي، قبل أن تنطق الهيئة بأحكام، لم تخرج، في نظري، عن الإطار الذي حددته المفاوضات المسبقة بين الإدارة المغربية والسلطات الفرنسية، وأهمها إعلان براءة “الدليمي” وإطلاق سراحه.
في نهاية المرحلة الأولى من المحاكمة، وقبل انسحاب فريق الدفاع قدم المحامي “موريس بيتان”Maurice Buttin ، وهو المحامي المنتدب عن والدة “المهدي” عرضا عن الوضع السياسي في المغرب آنذاك، وما يميزه من قمع وتضييق على الحريات وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولابد هنا أن أشيد بصمود هذا المحامي المتميز وبمواقفه الثابتة من هذه القضية، وهو الذي كرس جهده ووقته من أجل معرفة الحقيقة، فخصص باكورة أبحاثه على مدى عشر سنوات لتسليط الضوء على جوانب عملية الاختطاف، باعتبارها قضية توزعت فصولها بين المغرب وفرنسا اللتين تقع على كاهليهما مسؤولية الكشف عن الحقيقة، مع اعتبار أن المغرب يبقى المسؤول الأول عن ذلك.
لم نكن دائما على اتفاق مع مواقف السيد “بيتان” Buttin، ولكننا نحتفظ له بمشاعر الامتنان لمواقفه الرافضة لكل تجاوز يمكن أن يعرض قضية “المهدي” للنسيان. ذلك أن الحقيقة المؤملة هي أن العائلة والرفاق ما يزالوا يبحثون، بعد خمسين سنة عن حقيقة الاختطاف وعن مكان دفن جثة المختطف.
انتهت قضية المهدي أمام المحكمة بالنتائج التي لا ترضي أحدا وبالخصوص ذويه وحزبه.
ولمعرفة الحقيقة، وبالخصوص مصير المهدي وموضع جثته إذا صح أنه قتل ودفن، وتفاصيل ما وقع، فإننا ما زلنا ننتظر رفع السرية الكاملة عن المعلومات والوثائق التي تتعلق بقضية المهدي، والتي ما تزال محفوظة بعناية ضمن أرشيف المخابرات الفرنسية. كلنا ننتظر بشغف هذا القرار الذي بوسعه ملء الفراغات التي اعترت محاولات معرفة الحقيقة: أسرته الصغيرة أولا، وحزبه ثانيا، وعموم الشعب المغربي. كل هؤلاء يتعطشون لمعرفة الحقيقة كاملة.
وكما نعلم جميعا، فمحاكمة خاطفي المهدي وكافة المشاركين في العملية انتهت يوم فوجئ العالم العربي برمته بما أصبح يعرف بهزيمة حزيران / يونيو 67 ، والتي كانت نتائجها ضربة في فكر الأنظمة القومية التي كانت تحكم الشرق الأوسط من ناصريين وبعثيين. هكذا أسدل الستار على نمط من الحكم كان الشعب العربي يعلق عليه آمالا كبيرة للتحرر والانعتاق. وبسقوط نظام عبد الناصر منهزما استيقظت الشعوب العربية على هول ما وقع.
تحمل عبد الناصر مسؤوليته بشجاعة وعزم على تقديم استقالته. غير أن الشعب المصري برمته رفض هذا الأمر وطالبه بمواصلة المعركة تحت قياديته لاسترجاع ما نهب، والعمل على تحقيق كافة المبادئ التي تعبأ لها الشعب المصري وكافة الشعوب العربية لتحقيق النمو والتقدم والحرية.


بتاريخ : 29/10/2021