القطار والسكة

عبد الحميد جماهري

النموذج التنموي و البرنامج الحكومي..

حصل توافق عام، على اعتبار النموذج التنموي الجديد إطارا مرجعيا للسلطات العمومية، ومنها الحكومة، في وضع السياسات المتوافق على أهدافها الوطنية العامة.
من هنا سيكون من المشروع قراءة البرنامج الحكومي (وربما صيغته التنفيذية الأولى التي هي قانون المالية) على ضوء الأهداف والمقترحات والتوصيات المعلنة في هذا النموذج، وعبره من خلال الميثاق الوطني للتنمية.
والقراءة من زاوية النموذج، لم تجعلها المعارضة المؤسساتية وحدها قاعدة في تقييم طموحات الحكومة، بل كان كل من ساهم في هذا النموذج ينتظر الترجمة العملية، في الهنا والآن، وعلى مدى السنوات الخمس لعمر الحكومة، لما توافقت عليه مكونات البلاد، بناء على طموح مشروع لملك البلاد وشعب البلاد.
وأعتقد بأن أعضاء اللجنة، الذين استمعوا إلى المقترحات الشاملة للمغاربة، وتابعوا النقاش مع الهيئات السياسية والاجتماعية والمدنية والسوسيومهنية وكل الطيف الوطني، معنيون بقراءة البرنامج الحكومي، قبل غيرهم، بدون أن يكون لذلك معنى مؤسساتي أو سياسي، يفيد تعويضهم للمعارضة والأحزاب في مراقبة الحكومة..
أبدا
بل هم معنيون بتنوير الرأي العام بالدرجة الأولى.
والحال أن بعضهم وصل إلى التركيبة الحكومية، من قبيل شكيب بنموسى وعبد اللطيف الميراوي في التعليم العالي، والبعض الآخر، وهو المهيمن والغالب يوجد خارج مؤسسات التدبير وتابع وقرأ البرنامج الحكومي وكون فكرة عن الطموح الظرفي ثم الشامل للجهاز التنفيذي.
محمد بنموسى، عضو لجنة «النموذج التنموي الجديد» أحد هؤلاء. وسعدت بلقائه، عندما كنت ضمن الوفد الاتحادي في لقاء لجنة النموذح وقتَ بلورته، ثم سَعدتُ بوجودي معه، في الجبهة الوطنية لإنقاذ «لاسامير»….
في الحوار الهام والقوي الذي أجرته معه الزميلة «تيل كيل»،
(28/22 أكتوبر) مقاربة هادئة موضوعية ونقدية ذات قيمة أخلاقية وفكرية كبيرة.
بالنسبة له، الحكومة لجأت إلى الانتقائية في التعامل مع توصيات لجنة النموذج التنموي، وكل انتقائية هي بالضرورة اختزالية، وتجزيئية إزاء نموذج يفترض أنه كلي وشمولي، ولا يمكن أن يختزل في قرارات مجزأة.
ملاحظات أخرى تتيحها العودة إلى النموذج، وما توافقت عليه مكونات الأمة والمفروض أن البرنامج الحكومي يأخذها بعين الاعتبار هو أن القرارات التي أعلنت الحكومة القيام بها، سواء في تسريع وتيرة النمو أو في التخفيف، نحو القضاء على العراقيل الإدارية وتشجيع المقاولين الشباب، لم تقم بأية قطيعة، بل هي «قرارات بنفس النظرة السابقة» على عكس ما تم التوافق حوله في توصيات اللجنة من «تغيير بنيوي وهيكلي للاقتصاد الوطني»، وهو قلب التربة المتوارثة لعقود، في بيئة الاقتصاد، مما يفرض تفكيك اقتصاد الريع والأوليغارشيات المالية وتضارب المصالح، والحكم الذي يصدره محمد بنموسى قاس جدا وواضح وضوح الحق «ليس هناك ولو إرهاص واحد يسير في هذا الاتجاه في البرنامج الحكومي»!..
وبالنسبة لحكومة تقول إنها ستضع قطار النموذج التنموي على سكة سالكة، نجد أن ثغرة كبيرة موجودة في سياق الإصلاح الاقتصادي تثير القلق.
لقد حقق، ما سماه أدبيات الاتحاد الحديثة التغول الثلاثي، ما لم يسبق لغيره، إذ يجد نفسه أمام طريق سيار، و«اصطفاف الكواكب، من الدولة المركزية إلى الجماعات»، مما قد يشكل الظرف المناسب لسياسة إصلاحية» لكن لا نجدها في البرنامج الحكومي…
لماذا يا يا ترى هذا الخصاص الإصلاحي العميق؟
يجيبنا السي محمد بنموسي: بأن تفكيك اقتصاد الريع يقتضي إعادة النظر في مصالح قائمة ومتجذرة، ويقتضي الحسم مع »تضارب المصالح الخاصة والمصلحة العامة«، وتكون النتيجة وجود «شرخ بين ما ينتظره ملك البلاد والمواطنون وبين ما يعد به البرنامج.. الحكومي».
لقد تم، في النقاش المؤسساتي كما في المتابعة الإعلامية، رصد التناقضات الأولى بين الطموحين، الحكومي والتنموي الجديد، في قضية النسبة المعلن عنها في النمو، ثم في أرقام الرفع من نشاط المرأة أو في ما يتعلق بمناصب الشغل.
والجديد هو قراءة هذه المعطيات من زاوية النموذج التنموي الجديد، الذي منحت الحكومة نفسها تعطيل فلسفته وأهدافه…
في النمو، وقد سبق لنا أن تناولنا هذا الموضوع في مقال سابق، تختلف النسبتان المقترحتان من طرف لجنة النموذج والحكومة بفارق نقطتين.(6 % لدى لجنة النموذج و4% لدى البرنامج الحكومي!)
والمعنى الأول لهذا الفرق هو أن الحكومة تعرف ضمنيا أنها غير قادرة على إصلاح عميق للاقتصاد الوطني، وذلك بالالتزام بنسبة نمو محتشمة.. والبقاء على نفس السكة السابقة عن النموذج، والحال أن هذا الأخير يقترح، لبلوغ النسبة المتوخاة، محاربة الريع والتكتلات المالية والربح السريع، وتحرير المحيط الاقتصادي واستغلال الوضع الهيمني وفتح الصفقات العمومية في وجه المقاولات الصغرى والمتوسطة… وهو ما لا يوجد في البرنامج الحكومي.
وعلى عكس هذا الأخير فتوصيات لجنة النموذج تتحدث عن نسبة نمو 6 % بدون انقطاع طوال 15 سنة!
هذا العجز المعترف به رسميا في وثيقة البرنامج الحكومي، يرخي بظلال الشك في ما يتعلق بالرقم المعلن عنه في خلق مليون منصب شغل، وفي هذا تناقضات كبرى في الأرقام الحكومية: فنسبة نمو 4 % ومليون منصب شغل صافية معادلة غيرمقنعة« في نظر محمد بنموسى!

ذلك‭ ‬أن‭ ‬المعطيات‭ ‬الإحصائية‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬نقطة‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬الداخلي‭ ‬الخام‭ ‬تسمح‭ ‬ب25‭ ‬ألفا‭ ‬إلى‭ ‬30‭ ‬ألف‭ ‬منصب‭ ‬شغل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬ل‭ ‬4٪‭ ‬التي‭ ‬أقرتها‭ ‬الحكومة‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬سوى‭ ‬بـ‭ ‬120‭ ‬ألف‭ ‬منصب‭ ‬كل‭ ‬سنة،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬600‭ ‬ألف‭ ‬منصب‭ ‬شغل‭ ‬طوال‭ ‬ولاية‭ ‬الحكومة،‭ ‬عكس‭ ‬المليون‭ ‬المعلنة‮!‬
تناقض‭ ‬آخر‭ ‬بين‭ ‬المليون‭ ‬منصب‭ ‬المعلنة،‭ ‬وبين‭ ‬نسبة‭ ‬الرفع‭ ‬من‭ ‬نشاط‭ ‬المرأة‭ ‬المغربية‮:‬
ويقول‭ ‬السي‭ ‬محمد‭ ‬بنموسى‭ ‬إن‭ ‬رفع‭ ‬نسبة‭ ‬النشاط‭ ‬عند‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬إلى‭ ‬30٪‭ ‬مستحيلة‭ ‬‮»!!!‬
وتفسيره‭ ‬البيداغوجي‭ ‬لذلك‭ ‬يتوالى‭ ‬كالتالي‮:‬‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬37‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬هناك‭ ‬18‭ ‬مليونا‭ ‬تقريبا‭ ‬من‭ ‬النساء،‭ ‬منهن‭ ‬13‭ ‬مليونا‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الشغل،‭ ‬وللرفع‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرقم‭ ‬بنسبة‭ ‬10‭ ‬نقط،‭ ‬يجب‭ ‬خلق‭ ‬منصب‭ ‬1‭,‬37‭ ‬مليون‭ ‬منصب‭ ‬شغل‮!!!!‬
‬وبناء‭ ‬على‭ ‬الأرقام‭ ‬الجزافية‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬الحكومة‭ ‬فإن‭ ‬المطلوب‭ ‬هو‭ ‬مليونا‭ ‬منصب‭ ‬شغل‭ ‬ونصف‭ ‬المليون‭ ‬على‭ ‬الأقل‮!‬
في‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬والبرنامج‭ ‬الحكومي‭ ‬دائما‭ ‬تطرح‭ ‬قضية‭ ‬أرثودوكسية،‭ ‬مكرورة،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬إعلان‭ ‬الحكومة‭ ‬‮«‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التوازنات‭ ‬الماكرواقتصادية‮«!‬‭ ‬
‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬بالذات،‭ ‬يكون‭ ‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬قد‭ ‬بلور‭ ‬نظرية‭ ‬كاملة‭ ‬حول‭ ‬الموضوع‭ ‬مقابل‭ ‬جملة‭ ‬يتيمة‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬الحكومي‮«!‬
‭ ‬فالحكومة‭ ‬لا‭ ‬توضح‭ ‬عن‭ ‬أية‭ ‬توازنات‭ ‬تتحدث‮:‬‭ ‬ففي‭ ‬عجز‭ ‬الميزانية،‭ ‬والنمو،‭ ‬ونسبة‭ ‬التشغيل،‭ ‬وتمويل‭ ‬الاقتصاد‮..‬‭ ‬لا‭ ‬تعرض‭ ‬الحكومة‭ ‬الأهداف‭ ‬المرقمة‭ ‬التي‭ ‬تود‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬و‭ ‬لا‭ ‬الجدول‭ ‬الزمني‭ ‬المطلوب‭ ‬لذلك‭…‬
وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬أن‭ ‬البرنامج‭ ‬غيب‭ ‬أدوار‭ ‬إصلاح‭ ‬الدولة،‭ ‬والإدارات‭ ‬العمومية،‭ ‬والنظام‭ ‬الجبائي‭ ‬والنظام‭ ‬البنكي‭ ‬والمالي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬غابت‭ ‬عنه‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬اختلالات‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬المتوسط،‭ ‬مقابل‭ ‬فتح‭ ‬هامش‭ ‬للمناورة‭ ‬والتحرك‭ ‬عبر‭ ‬‮«‬عجز‭ ‬ظرفي‮»‬‭ ‬أكبر‭ ‬بدون‭ ‬ضغوط‭ ‬الممولين‭ ‬الدوليين‭ ‬والأسواق‭ ‬المالية‭ ‬‮…‬
أهل‭ ‬الاختصاص‭ ‬يعرفون‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬القاموس،‭ ‬لا‭ ‬يوجد،‭ ‬لا‭ ‬ضمنا‭ ‬ولا‭ ‬صراحة،‭ ‬في‭ ‬وثيقة‭ ‬الحكومة،‭ ‬وغير‭ ‬أهل‭ ‬الاختصاص‭ ‬يعرفون‭ ‬بأن‭ ‬المراد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العجز‭ ‬الظرفي‭ ‬المعلن‭ ‬رسميا‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يمول‭ ‬الكسل‭ ‬الفكري‭ ‬ونقص‭ ‬الطموح‭ ‬لدى‭ ‬السلطات‭ ‬العمومية،‭ ‬بل‭ ‬عليه‭ ‬تمويل‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للدولة،‭ ‬وتقوية‭ ‬الرابط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬عبر‭ ‬الحماية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وهنا‭ ‬يقف‭ ‬السؤال‭ ‬المؤرق‮:‬‭ ‬ماذا‭ ‬فعلت‭ ‬الحكومة‭ ‬لقيام‭ ‬الدولة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬؟
‭ ‬المناخ‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬تسبح‭ ‬فيه‭ ‬البلاد‭ ‬هو‭ ‬مناخ‭ ‬قلق‭ ‬اجتماعي‭ ‬بامتياز،‭ ‬لم‭ ‬يغط‭ ‬عليه‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬جواز‭ ‬التقليح‮:‬‭ ‬المغرب‭ ‬يتحرك‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬جنون‭ ‬في‭ ‬الأسعار‭ ‬طال‭ ‬كل‭ ‬المواد‭ ‬الأساسية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬جنون‭ ‬آخر‭ ‬سببه‭ ‬الضريبة‭ ‬على‭ ‬الأدوات‭ ‬المنزلية،‭ ‬والتي‭ ‬تم‭ ‬تقديمها‭ ‬كضرائب‭ ‬إيكولوجية‭.‬
‭ ‬وصارت‭ ‬الدولة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬التي‭ ‬نؤمن‭ ‬بأنها‭ ‬واسطة‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬تلقت‭ ‬ضربات‭ ‬متواصلة،‭ ‬وسط‭ ‬صمت‭ ‬حكومي‭ ‬رهيب‭.‬‮…‬
والدولة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تكرست‭ ‬حقيقتها‭ ‬مع‭ ‬أجواء‭ ‬الجائحة‭ ‬وما‭ ‬فرضتها‭ ‬من‭ ‬ظروف‭ ‬استثنائية‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬ستتحول‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬الضرائب‭ ‬،‭ ‬عبر‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمس‭ ‬الاستعمالات‭ ‬الإلكترومنزلية‭ ‬والهاتفية‭ ‬‮..‬
في‭ ‬غياب‭ ‬الشجاعة‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬موارد‭ ‬أخرى‭ ‬لكل‭ ‬المخططات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للبلاد،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يطرح‭ ‬سؤال‭ ‬تمويل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ضرائب‭ ‬تمس‭ ‬الفئات‭ ‬ذات‭ ‬الدخل‭ ‬المحدود‭ ‬والمتوسط‮..‬
وهنا‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬الكسل‭ ‬الفكري‭ ‬وعقم‭ ‬الخيال‭ ‬الضريبي‭ ‬للحكومة‭ ‬من‭ ‬جديد‮!‬
فالحكومة‭ ‬لا‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬عدالة‭ ‬ضريبية،‭ ‬كما‭ ‬أوضحت‭ ‬ذلك‭ ‬مناقشات‭ ‬قانون‭ ‬المالية،‭ ‬وعوض‭ ‬أن‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬تضريب‭ ‬الرأسمال،‭ ‬تكتفي‭ ‬بتضريب‭ ‬الشغل‮!‬
وعوض‭ ‬تضريب‭ ‬رب‭ ‬العمل‭ ‬تفرض‭ ‬ضرائبها‭ ‬على‭ ‬العامل،‭ ‬والموظف‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‮..‬
إنها‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الضرائب‭ ‬في‭ ‬‮..‬‭ ‬الثلاجات‭ ‬وفي‭ ‬آلات‭ ‬الغسيل‮!‬

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 30/10/2021