في أزمة محدودية المؤسسات التمثيلية الليبرالية

في القسم الأول من هذه المقالة، توصلت إلى استنتاج مفاده، أن البنية الشاملة للنظام الرأسمالي المعولم بتقنيته وعقليته الأداتية، يُعيق أساسا مواكبة الصراعات الاجتماعية لقوى الإنتاج المادية، وما تُتيحه من ممكنات للانتقال إلى مجتمع إنساني عادل وحر حقا لا مجازا.
وقد أوضحت في نفس السياق، كيف أن التناقض التقليدي بين قوى الإنتاج وعلاقاته تأخذ في هذه الحالة شكلا استيلابيا مضاعفا، لكنه لا يعيق حصرا التقدم المادي التقني لقوى الإنتاج إلا في جانبه البشري والبيئي، من حيث الاستعاضة بالتقنية عن العمالة البشرية، وسوق عالمية تتداول البضائع والأموال وتسد على انتقال البشر من جهة، ومن جهة ثانية، من حيث الإخلال القاتل بالتوازنات البيئية والاستنزاف اللامحدود لثرواتها الطبيعية. وكان ينبغي أن أضيف، احتكار براءات الاختراع، والتحكم في اختيارات التطور التقني نفسه، وفي مدد صلاحياته النفعية، على قدر الأولويات التي تخدم المصالح الرأسمالية المهيمنة وبما يزيد من أرباحها وسيطرتها. التذكير بهذه الخلاصة، التي تحمل كل من حيثياتها أسئلة عديدة لا يسع المجال لها، ضروري للانتقال إلى النظر في نذور أزمة الديمقراطية الليبرالية، في طور تحكم النيوليبرالية في سيرورتها. فهي الخلفية العامة التي تؤطر فهمي لتلك النذور ولأفاقها الممكنة . وثمة كتابات عدة حاولت طرح مقاربات مختلفة لأزمة الديمقراطية التمثيلية الليبرالية، وكيفما اختلفت وحتى تناقضت، فقد باتت أمرا يشغل الباحثين، مما يؤكد أنها أضحت قضية إشكالية على جدول الأعمال الملحة اليوم.
1 -ومن بين تلك الكتابات العديدة، اخترت باحثا عربيا مصريا هو الدكتور وحيد عبد المجيد في كتابه «ديمقراطية القرن الحادي والعشرين»، وهو المعروف برزانته العلمية التجريبية وبمنهاجيتها الاستقرائية لأوسع ما يمكن من الوقائع، السياسية والاجتماعية والمؤسساتية، مع الاحتفاظ دائما بنسبية الأحكام والاستخلاصات. ولا أخفي أني أشاطر معظم ما جاء فيها، وخاصة، إمساكه الجيد بالمعضلة الثاوية في أزمة المؤسسات الليبرالية، وبضرورة تطعيمها بأشكال من الديمقراطية المباشرة. وهذا ما سأعود إليه في المقالة القادمة. لكني أخالفه المنطلق الذي كان لابد من البداية به، وأعني بذلك تصنيفه للديمقراطية التمثيلية على أنها مجرد آلية للحكم، تسعى إلى بلوغ الحد الأمثل في تجسيد تعريفها الأصلي على أنها حكم الشعب ومن أجل الشعب. وبالتالي من العسف ربطها بالليبرالية أو بالرأسمالية وبالاشتراكية وبأي مذهب آخر، لأنها ليست إلا مجرد ٱلية أو تقنية مؤسساتية وحقوقية تقربنا من مسعاها الأصلي. وهذا الفهم التقنوي، كما رأينا في تجاربنا العربية على الأقل، هو نفسه الذي تبنته الحركات الإسلامية في طورها الأخير، وليس بعيدا عنه أيضا، وإلى اليوم العديد من الأحزاب الأخرى، لأنه يحررها جميعا من التشبع بالحمولة الثقافية العميقة للديمقراطية، وأخص منها اكتساب البعد الكوني والتاريخي في النظر إلى قضايا الهوية والتراث وكل ما نحسبه من الخصوصية الخالصة. والعطب ليس مقرونا بتلك التجارب بحد ذاتها، ولا في غيرها، بل في أن المفهوم التقنوي للديمقراطية يجردها من إطارها المجتمعي التاريخي الملموس، وكأنه يفصل الهيكل العظمي (أي نظام الحكم) عن الجسم الحي بأجمعه، فلا عجب بعدها أن يقتل الحياة فيهما معا. والمسألة هنا ليست في مدى مطابقة أي نظام للمعايير المشتركة التي تقوم عليها الآلية الديمقراطية، بل هي في جميع الأحوال في ارتباط النظام السياسي بالتطور التاريخي للمجتمع، وفي انشداده للمصالح الاجتماعية والاختيارات الأيديولوجية التي يخدمها نظام الحكم القائم، والا سيكون تحليلنا في غاية الشكلانية المنطقية الفارغة المحتوى الاجتماعي التاريخي الذي هو المقرر في نهاية المطاف.
ولنأخذ على سبيل المثال ما ورد في تلك الدراسة المفيدة جدا، وفي قضية من أكبر القضايا اليوم في أزمة الديمقراطية النيوليبيرالية في الغرب. وقد ورد في ذلك، أن لا خوف على الديمقراطية في الدول الغربية من ظهور تيارات قومية شوفينية والمعادية خصوصا للهجرة سواء المحتمل قدومها أو تلك الممثلة في الأقليات التي أصبحت جزءا مواطنا من شعوبها. وهذه التيارات الشوفينية يتنامى وزنها في العديد من البلدان الغربية. وتصنفها الدراسة على أنها شعبوية مع تيارات يسارية حديثة النشأة ولا تشكل أصلا خطراً محتملا على الديمقراطية. الخلاصة المغرقة في الشكلانية المنطقية، أن هذه التيارات الشوفينية لا تعدو في الواقع العملي كونها تقوم بدور وظيفي لا يهدد الديمقراطية، بل يمنحها دفعة من الحركية تخرجها من رتابتها وجمودها، لأن تلك القوى لا ترفض الانصياع لما تقرره القوانين ونتائج الانتخابات المعمول بها، ولأنها سرعان ما تعود، إذا ما فازت، لتلائم خطابها مع قوة المؤسسات الديمقراطية المتجذرة في البلد، وكما أثبتت التجارب الشعبوية الأخيرة اليمينية في إيطاليا وحتى اليسارية في اليونان وإسبانيا.
جوهر الفكرة إذن، أن التيارات القومية الشعبوية الشوفينية التي تتنامى في الغرب النيوليبيرالي، ليست إلا تمرينا وظيفيا رياضيا يمنح بعض الحيوية للديمقراطية الليبيرالية التي أصابها الجمود والرتابة وأفقداها حماسة وثقة الجماهير الناخبة تجاه الأحزاب التقليدية، والتي هي الأخرى، لرهانها جميعا، يمينها ويسارها، على كسب أصوات الناخبين من « الكتلة الوسطى» المتقلقة انتخابيا، أضحت برامجها متشابهة لا جاذبية فيها…
وهكذا، إذا ما غيبنا الطبيعة الرأسمالية لأنظمة البلدان الغربية، وطورها النيوبيرالي الذي يستولد ويغذي التيارات والقيم الشوفينية العنصرية، وإذا ما غيبنا بالتالي تناقضات المصالح الاجتماعية الكامنة، وآليات توزيع الأدوار التي يشتغل بها هذا النظام للحفاظ على استمراريته، فإننا لا نستطيع الخروج بخلاصات ذات قيمة فعلية. ومن هذه الوجهة، الشيء المؤكد لدي، أن فوز التيارات القومية الشوفينية، إذا ما حصل، سيعمق أزمة الديمقراطية الليبرالية، ويزيدها استقطابا وتوترا، لأن الحقوق الثقافية والشعور بالاطمئنان والمساواة في المواطنة لا يقل شأنا عن حق الانتخاب المكفول للأقليات المواطنة (وحجمها ليس بالقليل) ولو من قبل تلك التيارات الشوفينية أيضا. ناهيك عن أن مسألة الهجرة بوجه عام، ليست إلا وجها لتناقضات سوق رأسمالية معولمة، ولكنها محتجزة وغير متكافئة. والحكم التاريخي هنا إما عولمة عادلة وممكنة، وإما فوضى قومية انعزالية من الجميع ضد الجميع. وعلى نفس المنوال، لا يفيدنا بشيء توصيف أزمة الليبرالية بفشل الأحزاب التقليدية، يمينها ويسارها، لتشابه برامجها، ولانفصالها عن الجيل الجديد، وغير ذلك من الأعطاب. وهي حقائق وصفية ملموسة، لكنها تغدو كمن يفسر الماء بالماء، وتصير مضامينها العلاجية وكأنها نصائح أخلاقية، لا غير. ولذلك، أليس السؤال الحق، لماذا تشابهت هذه البرامج، ولماذا وقع هذا الانفصام بينها وجماهير واسعة لم تعد ترى فيها مستقبلها، أليس لأنها انحنت ايديولوجيا وبرنامجيا لصعود النيوليبيرالية ولمهالكها على قواعدها الاجتماعية، وقد شاركت عمليا هي نفسها في فترات معينة في هذا الصعود وساعدت بنفسها على تراجع قواها الانتخابية ومن بينها (الحزب الديمقراطي الأمريكي وحزب العمال البريطاني، والاجتماعي الديمقراطي السويدي، والحزب الاشتراكي الفرنسي)، وغيرهم في البلدان النامية الأخرى..
2 – وها نحن إذن في صلب الموضوع :
أولا: رغم كل أشكال التعمية الأيديولوجية، لا أحد يجادل في أن النظام الدستوري والمؤسساتي الليبيرالي، قد تضافر تاريخيا مع صعود النظام الرأسمالي وقام بثورات على أنقاض ما قبله. لكنه، استمر خاضعا لخدمة مصالح الطبقة الرأسمالية بالدرجة الأولى. هذه الهيمنة للطبقة الرأسمالية، والتي تتغير نسبيا سلطة مكوناتها الفئوية وتحالفاتها بحسب أوضاع الصراع الاجتماعي الملموسة، هي التي تفوز دائما في أي انتخابات وفي أي بلد وكأن التمرين الانتخابي وبكل مظاهره الحرة ليس أكثر من حق الجماهير الدنيا في أن تختار من يحكمها من بين الطبقة العليا. إنها بعبارة أخرى، جماهير مستهلِكة في السوق الانتخابية كما هي مستهلِكة في السوق الاقتصادية. وكما ورد في النص السالف: وقد عبرت حركات اجتماعية غاضبة في بعض الدول الأوروبية، بشعارات أكثرها شيوعا وتكرارا «تستطيع الاقتراع… ولا تملك الصوت» والانتخابات فخ للمغفلين» لأن الصوت الانتخابي لم يعد مؤثرا…ولعله من الواضح أن تلك الشعارات هي ما تبقى من مخزون شعارات انتفاضة الشبيبة الفرنسية لسنة 1968. وكيفما كان الحال، فإنها على المستوى النظري التحليلي، ليس جذرها بجديد على الفكر الاشتراكي على الأقل. فقد ميز هذا الفكر منذ نشأته بين المساواة والحرية القانونيتين في النظام الليبيرالي، وبين عطبه البنيوي في غياب الديمقراطية الاجتماعية الناجم عن تداخله مع النظام الرأسمالي المكرس للتفاوتات الاجتماعية على كل المستويات. ولا ينقصنا الدليل على ذلك، فلقد أشار على سبيل المثال الدكتور عبد المجيد إلى البحث المعمق لأستاذ الاقتصاد توماس بيكيتي وكتابه « رأس المال في القرن الواحد والعشرين» والذي قال عنه إنه «العمل الأكثر اهمية في مجاله منذ كتاب جون كينز الصادر في عام 1936» النظرية العامة في العمل والفائدة والنقود». وفضلا عنه هناك دراسات أخرى عديدة تخص الفترة الحالية، والتي تستخلص أن أرباح بعض الفئات المهيمنة قد تضاعفت في هذه المدة التي انشغلت فيها البشرية بجائحة الكوفيد، بينما تراجعت مداخيل المأجورين وفئات الطبقة الوسطى عامة في بلدان المركز، كما في بلدان « المحيط» مع تضخم متزايد لجحافل البطالة والملايين المهددة بالمجاعة والأمراض الفتاكة. ألا يبعث هذا الجشع على الرفض والاشمئزاز والاحتقار في أن تجني شركات مواد التلقيح على سبيل المثال أرباحا طائلة، وتلجأ دول الغرب إلى تخزين ما يفوق حاجاتها من اللقاحات، بينما لا تجد معظم دول الجنوب إلا نسبة قليلة منها؟ هذه الحيثية ليست لإثارة العواطف الإنسانية، وإنما للتأكيد على الحقيقة التاريخية للطبيعة المتوحشة للرأسمالية في ماضيها الاستعماري، وفي حاضرها الأمبريالي والنيولبيرالي. وللكشف عن ادعائها الزائف باحترام حقوق الإنسان. وأبعد من ذلك، للتعرية على اللاعقلانيتها بالنظر إلى الممكنات الإنسانية الراهنة.
كثيرة هي أشكال التعمية الأيديولوجية، ولعل من بينها في ما يخص موضوعنا هذا، ما بات يعرف اصطلاحا بالدولة العميقة. فمن الواضح أن هذا الاصطلاح جاء ليخفي أو ليغمض التحليل الطبقي الصريح للفئات الرأسمالية العليا المهيمنة والمسيطرة منها، بحسب مفهومي غرامشي. ولا يُستثني من ذلك فئات البيروقراطية الإدارية ومكوناتها الأخرى في الجيش والأمن والقضاء والتي ترد على البال في أول وهلة. أما اصطلاح الدولة العميقة يراد منه في الواقع إضفاء الشرعية المسبقة على سلوك المعنيين بها وكأنهم جزء من شرعية الدولة نفسها، والتي تدافع عن مصالحها وليس سلوكا يعبر عن مصالح معينة لأقسام من نفس الطبقة المهيمنة الواحدة، تخدم في النهاية استمرارية توازن النظام الرأسمالي والعلاقات البينية بين مكوناتها. وكيفما كانت وجاهة هذا التقييم، فإن أشد معلبي الرؤوس المدافعين عن نصاعة الحرية والمساواة في النظام الليبيرالي، لا يستطيعون تجاهل الأدوار الحاسمة لما يسمونه بالدولة العميقة في تقرير مصائر السياسات التي ستُتبع كيفما كان الفائز في الانتخابات، إن لم يكن الفائز من تخطيطها ودعمها المسبقين. ومن بداهة الجدلية أن يحدث ذلك بطبيعة الحال في خضم تباينات واختلافات وتحالفات بين مكونات الطبقة المهيمنة والمسيطرة منها وبحسب ما تمليه الدينامية المجتمعية والعالمية عامة. ولكي لا أطيل في هذا الشأن البنيوي والمتشعب، فاني أحيل القارئ إلى مؤلف يفي بهذا الغرض « الوجيز في تاريخ النيوبيرالية» لصاحبه المفكر ( ديفيد هارفي ) وهذاما سألمح إلى شذرات منه في ما سيأتي.
ثانيا: عوامل عديدة تفاعلت وتتفاعل في إضعاف تمثيلية ونجاعة المؤسسات المنتخبة في الطور النيوبيرالي خاصة. أذكر من بينها، تراجع القدرات التعبوية الاجتماعية والسياسية للأحزاب والنقابات وبالأخص منها من كانت تتطلع إلى غير النظام الرأسمالي. ولأن الديمقراطية الليبيرالية ارتبطت عضويا بالظاهرة الحزبية الحديثة، وترافق نموها واستقرارها مع نمو واستقرار الأخيرة على قاعدة التنوع في الاختيارات المجتمعية، كان لضمور القدرة المجتمعية للأحزاب والنقابات، ضمور موازي في جاذبية وتمثيل النظام السياسي النيوليبيرالي. وتأخذ هذه الحقيقة الملموسة في مختلف المجتمعات ردود فعل متنوعة من لدن الجماهير الناخبة تتراوح بين تدني نسبة المشاركة في الأحزاب والنقابات والانتخابات، وبين الميل في الاقتراع لمن يحسبه الناخبون أنه لا ينتمي للنخبة التقليدية، أو أنه يظهر ذلك في خطابه الشعبوي القومي الشوفيني خصوصا، لكن الظاهرة الأبرز في جميع الأحوال، تنامي التظاهرات الشعبية الكبرى من خارج تأطير المؤسسات التقليدية، أحزابا ونقابات ومؤسسات منتخبة، والجديد في هذه الظاهرة ( كالقمصان الصفر في فرنسا، والعشرات من أشباهها )، ولو اختلفت مطالبها، أنها جميعا تنبأ بتقليد احتجاجي جديد، سيستمر ويتلاحق، وكأنه يعبر عن « فائض انتخابي « اجتماعي لم تعد تستوعبه التأطيرات المؤسسية القائمة. والنتيجة المنطقية لهذا السيل الاجتماعي المتصاعد، والذي تغذي امكانياته ما تتيحه وسائط التواصل الاجتماعي، وما تنطوي عليه الثورة التكنولوجية عامة من هواجس التهميش والإقصاء والتحكم، ومع ما تحبل به أيضا من ميولات قصووية للمساواة الأكثر تجذرا، فإن كل ذلك، يدعو، وسيفرض بالضرورة، إن عاجلا أو آجلا، إعادة النظر في آليات النظام الليبيرالي القائم، إذ لا يمكن للثورة التكنولوجية أن تطال الصناعة والزراعة والتجارة والإدارة ووسائط التواصل الاجتماعي، وغيرها من المجالات الحيوية، وألا تطال مفاعلها المستوى المؤسسي التمثيلي كما هو عليه اليوم. وهذا بدوره سوف ينطوي بالضرورة على اختيارات مجتمعية مناقضة بالتمام للمشروع النيوبييرالي الجاري والسائد.
وما يلفت النظر في نشوء هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة، أنها تداخلت مع نزوعات رافضة للتأطير الحزبي في حد ذاته. ونقد الحزبية ليس بجديد كل الجدة، فلقد سبقه اشتراكيون صُدموا بالظاهرة الحزبية الستالينية، واعتبروا من وقتها النمط الحزبي بوجه عام يناقض تحرر الطبقة العاملة، ويشكل منبعا لتسلط الدولة البيروقراطية، وحاولوا الاجتهاد في الجمع بين شكل مرن من التحزب يكون في الأساس تابعا وخادما لاستراتيجيتهم المجالسية، باعتبار المجالس، والقائمة على نظام التسيير الذاتي للمؤسسات الإنتاجية، هي النظام السياسي الأمثل لتحرر الطبقة العاملة ولبناء الدولة الديمقراطية الحقة. غير أن التاريخ دار دورته التي لم تكن في حسبانهم. ومع ذلك لا يزال في تراثهم النظري الغني ما يفيد اليوم بما لا يقاس بالإدقاع الفكري في النزوع الفرداوي المتمرد الجاري حاليا، وهو الذي لا يتعدى في أحسن أحواله تصورا تقنويا يستغنى عن الهيكلة الحزبية بالاعتماد المطلق على الشبكة الإلكترونية الافتراضية، والتي تكرس بدورها العفوية في الممارسة السياسية لإسقاطها لعنصرين حاسمين في أي تنظيم ينشد التغيير التقدمي للمجتمع، وهما الوحدة الجدلية بين النظرية والممارسة وبين الاستراتيجية والنضالات التكتيكية الجزئية. وكما تسقط قبل هذا وذاك، المبادئ التنظيمية الحزبية التربوية التي ترتقي بوحدة المناضلين المعاشة عمليا لا افتراضيا، والتي تغذي وتستثمر عناصر الثقة المتبادلة بينهم في العمل الجماعي الحي والمشترك. ولهذه الأسباب، لا تستطيع التنسيقيات الإلكترونية، مهما كانت إيجابياتها التعبوية، أن تشكل بديلا استراتيجيا ومجتمعيا لما هو قائم.
أما ما يقال عن «تشابه البرامج» لدى عامة الأحزاب، وقد صنفت جميعا ب «التقليدية «، فالحقيقة إذا ما شئنا الدقة، أن الأحزاب اليمينية العريقة منها، لم تغير منظوراتها الليبيرالية الرأسمالية، وإنما اختارت التكيف مع المشروع النيوليبرالي السائد ولمصلحة النظام الرأسمالي نفسه. بينما تلك التي حملت صفات الاشتراكي أو التحرر الوطني، وحتى تلك التي لم تكن ذات هوية اشتراكية ولكنها ذات ميولات اجتماعية قوية، هي جميعا من تخلى تدريجيا عن مشاريعها البديلة. ولذلك أضحت تعمل في أفضل حالاتها على التخفيف من العواقب الاجتماعية الناجمة حتما عن آليات النظام الرأسمالي وعن خياراته النيوليبرالية السائدة. ودون أن ننسى أن عمليات التكيف في البلدان الغربية شدتها أكثر إلى التخندق مع المصالح القومية الإمبريالية تجاه بلدان الجنوب، وبينما أقرانها في البلدان الأخيرة، ضاقت بها السبل وفقدت زمام المبادرة، ولهذا إما هي تتخبط بدون أفق واضح، وإما انصاعت للتبعية لذات المشروع النيوليبرالي العالمي. ولذلك كله، وجدنا الأحزاب اليسارية بوجه عام ما عاد بوسع أغلبها في النهاية سوى أن تتبنى خططا انتخابوية في كل مرحلة، تطرح خلالها بعض الإصلاحات المجزأة، وبدون أي أفق نظري ومجتمعي بديل وشامل. والفرق في هذا الاستدراج كبير ونوعي، في الفكر والممارسة، بين الاستراتيجيات الانتخابوية وبين الاستراتيجيات المجتمعية البديلة.
ما أتغيى الوصول إليه من التعميمات السابقة أن الدعوة الصائتة بقوة اليوم إلى التخلي عن مفاهيم اليمين واليسار، لأنها لم تعد قائمة وصارت من الماضي التاريخي، وهذا ما يعنيه إدخالها في خانة المفاهيم التقليدية، ليس في التحليل الأخير سوى العمل على استكمال ما تبقى للنيوبيرالية في تخريب كل مؤهلات الصراع الاجتماعي لكي لا يستعيد اليسار قوته وحيويته من جديد. والفكرة المبطنة في تلك الدعوة، أن لا صراعات اجتماعية في النيوبيرالية ولا بديل آخر عن النظام الرأسمالي وعولمته الحالية، بل ليس هناك من مجتمع (ومجتمعات) أصلا، وانما هناك أفراد وحسب يسعون لتحقيق مصالحهم لنيل السعادة، كما زعمت المرأة المدعوة بالحديدية، السيدة تاتشر، وهي أول زعيمة سياسية للمشروع النيوليبرالي الفج.
3 -في كل ما سبق، أدرك أني، اضطررت لضيق المجال، إلى صياغات تعميمية، تجنبت سرد الوقائع والأحداث والمواقف والاختيارات العينية المدققة، لكني واثق من أن استخلاصاتي في جملتها لها ما يكفي من الإسنادات في حدها الأدنى. ولنأخذ على سبيل المثال البلد الأم للنظام النيوليبيرالي في العالم (الولايات المتحدة). وفي هذا الخصوص، سأترك جانبا العيوب الهيكلية البارزة والواضحة، ومنها، التكلفة المالية الباهضة للعمليات الانتخابية ومن ورائها الدعم التمويلي الذي تقوم به الشركات الخاصة للحزبين ولمرشحيهما. وهكذا فان تكافؤ الفرص في هذه الحالة يفقد كل معناه. ومن العيوب الأخرى، الدور الذي تقوم به جماعات الضغط (اللوبيات) المعترف بها قانونيا في التأثير على المنتخبين وعلى أي مستوى كانوا لتلبية مصالحها في كافة الميادين الوطنية والدولية. وفضلا عن الاختراقات الانتخابوية الأخرى، ومنها، الدور الكبير لأباطرة الإعلام في احتواء خيارات الناخبين وردود أفعالهم بالقدر الذي يخدم التوازنات النسبية الحاصلة بين مكونات الطبقة الرأسمالية المهيمنة.
وإذا ما تركنا جانبا تحليل هذه المظاهر الصارخة في الليبرالية الأمريكية، والأقل بروزا في البلدان الليبرالية العريقة الأخرى، لاختلاف مساراتها الخصوصية وإن كانت بنفس القاعدة الطبقية المهيمنة، وانتقلنا فورا إلى ندور أزمة هذا النظام في الراهن، فإلي أفضل للاختصار أخذ العبرة من شهادة لفوكوياما، منظر « نهاية التاريخ» الذي ختم مسيرته بالانتصار النهائي للديمقراطية الليبيرالية وأغلق أبوابه على أي تفكير عما بعدها. وها هو نفسه، ومن بين منظرين أخرين، يفتي في ما معناه: لا أخشى على الولايات المتحدة من التحديات الخارجية، لكن ما أخشاه، والأشد خطرا، الاستقطاب الحاد في المجتمع الأمريكي، وبين حزبيه الرئيسيين، والذي لم يترك أي قضية، مهما صغرت أو كبرت، إلا وطالها الخلاف والاستقطاب، فما يقوله هذا الحزب يكون على الضد منه الآخر، وبنفس الكراهية والشحن العاطفي.»
ولا بأس من أن أضيف شهادة أخرى لكاتب أمريكي من مقالته عن « التصدع الأخلاقي وانحدار لغة الحوار السياسي». كُتب هذا المقال في معمعان الانتخابات الرئاسية الأسبق بين ترومب والسيدة كلنتون. وقد تساءل في مقالته، لماذا لم ينجح التعصب الحزبي المفرط والفضائح في محطات انتخابية سابقة في تهديد المؤسسات والدستور الأمريكي، في حين أن الانتخابات الحالية تحمل تهديدا جديا لهما؟
ويجيب عن هذا السؤال، إضافة لشخصية ترومب نفسها، هناك عاملان مسؤولان عن اتجاه النظام السياسي الأمريكي نحو مزيد من الاستقطاب والقبلية: أولهما: يتمثل في تراجع رأس المال الاجتماعي في الولايات المتحدة بظهور وسائل الإعلام والتواصل الحديثة وهو ما يجعل الأمريكيين مستهلكين اجتماعيا بدلا من أن يكونوا منتجين لرأس المال الاجتماعي، وهذا ما يؤدي (بتعبيره) إلى ظاهرة «غرفة الصدى» حيث يرفض الكثير من الأمريكيين الروايات التي تتعارض مع نظرتهم للعالم.
وثانيهما: وكما يرى العديد من علماء السياسة والديمغرافية من مختلف الأطياف السياسية، أن المجتمع الأمريكي أصبح يعاني من الانقسامات الطبقية بشكل لم يعهده من قبل. ( … )
هذه شهادة من باحث أمريكي بعيد كل البعد عن المنظور الاشتراكي، لكنه يقر بالحقائق المادية الملموسة. وقد حاول التنقيب في ما اعتبره «تصدعا أخلاقيا يهدد النظام السياسي الامريكي، وما لاحظه وطرحه في سؤاله تزايدت مخاطره في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بين ترامب وبايدن.
من جهتي، وفي مقالتي السابقة ( تعليق سريع على فيلم أمريكي طويل ) حاولت أن أحلل مظاهر هذه الأزمة في أعقاب الصراع الحاد والاستثنائي الذي اكتنف الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما تعنيه الظاهرة الترامبية في سياقها، ومازالت تركة تلك الأزمة على حالها وتزيد تفاقما، ومن أخطرها دلالة، ما وثقته استطلاعات الرأي في أن أربعين في المائة من ناخبي الحزب الجمهوري، وأتباع ترومب ما زالوا يصدقون أن الانتخابات الرئاسية التي أجريت، كانت انتخابات مزورة انتزعت الفوز المؤكد من زعيمهم ترومب. فقدان الثقة هذا في المؤسسات التمثيلية علامة فاصلة على بداية ذوبان جليد الديمقراطية الليبرالية. وإذا كان وضع الديمقراطية الليبرالية يترنح في مركز النيوليبرالية الأم، فما هي الآفاق؟ وكيف سيتم تجاوزالأزمة؟ وأي تجديدات تطرحها؟ وما هو موقعنا نحن في البلدان التي مازالت في أولى خطواتها الديمقراطية؟ وهذا ما سأستكمله في المقالة القادمة.


الكاتب : محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 16/11/2021

أخبار مرتبطة

أفادت وزارة النقل واللوجستيك بأن الموانئ المغربية سجلت عبور حوالي 1.9 مليون مسافر و447 ألف سيارة في كلا الاتجاهين برسم

  غادرنا نهاية الأسبوع الشاعر الزجال، النورس الجريح وزجال الهامش المنسي، عبد الكريم الماحي بعد أن أتعبه “تحتحيت السؤال” ولم

  فاز فريق الرجاء الرياضي على مضيفه الحرس الوطني من النيجر بهدفين لواحد، في المباراة التي جمعتهما أول أمس السبت،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *