الكاتب الأول إدريس لشكر : بفعل الدبلوماسية الحكيمة التي يسهر عليها جلالة الملك حققنا مكتسبات في ملف الصحراء المغربية

  • سياسة بلادنا الهادئة أمام الهستيريا الجزائرية تجعل المنتظم الدولي يسعى لتجنيب المنطقة أي انجرار نحو الحرب

الثلاثي الأغلبي أجهض التناوب الجديد الذي أتت به صناديق الانتخاب واختار الاستمرارية في سياسة محافظة

 

ينعقد هذا اللقاء في ظروف دقيقة، يمكن أن نقول إنها مفصلية، ويمكن أن تكون لها انعكاسات على مجمل المشهد السياسي، وعلى باقي المناحي الاجتماعية .
ينعقد اللقاء على بعد حوالي شهر من صدور قرار مجلس الأمن بخصوص صحرائنا، والذي قد يعتقد بعض قاصري النظر، أنه لم يأت بجديد باعتبار أن ما جاء به هو تقريبا ما ورد في القرارات التي توالت منذ 15 سنة تقريبا، لكن حين نتمعن القرار في السياق الذي كان يعرف محاولات لاستغلال عودة الديموقراطيين لحكم الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل الالتفاف على القرار الرئاسي الأمريكي الذي اعترف بالسيادة المغربية على الصحراء المغربية، ومن أجل العودة إلى وضع مطلب تمديد مهام المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في المناطق الجنوبية، مما يعد لو حدث، انتقاصا من السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية في أبعادها السياسية والإدارية.
لكن انقلب السحر على الساحر، وبفعل الدبلوماسية الحكيمة التي يسهر عليها جلالة الملك، لم نكتف فقط بتجاوز هذه المطبات، بل حققنا مكتسبات ثلاثة، أرى أنها من الأهمية بمكان:
الأولى: عدم الحديث في القرار عما حدث من تأمين القوات المسلحة الملكية لمعبر الكركرات، واستئناف حركة مرور المدنيين والبضائع عبره، يعتبر إقرارا ضمنيا من المنتظم الدولي أن الأمر لا يشكل مخالفة لاتفاق وقف إطلاق النار، ولا للقانون الدولي، مما يجعل حضور المغرب ومراقبته وإشرافه على المعبر أصبح بحكم الأمر الواقع وقرارات الأمم المتحدة شرعيا.
الثاني: الدفن النهائي لأطروحة الاستفتاء، إذ يتوالى اقتناع المنتظم الدولي باستحالة تنظيم الاستفتاء، وبخطورة تنظيمه على استقرار وأمن المنطقة، ذلك أنه يؤدي إلى حل بغالب ومغلوب، بحيث إن الطرف الذي لن يكون الاستفتاء لصالحه (وهو الطرف الانفصالي بطبيعة الحال، ويمكننا الاستدلال بمشاركة الصحراويين المكثفة في الانتخابات التشريعية والترابية والتي يمكن اعتبارها استفتاء ضمنيا)، قلت إن الطرف الخاسر سيعود ببساطة إلى رفع راية الحرب، ولذلك فإن مجلس الأمن لا يطرح سوى أفق الحل الواقعي الجدي والمتوافق عليه والذي يحفظ حقوق كل الأطراف، وطبعا هذه المواصفات لا يمكن أن تنطبق سوى على مقترح الحكم الذاتي الذي أشاد به قرار مجلس الأمن، واعتبره جديا.
الثالث: اعتبار الجزائر طرفا، ودعوتها لحضور جلسات التفاوض التي تم تكليف المبعوث الأممي الجديد السيد ستيفان دي ميستورا بإحيائها، وأهمية هذا الأمر تكمن في حصول اقتناع عند المنتظم الدولي أن الأمر لا يتعلق حصريا بنزاع بين دولة وبين حركة انفصالية، بل هو نزاع متلبس بإشكالات إقليمية وجهوية مرتبطة بصراع قوى إقليمية، وبالتالي لم تعد الجزائر قادرة على إقناع المنتظم الدولي بأنها فقط تدعم ما تسميه بهتانا حركة تحرير وطني، إنها حسب قرار مجلس الأمني طرف في الصراع.
ولذلك أيتها الأخوات والإخوة كان الرد الجزائري الهستيري هو دفع المنطقة إلى توتر إقليمي عبر اختلاق ادعاءات لا تسندها أي أدلة، بعد أن فشلت في دفع البوليساريو للعودة للعمل العسكري، وفشلت في جر المغرب للتصعيد حين قطعت العلاقات الدبلوماسية ومنعت مرور الطيران العسكري والمدني فوق أجوائها، ثم توقيف العمل بأنبوب الغاز المار من الأراضي المغربية، والاتهام البليد للمغرب بدعم حركتي الماك القبايلية وحركة رشاد المعارضة، والتسبب في حرائق منطقة القبايل. واتهام المغرب بالتسبب في مقتل ثلاثة مواطنين جزائريين كانوا يعبرون المنطقة العازلة قريبا من موقع مراقبة لقوات المينورسو، مما جعل الأمم المتحدة ترد على الادعاءات الجزائرية وتكذبها.
ولولا أن سياسة بلادنا الهادئة والمتزنة تجعل المنتظم الدولي والقوى المحبة للسلام تسعى لتجنيب المنطقة أي انجرار نحو الحرب لحساسية المنطقة وتعقيداتها وموقعها الجغرافي، مستحضرين مدى الجنون الجزائري. وهي فرصة لنحيي قواتنا المسلحة الملكية الباسلة وكل حماة السيادة الوطنية بقيادة القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية جلالة الملك محمد السادس.
أيتها الأخوات والإخوة:
أما في ما يخص ما يرتبط بحزبنا في علاقته بالانتخابات وتعيين الحكومة واختيارنا للمعارضة واستعدادنا للمؤتمر القادم وغيرها من القضايا، فسأتحدث عنها بكل الوضوح المطلوب.
لا أحد من المراقبين، حتى من طرف أكثرهم انتقادا للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يمكنه أن ينكر النتائج الإيجابية التي حققها الحزب في ظروف صعبة، بحيث تمكن من مضاعفة نتائجه بنسبة 70%، وهي نتائج لم يحققها الحزب منذ مدة طويلة، وأهمية النتائج الانتخابية تكمن في كون أننا تجاوزنا منذ مرحلة التناوب التوافقي ذلك الصراع الذي كان بين الدولة وأحزاب الحركة الوطنية حول شكل السلطة السياسية، وانتقلنا إلى مرحلة حياد الدولة تجاه جميع الأحزاب، ودخولنا مرحلة التداول السلمي على تدبير الشأن العام، وبالتالي فإذا كانت الانتخابات قبل عشرين سنة هي محطة للتواصل مع عموم الشعب فقط، وفضح ما كان يحاك في تلك المرحلة من أساليب التزوير، فإننا اليوم ندخل الانتخابات من أجل أن نساهم في تدبير الشأن العام.
ولأن حزبنا تعرض لإنهاك بسبب مشاركته في حكومة التناوب الأولى، ولأن الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في العالم كله دخلت في مرحلة تراجع مؤقته مع تصاعد النزعات اليمينية، ولظروف أخرى، لا يتسع المجال لذكرها، نعتقد أن انتقالنا للرتبة الرابعة هو نتيجة أكثر من إيجابية بالنظر لكل هذه الظروف، وبالنظر للضربات التي كنا نتلقاها، وهذه النتيجة لا يجب أن تدفعنا إلى الارتياح فقط، بل يجب أن تمدنا بطاقة للتقدم مستقبلا نحو نتائج أفضل تليق بقوة الحزب سياسيا وبتاريخه، وبالأدوار التي قام بها من أجل التحول الديموقراطي بالبلد.
لا نخفي أننا كنا نرغب في الوجود داخل الحكومة، ولذلك شاركنا في الانتخابات، وعملنا على تحسين نتائجنا، وكل من يدعي أنه دخل الانتخابات لغرض غير المساهمة في تدبير الشأن العام إما سيكون كاذبا، وإما سيكون خارج المعقول والمنطق الانتخابيين، فلماذا نقدم إذن برنامجا انتخابيا للناخبين إذا كنا ندخل الانتخابات من أجل أن نكون في المعارضة ؟

وهذا ما جعل المجلس الوطني يقول بعد ظهور نتائج الانتخابات، وتكليف السيد أخنوش بتشكيل الحكومة من طرف جلالة الملك، إن الاتحاد الاشتراكي يرحب بأي عرض من السيد رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها يحترم وزن الحزب السياسي، ويتقاطع مع برنامجه الانتخابي.
ولذلك كان طبيعيا وببساطة، أن نعلن بعد أن لم يقدم لنا العرض الذي حددنا شروطه، أن نصطف في المعارضة، فليس هناك منطقة وسطى.
واليوم حين نرى الارتباك الحكومي وهي في بداياتها، وحين نرى سعيها نحو التغول، وحين نعاين رفضها لأي مقاربة تشاركية، فإنني أعترف لكم بصواب ليس فقط توجهنا للمعارضةـ بل بصواب رأي كثير من قواعدنا الحزبية التي كانت تضغط من أجل العودة للمعارضة بمجرد ظهور نتائج الانتخابات وبروز ملامح التوجه نحو بناء مفهوم لأغلبية متغولة.
لقد ضغطوا في اتجاه الهيمنة المطلقة على كل المجالس الجهوية، وأغلب المجالس الإقليمية ومجالس المدن الكبرى، وبتنا نتخوف من استخدامهم لهذه الهيمنة لمعاقبة المجالس التي نسيرها، أو تسيرها باقي أحزاب المعارضة، فهم الآمرون بالصرف في وزاراتهم التي تتكلف بمشاريع في المدن والجماعات القروية والمقاطعات والأقاليم، وهم الذين يحوزن ميزانيات المجالس الجهوية التي لها أدوار تنموية ليست هينة.
وفعلوا الأمر نفسه في المؤسسة التشريعية، حيث هيمنوا على مكتب مجلس النواب واللجان البرلمانية، وحتى في جلسة المساءلة الأسبوعية، أصبحت 80% من المداخلات للأغلبية، و20% فقط للمعارضة في سابقة من نوعها، والعرف والمنطق أن البرلمان الجديد هو من يضع قانونه الداخلي وفقا لتركيبته الجديدة، بما يسمح للتعددية والتشاركية أن يكونا من بين المبادئ الناظمة لاشتغال المؤسسة التشريعية.
أيتها الأخوات والإخوة:
حين طرحنا شعار “من أجل تناوب جديد” مؤطرا بمضمون أفق الدولة الاجتماعية المنشودة، كنا واعين بتحديات المرحلة، ويحق لنا أن نقول إننا كنا الوحيدين الذين وضعنا شعارا يكثف برنامجا للإجابة على تحديات المرحلة.
ولقد كانت نتائج الانتخابات تعبيرا عن طموح المغاربة للتأسيس لهذا التناوب الجديد، إذ تمت معاقبة الاتجاه المحافظ.
طبعا كنا نأمل أن تكون أصوات الاتجاه الحداثي اليساري أكبر، ولكن اعتبرنا أول الأمر أن الأحزاب الثلاثة الأولى يمكن أن نحسبها على التوجه الحداثي الليبرالي في مقابل التوجه الحداثي الآخر ذي الملمح اليساري أو الاشتراكي.
فكان ممكنا القول إن تناوبا قد حدث بالانتقال من حكومة يرأسها حزب محافظ منذ عشر سنوات، إلى حكومة ذات توجهات ليبيرالية، لكن للأسف حين استمعنا للتصريح الحكومي وبعده حين اطلاعنا على مشروع قانون المالية، تبين لنا أننا أمام حكومة محافظة مرة أخرى، وبالتالي فإن هذا الثلاثي الأغلبي أجهض التناوب الجديد الذي أتت به صناديق الانتخاب، واختار الاستمرارية في سياسة محافظة لا في جانبها الاقتصادي أو الاجتماعي، ولا في هوية خطابها .
وكما تم إجهاض تناوب جديد، فكذلك جاء مشروع قانون المالية ضد طموح الدولة الاجتماعية، التي للمفارقة كانت حاضرة في التصريح الحكومي في فقرات كثيرة.
لم يقم مشروع قانون المالية حتى بأجرأة المقترحات المنبثقة من المناظرة الوطنية حول الإصلاحات الضريبية، والذي تشكل خارطة طريق نحو العدالة الضريبية، بحيث تم الاستمرار في جعل الموارد الضريبية تفع على كاهل فئة الأجراء الذين يخضعون للتضريب من المنبع، وغياب أي تأسيس لضريبة تصاعدية على الثروة، انسجاما مع قيمة التضامن، ودفن الضريبة التصاعدية على الشركات لصالح الضريبة التناسبية التي ستؤدي فضلا عن تقلص الموارد الضريبية، إلى أشكال من التحايل الضريبي، وإلى استفادة مقاولات تحقق هوامش كبيرة من الأرباح من تسهيلات ضريبية تشبه تلك الممنوحة للمقاولات المتوسطة والصغيرة.
هذا دون أن نتحدث عن أن نسبة النمو التي تم تحديدها في 3.2% تعبر عن غياب الطموح وعن غياب الإبداع كذلك، وهي نسبة لن تسمح بخلق مناصب الشغل الموعود بها، والتي هي هزيلة من الأصل، قياسا إلى مناصب الشغل التي فقدت بسبب تداعيات كورونا، فهذه النسبة لن تمكن في أفضل الأحوال من تحقيق سوى حوالي 70 ألف منصب شغل، وليس 125 ألف الموعودة في مشروع قانون المالية، والتي بدورها تقل عن 250 ألف منصب شغل سنويا المذكورة في التصريح الحكومي، مع العلم أننا فقدنا حوالي مليون منصب شغل خلال الجائحة.
والأدهي أن هذه النسبة مبنية بدورها على احتمالات لسنا من نتحكم فيها، أي لسنا من سنتحكم في مخرجات السنة الفلاحية، لأن ذلك من علم الغيب، وكذلك فإن متوسط أسعار المنتوجات الطاقية التي قدمها مشروع قانون المالية كفرضيات، هي متفائلة حد المبالغة في هذا التفاؤل، وبعيدة عن الأرقام التي يقدمها الخبراء، والتي تتوقع تصاعدا في الأثمنة وارتفاعا، ومن مؤشرات ذلك أن ثمن الغاز اليوم في السوق الدولية هو ضعف الرقم المطروح في مشروع قانون المالية.
أيتها الأخوات والإخوة:
لا شك أن الثمن ستدفعه الطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة ستكون تكلفته الاجتماعية باهظة، ولن نصل مع هذه الحكومة لتوسيع الطبقة المتوسطة، التي ستتجه مع هذه الإجراءات الضريبة نحو البلترة، مما يجعلنا نحذر من أن الحكومة تتجه بنا نحو إفشال الانطلاقة السليمة لتنزيل مقتضيات النموذج التنموي الجديد.
نحذر بشدة لأننا نرى مشروع قانون للمالية قد تم تمريره بالقوة العددية، وهو قانون يزيد في فاتورة الدين الخارجي والدين العمومي، ويفاقم اللاعدالة الضريبية، ولا ينتج أي قيمة مضافة في سوق التشغيل وفي عموم الخدمات الاجتماعية.
إنه قانون مالية قد يؤدي تنزيله إلى توترات اجتماعية تعصف بأي سعي نحو سلم اجتماعي مستدام، هو لبنة لبدايات الشروع في تنفيذ مقتضيات النموذج التنموي الجديد.
أيتها الأخوات والإخوة:
وعلى ذكر التوترات الاجتماعية، أنتهز الفرصة للحديث قليلا عن المذكرات التي صدرت بشأن تنظيم مباريات ولوج المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، والتي ضد قانون الوظيفة العمومية الذي يحدد سن التوظيف في 45 سنة بالنسبة للفئات التي سترتب في السلم العاشر، وضد القوانين الأساسية لأطر الأكاديميات كما تم تعديلها والتي تحدد 40 سنة سقفا للتوظيف، ضد كل هذا، ذهبت هذه المذكرات لحصر السن في 30 سنة دون مبررات معقولة، مما يجعل فئات واسعة من الشابات والشباب الذين كانوا ينتظرون الإعلان عن هذه المباريات مقصيين مما يفاقم حالة الإحباط، وأغلبهم من خريجي الجامعات ذات الاستقطاب المفتوح الذين ليست لهم فرص كثيرة لولوج سوق الشغل.
لا يمكن أن نعتبر هذا الإجراء سوى ترجمة للتوجهات الحكومية النيوليبيرالية، البعيدة كل البعد عن أي توجه نحو الدولة الاجتماعية، وتكشف تهافت ادعاءاتها.
أيتها الأخوات والإخوة:
اما في ما يخص العلاقة بالتنظيم الحزبي وعقد مؤتمرنا القادم فإن ما يقع في بلادنا في علاقته بما يقع في العالم، يجعل مهمتنا الأساسية من الناحية التنظيمية، هي تقوية الحزب، وأجهزته الموازية، والذهاب نحو المؤتمر القادم موحدين، وأعتقد صادقا أننا من الأحزاب القليلة ريما الذين لا نحتاج لأطروحة جديدة، فلا يزال مطلب التناوب الجديد قائما، ولا يزال طموح الدولة الاجتماعية قائما، ولا تزال الديموقراطية الاجتماعية تثبت راهنيتها، وأنها الجواب الوحيد عن إكراهات المرحلية.
ولذلك يجب التركيز أكثر على كل ما يتعلق بتقوية الأجهزة الحزبية، وبمرافقة منتخبينا في الجماعات الترابية، وفي مؤسستي البرلمان وكذا في الحركة المدنية والمجتمعية.
أيتها الأخوات والإخوة:
لا يخفى عليكم أن مسيرتنا النضالية أفرزت تجربة تنظيمية متميزة مكنت القوات الشعبية تاريخيًا من التوفر على حزب سياسي يساري منظم يسهر على تأطير المواطنين ويفرز النخب والكفاءات ويبلور البرامج والمشاريع، وهي تجربة أبدعت، على امتداد أكثر من ستين سنة، صيغا وآليات كفيلة بتحقيق التوازن الضروري بين المناعة الذاتية والانفتاح المجتمعي، بين النضالي الميداني والكفاءة المعرفية، بين المشاركة والمعارضة. ولعل أهم ما يمكن أن يجعلنا اليوم معتزين غاية الاعتزاز بهذه التجربة التنظيمية العريقة هي أنها وفرت لنا سبل الصمود والبقاء رغم كل التحديات التي مر بها حزبنا، ورغم كل التقلبات التي عصفت بالكثير من الأحزاب اليسارية في العالم العربي.
نعم إننا نعتز بأداتنا التنظيمية غاية الاعتزاز وفي نفس الوقت نتطلع إلى تطويرها وإعطائها نفسًا جديدا في المراحل المقبلة لمواصلة إنجاز مهامنا النضالية بمزيد من الفعالية، والحال أن تجربتنا هذه منذ المذكرة التنظيمية للشهيد عمر بن جلون سنة 1965 لم تكن تجربة جامدة أو منغلقة، بل كانت تجربة منفتحة ومتجددة في مسايرتها للتطورات السياسية والمجتمعية ببلادنا، حيث أننا لم نتردد في إلغاء مبدأ المركزية الديمقراطية عندما اقتضى الأمر ذلك، ولم نتردد في إلغاء آلية لجنة الترشيحات وتعويضها بمبدأ الترشيح الفري على أساس الاقتراع المباشر، ولم نتردد في إرساء الكتابات الجهوية وفي اعتماد لجنة الأخلاقيات، ولم نتردد في تعويض شكل الخلية بالتنظيمات المجالية والقطاعية، ولم نتردد أيضا في اعتماد قاعدة المحاصصة في التمثيلية النسائية (الكوطا) على صعيد أجهزتنا التنفيذية والتقريرية وكذلك على صعيد المهام الانتدابية، ولم نتردد في اعتماد مبدأ انتخاب الكاتب الأول من المؤتمر الوطني، ولم نتردد أيضًا عندما أستدعت الضرورة ذلك اعتماد تقنيات التناظر المرئي vidéoconférence في عقد اجتماعاتنا، وتوظيف مختلف تقنيات البريد الإلكتروني في تواصلنا وتدبير مراسلاتنا.
لذلك فإننا اليوم جميعا نستشعر ضرورة استيعاب مختلف التحولات المجتمعية والتكنولوجية الجديدة التي ما فتئت تؤثر الأثر البليغ على الكثير من الأنماط التنظيمية المجسدة للفعل السياسي المؤسساتي، ونستشعر أكثر من ذلك أن الكثير من أساليب تنظيمنا ، واشتغال أجهزتنا، واتخاذ قراراتنا، أصبحت اليوم متجاوزة وغير منتجة بفعل التحولات التي طرأت على مفاهيم الالتزام السياسي والتواصل المؤسساتي والتعبئة النضالية؛
– فلا يمكن أيتها الإخوة والأخوات أن نستمر اليوم وغدًا في انتخاب أجهزة حزبية مجالية بدون وظائف ميدانية،
– ولا يمكن أن نستمر في حمل أعباء مقرات حزبية بدون مواصفات مضبوطة ولائقة بالعمل المؤسساتي، مقرات مكلفة لا ترقى إلى ما يمكن أن تحققه أبسط منصة إلكترونية في العالم الافتراضي،
– ولا يمكن أن نستمر في إنتاج ذلك التوتر المفتعل بين المناضل والكفاءة ، وبين الحزبي والانتخابي، وبين المشاركة والمعارضة،
– ولا يمكن أن نستمر في التردد أمام ما تتيحه الثورة الرقمية من امكانات هائلة للعمل السياسي على مستوى التنظيم والتعبئة والتواصل.
لقد كانت لنا مداولات مهمة في هذا الشأن داخل المكتب السياسي وكذا مع قطاعي النساء والشبيبة ومع التنظيمات الوطنية الحزبية في الجامعة وقطاع المهندسين والتجار والمهنيين والنقابيين في الفيدرالية من خلال قياداتهم الوطنية، واستقر رأينا كقيادة وطنية على الأهمية القصوى التي تكتسيها ضرورة استشراف مؤتمرنا المقبل لصيغ تنظيمية جديدة أكثر ملاءمة لمنطق العصر ولمتطلبات الفعل السياسي المنتج، وإن كنا في المكتب السياسي لم ندقق في نوعية هذه الصيغ والآليات التنظيمية الجديدة فإنني لابد أن أدعو لجنة الأرضية التنظيمية المنبثقة عن اللجنة التحضيرية إلى الانكباب على تقييم تجربتنا التنظيمية، سواء من خلال أدبيات مؤتمراتنا السابقة أو من خلال الحصيلة الميدانية، وذلك من أجل بلورة اقتراحات كفيلة بتجاوز أعطابنا التنظيمية وإرساء دعائم نموذج تنظيمي جديد أكثر فعالية وملاءمة لإنجاز مهامنا السياسية المستقبلية.
إخواتي، أاخواني،
اعتبارا لتزامن أجل انعقاد المؤتمر الوطني الحادي عشر مع قانون الطوارئ الصحية وما يفترضه من تدابير احترازية صحية وقائية وكذا تزامنه مع المسلسل الانتخابي الذي عرفته بلادنا منذ شهر يونيو، وهو الشهر الذي كنا نود عقد المؤتمر فيه ولكن اكتفينا بعقد المجلس الوطني، الذي خصصناه للانتخابات مقررين تأجيل المؤتمر لما بعد الانتخابات، وبالفعل فعلى مسافة شهر بعد الانتخابات أعلنا عن التحضير للمؤتمر، وفي هذا الاطار نعقد مجلسنا الوطني هذا الذي نتقدم أمامه بمقرر يرمي إلى تحديد تاريخ المؤتمر لأيام 28، 29، و 30 يناير ببوزنيقة، وهو ما يتطلب تعديل المادة 77 من النظام الداخلي بتغيير الأجل للإعلان عنه من ثلاثة أشهر إلى شهرين. وتعديل الفقرة الثانية من المادة 80 من النظام الداخلي وجعل القاعدة توزيع مقاعد المؤتمر بناء على معدل الأصوات المحصل عليها في آخر استحقاق انتخابي وطني باعتبار أنها هذه المرة شاملة للانتخابات الجماعية والجهوية والوطنية.
وكذا دعوة اللجنة التحضيرية لملاءمة النظام الداخلي في مواده المتعلقة بتسيير المؤتمر وأشغاله وانتخاب أجهزته مع ما يفرضه قانون الطوارئ الصحية وعرضها للمصادقة على المجلس الوطني قبل انعقاد المؤتمر.
إن هذه المهام تتطلب منا أن نجتمع كلجنة تحضيرية بعد انتهاء اجتماعنا هذا من أجل هيكلة اللجنة التحضيرية لتبدأ أشغالها من اليوم.
الأخوات والإخوة:
لن أعيد الحديث عن سياق ظهور بدعة المساندة النقدية، وطيف أن الحزب الذي جاء بها موازاة مع تعيين حكومة فقيدنا الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، قد مارس معارضة عدوانية تحت غطاء هذه المساندة النقدية، ولكن لننتبه أن السياق كان الانتقال من مرحلة قمع معمم إلى مرحلة التأسيس لممكنات التحول الديموقراطي، بعد سنوات من سوء التفاهم، الذي دفعت بلادنا ثمنا له، ولم تستفد منه إلا جيوب مقاومة التغيير، التي ضاقت ذرعا بحكومة التناوب التوافقي، أي أننا كنا في فترة تأسيسية لانعطافة تاريخية.
اليوم لا أعتقد أن بلادنا وأن دولتنا في مرحلة هشاشة أو اضطرابات، أو أن مؤسساتنا ضعيفة، أو أننا نعيش صراعا حول السلطة أو تشكيكا في المشروعيات.
وبالتالي ما عشناه هو مخرجات عملية انتخابية عادية أدت إلى تغير مكونات الحكومة، والتي بدورها قد تتغير سواء بتعديل حكومي أو في الانتخابات المقبلة، فما الداعي لمساندة نقدية أو معارضة مساندة ؟
بل إن الطريقة التي تمت بها الهيمنة على المؤسسات التمثيلية، والطريقة التي تم التعامل بها مع حزبنا الذي لا نعتقد أننا نكابر حين نقول إنه قوى سياسية وتاريخية ومرجعية وواقعية، تجعل من موقع المعارضة هو الخيار الأمثل، ولعلنا تأخرنا في إعلان الموقف، ولم نتسرع كما يقول البعض.
الأخوات والإخوة:
ينتظرنا عمل كبير خلال الخمس سنوات القادمة، وعلينا مضاعفة الجهود.
لم يعد مسموح لنا إلا بالمزيد من التقدم، وبالتالي فالرهان هو الاستمرار في تقوية الحزب تنظيميا في واقع مضاد للأسف للحزبية، وكذلك لم يعد مسموحا لنا أن يكون طموحنا أقل من ترؤس الحكومة المقبلة أو أن نكون الحزب الثاني على أقل تقدير، ذلك أنه لا يجب أن ننسى أننا نقود المعارضة، والمنطقي أن الحزب الأول في المعارضة يجب أن يكون طموحه ترؤس الحكومة المقبلة.
لم يعد المجال يسمح، ونحن نتهيأ للمؤتمر، بالارتكان إلى منطق تصفية الحسابات، أو توظيف أخطاء هي أعراض لأي ممارسة حتى ولو وصلت للغايات الأقصى من المثالية، من أجل استثمارها في صراعات حول قيادة الحزب محليا وجهويا ووطنيا.
لقد ركبنا هذا المركب جميعا، وعشنا مشاكل داخلية، وتجاوزناها بالتنازلات الراقية أو ما أسميه ” نبل التنازلات”، وواجهنا تهجمات الخصوم الذين كانوا يصوبون نيرانهم نحو الاتحاد الاشتراكي من دون باقي أحزاب المعارضة حين كنا في معارضة حكومة بنكيران، أو دون باقي أحزاب الأغلبية في الحكومة السابقة.
أيتها الأخوات والإخوة:
لا يظنن أحد أن قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هي نزهة، إنها مما تنوء به الجبال، فقيادة هذا الحزب من الصعوبة التي لا نجدها في باقي الأحزاب المغربية مجتمعة، ولعلكم تلاحظون سلاسة مؤتمرات الأحزاب الأخرى أثناء عقد مؤتمراتها، بخلاف ما يقع في حزبنا.
في الاتحاد الاشتراكي أنت أمام تحديات كبرى:
تحدي المحافظة على وحدة الحزب، فتعلمون أن الاتحاد الاشتراكي أكبر حزب تعرض لانشقاقات في مساره، ونحمد الله أننا وضعنا حدا لهذه الحالة، بل إننا قمنا بهجوم مضاد في اتجاه إعادة التعبيرات التي غادرته في سياقات معينة.
تحدي استرجاع ثقة ما يمكن أن أسميه الحزام الاتحادي الذي كان مشكلا من الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة، والذي فقدنا جزءا كبيرا من امتداداته، والحمد لله استرجعنا البعض منه في الانتخابات الأخيرة، ولكن ما زلنا نحتاج لبذل المزيد في هذا الاتجاه.
هذا دون الحديث عما أشرت له سابقا من طموح تقدم الحزب انتخابيا لقيادة المرحلة المقبلة من المدخل الحكومي.
نعم نحن مرتاحون في موقع المعارضة، والاختيارات الحكومية التي بدأت تتضح مع توالي القرارات تبين صواب موقعنا، ولكننا لا يجب أن نعتبر المعارضة وضعا مريحا يجعلنا نكتفي فقط بانتقاد الحكومة وقراراتها، بل أن تكون المعارضة فقط مرحلة للإعداد الحزب لكي يكمل الشوط الثاني للتناوب الثاني، فقد سقط الحزب المحافظ انتخابيا، ولكن للأسف جاءت حكومة ليبيرالية مظهرا ومحافظة روحا واختيارات، ولذلك فإن القيادة التي سيفرزها المؤتمر أعتقد أنه يجب أن تكون واعية بمهمة مواكبة ومرافقة المرحلة من موقع نقل الحزب من موقع المعارضة إلى موقع التناوب على تسيير الشأن العام، سواء في الحكومة أو في المؤسسات الانتخابية.
أيتها الأخوات والإخوة:
لا نحتاج تغييرا من أجل التغيير، بل نحتاج لفهم التحديات التي تنتظرنا، وترتيب الاختيارات التنظيمية والسياسية على حسب ما هو الأكثر إجابة عن تلك التحديات.
هذه أمانة في أعناقنا جميعا.
وعاش الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بفضلكن وبفضلكم
عاش وسيعيش من أجل الوطن، فالوطن أولا، والوطن أخيرا، والوطن دائما.

 


بتاريخ : 22/11/2021