نساء معذبات في «لمعلقات» للمخرجة مريم عدو

«لمعلقات»… فيلم وثائقي مغربي عن نساء «بين بين» لا هن متزوجات، ولا هن مطلقات، بفعل غياب الزوج، وقد عرض الشريط ثلاثة نماذج من منطقة بني ملال: السعدية وغيثة ولطيفة، مصورا معاناتهن المضاعفة جراء صدمة الفراق وما يترتب عنها من شرخ على مستوى مواجهة أعباء الحياة، ما يجعلهن عرضة للاستغلال في العمل الموسمي، بلا عقد عمل وتغيير اضطراري للسكن، يكابدن منظومة القيم المجتمعية التقليدية التي تحط من كرامة النساء وتحكم عليهن بالإقصاء والتلاشي الى حد الموت (مثلما «فجعنا» حقيقة بوفاة «لطيفة» قبل بلوغ الطلاق المنشود.)
يرسم الفيلم صورة لوضع مؤسساتي قاتم مختل قانونيا، فمدونة الاسرة، رغم تجاوزها أعطاب مدونة الأحوال الشخصية، إلا أنها لم تتمكن من إيجاد حلول تشريعية منصفة لوضع «النساء المعلقات». ويتجسد ذلك في سعيهن الحثيث لانتزاع وثيقة الطلاق من المحكمة – كما لو كانت امتيازا لا حقا – ليجدن أنفسهن أمام ترسانة تشريعية تقليدية جدا يجترها كاتب عمومي في جلسات معهن، هي أشبه بالاستنطاق عن مكان إقامة الزوج، أو مطالبتهن بتجميع اثني عشر شاهدا لإثبات الزواج العرفي، وغياب الزوج لمدة طويلة وذلك في ظروف قاسية بل تعجيزية، خاصة لمن تتحمل مسؤولية أسرتها أو عائلتها. هاته المعاناة المضاعفة صيرتهن آلات بشرية تسابق الزمن لتحقيق حد أدنى من شرط الوجود بأقل الخسارات الممكنة، ومن خلال هذا المشهد الحي، نجترح كل أشكال التفقير والتجهيل والتيئيس والبيروقراطية التي تجرف الكائنات النسوية المعلقة إلى التدمير الذاتي.
فعلا، نجحت المخرجة في تحبيك السيناريو وتجويد الصورة بحسن التقطيع الوظيفي، بما يلائم تنوع الفضاءات الدالة، والتحكم في الإضاءة مع انتقاء موسيقى معبرة عن حالاتهن النفسية، خاصة أن إيقاع الفيلم يعزز تيمة التكرار بالتركيز على الصمت والنظرات المحبطة وحالات الشرود… وتكرار المتتاليات الحركية والصوتية يجعل المتلقي يدور مع المعلقات في دوامة اليأس والإحباط والتيه.
تصرح المخرجة مريم عدو لوكالة رويترز «اخترت أن أكون أقل تشاؤما» وهذا السعي «الفكري» لتخفيض منسوب التشاؤم هو الذي جعل الفيلم الوثائقي «مؤدلجا» إلى حد ما، فبقدر ما يستدرجنا العمل لنقد الواقع الطبقي والذكوري بقدر ما يوجهنا الى الاقتناع بـ»طهرانية» المرأة و»قدسية» القضية النسائية، يتمثل ذلك في كون «معلقات» الفيلم لا يصدر عنهن أي كلام ناب أو سب وقذف، فهن لا يبلغن حد السخط والانفعال العصبي ضد شبح الزوج الغائب أو ضد ممثلي السلطة (المقدم والشيخ والقايد أو القاضي) إذ يغيب العنف المضاد في الحوارات بينهن في الجلسات الحميمية، بل تغيب الحوارات الداخلية «المنولوغات» في عزلاتهن السرية، ففي هذه الفضاءات النفسية الأشد قتامة تتجلى أكثر البنية النفسية العميقة في هشاشتها أو استسلامها أو في تحديها قذارات العالم الخارجي. إنهن كدن يفتقدن البنية اللاشعورية بسبب تغييب المسألة الجنسية عن الحياة اليومية / الليلية، ذلك أن الحقد الدفين على زوج غائب إن كان يبرر قمع الغريزة الجنسية، فإنه لا يمكنه أن يحجب رغبات دفينة أو انفلاتات جسدية جنسية لاختبار ما تبقى من أنوثة لدى بعضهن، ولو باختلاس النظرات الشهوانية والابتسامات المغرية والنكت وفلتات اللسان، لذا يبدو تصرفهن كما لو كان موجها ليظهر معقولا راشدا «عفيفا طاهرا» لكسب شرعية ما. وما قد يثير الاستغراب، هو إقصاء سلوك «التحرش الجنسي» بهن في مجتمع ذكوري يعتبر «لمعلقات» غنيمة ميسرة في غياب رقابة الزوج وحماية الأب أو سلطة مؤسسات الدولة.
لقد ساهم تشذيب الفيلم تقنيا وفكريا، في حذف لقطات كان يمكن أن تغني وثائقية العمل فلا يعقل أن تكون جل المكالمات متحكم في رسالاتها الخطابية ومقاماتها الحوارية، فالجواب يكون جاهزا وفوريا حين الاتصال الهاتفي، ونحن ندرك أن قطع الاتصال بـ»لمعلقات» وتكراره المضنى، وبلا جدوى في كثير من المواقف، يعزز تيمة «التعليق» والتأجيل وتبطيء الزمن، ويعمق الشرخ المأساوي بل التراجيدي للشخصيات وهي تواجه قدرا سيزيفيا. لقد بدا أحيانا أن الفيلم سوي بنوع من التوافق بين النساء وفريق العمل الوثائقي، لا أشير إلى موافقتهن القبلية باعتباره حقا، بل إلى تحول الكاميرا إلى رقيب على أقوالهن وسلوكاتهن فهن لا يؤدين أجر سائقي الطاكسيات مثلا أو الكاتب العمومي أو كراء المنازل فهل يتكفل «المنتج المفترض» بذلك أم أن الإخراج ارتأى حذف ما يعتبره فضلة أو حشوا لا قيمة توثيقية له.
مهما يكن، فإن الإخراج الفني للشريط الوثائقي كان موفقا إلى حد كبير في إبراز الرؤية للعالم كي يتمكن المتلقي من الوقوف ضد فساد الوضع النسوي في المغرب على مستوى التشريع القانوني والنسق القيمي القبلي -الديني المتداول اجتماعيا والوضع الاقتصادي الطبقي…
حاز فيلم «لمعلقات» على جائزة تنويه في المهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا-2021


الكاتب : جمال الفزازي

  

بتاريخ : 27/11/2021