تأملات حول إعادة ابتكار المعارضة (1)
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
يكاد يحصل الإجماع أن كل فترة سياسية تتطلب معارضتها الخاصة، مما يستوجب إعادة تعريف التموقع فيها، وأدوات تنفيذه وأفق عمله…
ولكي يتأتى ذلك، لا بد من التأمل في التغيرات الحاصلة، ولعل أهم التحولات، تلك التي مست أصل الأشياء، وهو موقف الدولة وجهازها الإداري من الأحزاب السياسية وتحجيم رغبتها الشاسعة في صناعة أُكُلاتِها الخاصة في مطبخ فضاءات الحزبية المغربية .
وبما أن الفاعل المركزي في الدولة هو قطب الإصلاحية السياسية، فقد تملَّك بدوره الريادة الإصلاحية التي كانت في فترة التاريخ الأول للاستقلال من ديدن الفاعل الحزبي الوطني.
الدولة صارت، بمعنى من المعاني، المثقف الجماعي الذي كان يحتكره اليسار مثلا، وحاملة المشروع بالنظر إلى مبادرات الإصلاح التي خاضتها، ومنها النموذج التنموي الجديد.
وأن يكون الربان بن موسى الذي قاد هذه العملية ضمن التشكيلة الحكومية، لهو أمر له دلالته.
غير أن ما يهمنا هنا بالأساس هو أن كلا من الأغلبية والمعارضة هامشهما صغير في حقيقة الأمر، لأنهما معا محكومان بالتوافق الكبير الحاصل حول النموذج التنموي الجديد…
المعارضة تدرك أن عليها الدفاع عن فكرته الأصلية المتمثلة في دولة قوية ومجتمع متضامن قوي بمؤسساته وعدالته الاجتماعية وتكافؤ الفرص فيه، والأغلبية منتظر منها أن تدرك بأن عليها العمل على تفعيل هذا النموذج وتوصياته وميثاقه الوطني للتنمية على أرض الواقع، وإلا ستكون تحت نيران المعارضة، عن حق، لأنها فشلت في تنزيل التوافق الوطني الكبير حول المغرب الجديد.
قد تميل الأغلبية إلى إعطائه المعنى الليبرالي المفرط، وتقلصه في حدود التمركز الحزبي الغالب، كما فعلت مع الجهوية التي تحولت من فرصة لتغيير طبيعة الدولة والمنصة السائدة في اتخاذ القرار وفتح هوامش التعددية واسعا، إلى أداة للاستبداد الترابي الحزبي…
ولعل أخطر ما يمكن أن يقع، هو أن تضع الحكومة أهداف النموذج الإصلاحية في خدمة أجندتها المتوخاة، وعلى المعارضة أن ترفع الصوت باستمرار للاحتجاج على كل نزوع من هذا القبيل أيا كانت مبرراته…
= ليس من حق المغرب أن يفشل في تنزيل هذا النموذج لأن الردة ستكون كارثية بمعنى الكلمة.
لعلها المرة الأولى، منذ فترة فجر الاستقلال، الذي تنطلق فيها النخبة السياسية من أرضية توافق كبيرة.
وبالرغم من أن التوافق هو إطار مرجعي فإن الأهداف الأساسية تشكل أرضية توافقية ملموسة وذات شرعية.
شرعية تكتسيها من العدد الوافر، الذي ساهم فيها جماعات وإرشادا، ومن «البطاقة الأخلاقية» التي حصلت عليها بعد إعلان الجميع الموافقة عليها، على رأسهم ملك البلاد.
= الحكومة والمعارضة معا يواجهان بندا أساسيا في الأزمة المتعلقة بالثقة، هي أزمة عميقة، وقد جعلها النموذج شعاره الفرعي الأساسي…
غير أن المعارضة ليست صاحبة القرار لكي تتلقى المسؤولية الحاصلة في تعميق هوة الثقة، بنفس القدر الذي تلقته الأغلبية.
هناك فرق جوهري بين من يتخذ القرار وبين من يواجهه من موقعه إلى جانب المواطنين…
– لقد حدث في تاريخ المغرب الحديث أن مارست القوى السياسية المعارضة من خارج البرلمان، وكان ذلك في فترات قصيرة نسبيا وكان طابعه إجباري، أي أن الصراع كان يفرض على المعارضة العمل من خارج المؤسسة البرلمانية… وكانت في ممارسة المعارضة غير المؤسساتية تلجأ إلى أدوات مؤسساتية إما نقابية أو جمعوية أو مهنية أو ثقافية… إلخ إلخ.
والمعطى القائم اليوم هو أن المعارضة من خارج البرلمان ليست مؤسساتية بالشكل المطلوب وفيها الكثير من عناصر الجًّدة …
والجميع يواجه معارضة من خارج المؤسسات تعبر عن نفسها في حالات الإجهاد الترابي، كما في الحسيمة وجرادة، أو في حالة الإجهاد المؤسساتي، كما في حالات التعاقد والتسقيف الحالي للولوج إلى الوظيفة العمومية في التربية والتعليم…
إن تقوية المعارضة بإعطائها فرصة ملء هامشها الدستوري المستحق والتفاعل الإيجابي مع وظيفتها التمثيلية، من شأنه، ولو جزئيا، أن يساهم في تقوية الشق المؤسساتي في الاحتجاج وفي الوصول إلى حلوله.. وعدم الاكتفاء بالحديث عن غربة الكيانات الحزبية عن جماهيرها أو ضعف الوسائط السياسية والنقابية وغيرهما.
= قدرة المعارضة في التحول إلى ذراع من أذرع الثورة المدنية révolution civique هو ما سيعجل بجعلها التعبير عن المكونات السوسيومهنية في المجتمع، بحيث تكون المعبر المؤسساتي، الذي يتماهى معه المغاربة من كل الشرائح الاجتماعية .. والعمل من أجل «حملة انتخابية مستمرة ودائمة» بتوزيع المداخلات والبرامج بطريق الجولات الكلاسيكية، وفي تقديري أن ذلك يتكامل مع الثورة الرقمية والعمل من أجل التواصل عبر وسائطها…والوعي بأن كل ما يجمعنا حول القيم الأساسية لهو ذو حداثة كبرى…
- المعارضة أيضا تقتضي إعادة تنشيط التمايز السوسيو ـ ثقافي بين مكونات الحقل السياسي الوطني لإنقاذ السياسة من التقنوقراط بنموذجه الذي يسعى إلى تغليب «الماركوتينغ السياسي»، والذي نجح في بسط «المالـْ..كوتينغ» الفاسد في السياسة، وأيضا لكي يتأسس الموقف السياسي على قاعدة الموقع الفكري والثقافي ..
وهو أمر يستعصي، لحد الساعة، في الفترات الانتخابية باعتبارها فترة التباري الديموقراطي ولحظة للعرض السياسي المتنوع، الذي سيصنع النخبة، وفي الدفاع عن التأمين السياسي المطلوب في التفعيل الحقيقي للنموذج التنموي المتوافق حوله.
= المعارضة الناجعة، هي المعارضة القادرة على تجديد رأسمالها البشري والسياسي والتنظيمي والرمزي، وقد نسميه الانفتاح الجماعي على أجيال جديدة وعلى أشكال تواصلية جديدة، لم تتغلغل بما يكفي في البنية الحزبية للمعارضة.
ونحن نتكلم عن الرأسمال البشري مثلا فنحن نتحدث عن تعبيرات المعارضة المؤسساتية وعن مواطنيها الحزبيين في كل مستويات التنظيم.
يتبع
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 07/12/2021