مخرجو الموجة الجديدة في السينما الرومانية

مع انهيار الشيوعية في رومانيا، أسدل الستار على ما كان يطلق عليه «فترة السينما الاشتراكية»، وعلى كلّ ما يمتّ بصلة إلى تلك السينما، بما في ذلك اسم الدولة نفسها، «جمهورية رومانيا الاشتراكية». فبعد انتهاء عصر تشاوشيسكو، بدأت ـ مطلع تسعينيات القرن الـ20 ـ بوادر انفتاح على العصر الجديد، مُقارنةً بالانغلاق الحديدي السابق الذي عاشه البلد، ما أدّى، تدريجياً، إلى إرساء قواعد جديدة عصرية، قوامها حرية الرأي والتعبير والإبداع، وانتفاء كلّ رقابة أو خوف أو بطش أو مُصادرة. المدهش أنّ هذا استغرق عقداً واحداً، تقريباً، لخروج السينما الرومانية من ثباتها، وتغيير جلدها. ما يدلّ على مدى قوّة صناعة السينما في رومانيا، وعراقتها ورسوخها. ذلك البروز التدريجي حمل مقوّمات الموجة الفنية، من حيث تعاقب الأجيال واختلافها وتنوّعها؛ وقبل كلّ شيء: استمراريتها وتطوّرها.
يشترك مخرجو الموجة الجديدة في الخلفية نفسها تقريباً، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وسينمائياً؛ وفي اكتسابهم خبرة ميدانية لا بأس بها، في الاحتكاك والعمل مع الإنتاجات الأوروبية، المُصوّرة في رومانيا، بفضل يد العمل الرخيصة، وفرادة المناظر الطبيعية، والتسهيلات الإنتاجية. كما أنّهم يتميّزون بتحقيقهم أفلاماً بسيطة ومُتقشّفة، وبهوسهم بالأصالة الفنية والتجديد، ومزج أكثر من أسلوب فني. الأرشيف حاضر في الروائي، مثلاً. كما يُمكن ملاحظة الأداء شبه المسرحي في أعمال كثيرة، واللجوء إلى التغريب أحياناً.
أما السمة البارزة فتكمن في قوة الأداء التمثيلي والدرامي على مختلف المستويات، والابتعاد شبه الكلي عن التأثّر بالسينما الأميركية إجمالاً، والاختلاف الكبير مع السينما الأوروبية. في هذا، تكمن أصالة وتفرّد ملحوظان.
الموضوعات التي تقدّمها أجيال الموجة الجديدة مشغولةٌ دائماً بالهوية الرومانية، مع العودة إلى التاريخ القديم بين حين وآخر، أو إلى الماضي الحديث، ومشاكل الحياة اليومية ومآسيها وعبثها في ظلّ الوقائع السياسية والاجتماعية للدولة الشيوعية السابقة، أو الطريقة التي يمضي بها البلد بعد عقودٍ من الديكتاتورية.
الانتقال من الشيوعية إلى الاقتصاد الحرّ والسوق المفتوحة والرأسمالية، وضعف الاقتصاد، والفساد، والبيروقراطية، والتدين الزائف، والهجرة إلى الغرب، وغيرها من الموضوعات، مطروحة في قصص درامية واقعية، تقترب من الحياة الحقيقية، وتميل إلى السخرية المريرة، والكوميديا اللاذعة، والسوداوية أحياناً، مع الابتعاد عن الأفلام السياسية المباشرة، وأفلام الفانتازيا، والفلسفة والتأمل، وحتّى الأفلام الراقصة والغنائية.
بدأت تباشير الموجة الجديدة تطلّ مع مطلع الألفية الجديدة، عبر مهرجان «كانّ» السينمائي، مع فيلمي «السلع والمال» (2001) لكريستي بويو، و»الغرب» (2002) لكريستيان مونجيو، اللذين برز اسماهما منذ ذلك الوقت. بهذين الفيلمين، أوجدت السينما الرومانية لنفسها مكاناً على الساحة الدولية. لكنّ البداية الحقيقية، التي لفتت الأنظار إليها، ووسمت انطلاق الموجة الجديدة، كانت مع «موت السيد لازاريسكو» (2005) لكريستي بويو: كوميديا إنسانية سوداء لاذعة، عن انهيار المنظومة الصحية الرومانية وفسادها، متمثّلة في عجزها عن تقديم أبسط أنواع العلاج للسيد لازاريسكو.
بويو أول روماني يحصل على جائزة «نظرة ما» من مهرجان «كانّ». ورغم أنّ الجوائز ليست معياراً تقييمياً أو دليلاً دامغاً على جودة وأصالة، لا يمكن إغفال كونها دليل نجاح وتفوّق، خاصة لو تكرّر منحها من مهرجانات كبرى لمخرج أو أكثر، على مدى أعوام. في الإطار نفسه، السينما الرومانية الجديدة صاحبة أكبر تتويج بالجوائز في الأعوام الأخيرة، مُقارنةً بغيرها من سينمات أوروبا الشرقية.
في مهرجان «كانّ» أيضاً، فاز كورنيليو بورومبويو بـ»الكاميرا الذهبية» لأفضل روائي أول عن «12:08 شرق بوخارست» (2006): فكاهي سياسي لاذع عن التاريخ الحديث، يرصد لحظة محاولة تشاوشيسكو الفرار من بوخارست بمروحية، وخروج الجمهور إلى الشوارع. في العام التالي، فاز كريستيان نيميسكو بجائزة «نظرة ما» عن «حلم كاليفورنيا» (2007)، بعد أشهر على وفاته الباكرة عن 27 عاماً، وهذا أول روائي له، يتناول التاريخ الروماني الحديث، وتحديداً عام 1999، أثناء حرب كوسوفو، في إطار دراما مأسوية ساخرة: تُجبر قريةٌ قطارَ جنود أميركيين من المرور لعدم توفر تصريح عبور. في العام نفسه، حصل كريستيان مونجيو على جائزتين مهمّتين كأول روماني: «السعفة الذهبية» و»جائزة النقّاد» عن رائعته «4 أشهر، 3 أسابيع، ويومان»: دراما نفسية سوداوية سياسية عن التاريخ الحديث، تتناول عقوبة الإعدام عند القيام بالإجهاض، أثناء فترة حكم تشاوشيسكو. هذا كانت تريده الشابّة جابيتا (لورا فاسليو)، التي نتابع رحلتها السرية العسيرة والخطرة لتحقيق ذلك.


بتاريخ : 11/12/2021