الأنظمة العسكرية والسياسة

مصطفى خُلَالْ
من بين أبرز خصائص النظم العسكرية وهي تمارس السياسة اعتقاد قادتها في التميز والتفوق على الآخرين.
ومن الواضح أن هذا الوهم القاتل للشعوب المحكومة سياسيا من قبل العسكريين، ينتج بالدرجة الأولى عن الشعور الكاسح بالقوة التي ترتبط بقوة السلاح. غير أن هذا الوهم الذي يخلق عقلية خاصة تصبح مع مرور الوقت راسخة تتحول إلى عقيدة. هكذا يعتقد أصحاب هذه النظم أن المجتمع الذي تبنيه بالإخضاع هو صاحب تميز عن باقي المجتمعات التي هي في تصورها دونية، فيتعين إذن أن يتم إقصاؤها من حقل ‘’التفكير’’ الخاص بشعوب تلك النظم العسكرية.
وإذا كان هذا التعالي الذي ينتج عنه عدد من الأوهام السياسية يشكل في النهاية دوغمائية خاصة، تتجاوز كل الدوغمائيات المعروفة ومن هنا صعوبة الفكر الفلسفي في دراستها على نفس المنوال، الذي يدرس به باقي الدوغمائيات المعهودة في العصور الحديثة والمعاصرة.
ذلك أننا نواجه غياب معايير مضبوطة تسمح بالكشف عن الآليات التي نسبر بها رؤى النظم العسكرية. فإذا كانت الخطابات التي يلفظها قادتها في المناسبات الرسمية وغير الرسمية، تكشف في كل مرة عن ضحالة ثقافية صادمة، بالنظر إلى المواقع العليا التي يحتلونها في هرم السلطة، ضحالة يفضحها كسل فكري مذهل، فإن أكثر ما يفسر تلك الضحالة وهذا الكسل هو طبيعة القرارات التي يتخذونها ساجنين فيها شعوبهم، وخاصة حين يتعلق الأمر بالقرارات التي يتخذونها إزاء الغير من الشعوب والدول سواء أكانت مجاورة لهم أو بعيدة عنهم جغرافيا.
كلما تأمل الفيلسوف تلك القرارات وجدها تعبر عن نوع من المراهقة السياسية، التي تبين حقب ممارساتها أنها تطول زمنيا بأصحابها، فلا حقبة للرشد يمكن أن تأمل فيها شعوب تلك النظم العسكرية. يفسر هذه المراهقة صبيانية القرارات السياسية التي يتخذها قادة هذه النظم، مثلما تفسرها النزعة المزاجية التي لا تنتج فعلا بقدر ما تنتج ردود أفعال. فإذا بالملاحظ لا يقف على سياسة تنطلق من رؤية راشدة، تحرص على مصالح شعوبها، بل على سياسة مراهقة يهمها الحرص على إرضاء أنانيات مراهقتها السياسية، ترى في نفسها الثائر الأبدي، والبطل المتعالي الذي لا قوة في الأرض لها القدرة على مجابهته، فهو الكل في الكل، مالك القوة، ليس قوة الدولة كدولة، بل قوة السلاح الذي يتفنن على مر الزمن في العناية به وتجديده باستمرار مع الحرص على تراكمه الذي لا يتوقف عند حد، فهو إذن مالك الحقيقة بقوة السلاح هذا، ومن ثمة يتوهم ذاته مالكا كل المصائر، مصائر الوطن بل ومصائر الأوطان، مصائر الناس في هذا الوطن، ومصائر الغير في أوطان غيره. فالوطن ملكه، على النحو الذي تزينه له مراهقته السياسية الأبدية، والشعب ملكه، بل والتاريخ نفسه، ملكه. التاريخ قبله لم يكن، والتاريخ بعده لن يكون، ذلك أن مراهقته توهمه أن التاريخ بدأ مع نظامه، والتاريخ كائن وسيكون بنظامه وحده، ومع نظامه وحده. من هنا حرصه الشديد على مناوءة كل سلطة، بل وهدم كل سلطة معارضة حتى وإن كانت معارضة تتساوق مع جوهر النظام العسكري، وتقبل بقوانينه.
إن مصطلح (معارضة) في تصوره، سلوك لا ينتمي للوطن، إنه خارج التصور، هو بمثابة كفر ب’’أفضال’’ نظامه على المجتمع، الذي وإن حصل أن عارض معارضون معارضة صلبة نظامه، فإن مصيرهم هو المحو الذي لا يرحم.
ولأنهم في حاجة–بالضرورة – إلى الشباب الجامعي، وإلى التعليم، وإلى التربية المدنية، فهم يعنون بهما أشد العناية. هكذا يسخرون عددا ملحوظا من مقدرات البلد للتسلح العسكري الدائم، والتسلح التربوي الذي يخدم شعارات هذا التسلح الذي ينشرون بخصوصه ثقافة وحيدة، ثقافة الدفاع الوطني. هذا مع الحرص أشد ما يكون الحرص على توفير قاعدة اجتماعية لهم، بتيسير كل أصناف الريع وممارسة كل أصناف الفساد المالي، ونشر ثقافته – ثقافة الفساد – في المجتمع.
ويبقى بالموازاة مع كل هذا عناية النظام العسكري ببناء (خُلُقِية) للحرب، كخلقية راسخة، تتم بجبروتها التعبئة الدائمة لأولئك الشباب ولعموم الشعب مع توظيف كل تنظيماته، في حالة وجود تنظيمات. ومن هنا نظرية العدو الخارجي، الجار، أو غير الجار.
وعلى هذا النحو الدائم تمارس النظم العسكرية السياسة التي من المفروض أن تقوم على النبل، نبل تدبير شؤون الناس.
الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 21/12/2021