القيم السياسية لليسار

مصطفى خُلَالْ
يعود مصطلح (اليسار) ليس إلى تصور إيديولوجي تطارحته فلسفة ما، بقدر ما يعود، في ما يخص ظهوره، إلى ظروف سياسية معروفة عاشها الشعب الفرنسي في خضم صراعاته التي دشنها حدث كبير في اثره، هو حدث الثورة الفرنسية، ليس على السياسة ومؤسساتها فقط، بل على التاريخ الفرنسي ابتداء، ثم على التاريخ العالمي ككل، عقودا من بعد، وهو لا يزال ممتدا إلى اليوم، بل وسيظل لآماد بعيدة مادام الصراع بين تصورين متعارضين للمجتمع قائما.
وإذا كان يتم اليوم التسليم، وفي العالم كله، بأن ما يطلق عليه (حقوق الإنسان)، إنما انطلق من الإيمان بثلاثة قيم رئيسية هي (الحرية) و(الاخاء) و(المساواة)، فإن الصراع بخصوص إثباتها لا يزال يشتد ومنذ هذا التاريخ، أي منذ عام الثورة الفرنسية، 1789، ومن ثمة فإنه يبقى ثابتا أيضا أن هذه القيم أضحت معيارا عالميا لـ(الحق)، ولـ (العدالة) في جميع أبعادها الفلسفية والاجتماعية والسياسية.
وإذا كان للفعل السياسي، بكل أشكال الصراع التي تصاحبه، أثره الحاسم إما في الانتصار لها أو العمل الدؤوب من أجل هذا الانتصار ثم من أجل ترسيخها، فإن للفلاسفة الذين طرحوها في فلسفاتهم الأثر البليغ أيضا، والذي لم تعد الذاكرة الفلسفية لوحدها معنية بها بل طال ذلك انشغال الفكر البشري في عموميته، فانشغل بها إلى درجة أنه حتى الذين لا ينتمون إلى قيم اليسار أضحوا ينافحون من أجلها، بصور أو بأخرى، ويسترشدون بفلسفات فلاسفة ينتمون لنفس وطن الثورة الفرنسية، أو لغير هذا الوطن من دول تنتمي لما يشكل اليوم فضاء دول الغرب، ونقصد تحديدا فولتير وروسو وغيرهم من خارج فرنسا…
في سلم قيم اليسار المنبنية، كما أشرنا، على الحرية، ترتسم قيمة الإيمان بحركة المجتمع ودينامكيته وذلك في أفق تحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بين الأفراد والأجناس والطبقات والمجالات، وهي المساواة التي يتعين أن تقود إلى الحفاظ على المكتسب من الحقوق ضدا على سياسات الالتفاف عليها. وإذا كان مبدأ الحرية يجمع بين اليسار واليمين، فإن المساواة في كل مظاهرها تبعدهما عن بعضهما مما تترجمه برامجهما الاجتماعية وتصوراتهما السياسية. بنفس الصورة فإن قيمة الإخاء لا تستتب في تصور اليسار إلا إذا انبنت على محاربة الانتماءات القائمة على التمييز.
لقد آمن اليسار، ومنذ ظهوره في الفضاء الغربي، أنه لا برنامجَ سياسيَ ممكنٌ بدون قيم تكون من الوضوح بحيث لا تحتمي أي منها بأي نوع من أنواع الضبابية والغموض، وليس لهذا المعطى الأساسي طريق يشقه بغاية التحقق الأكيد دون أن تتهيأ لليسار قاعدة اجتماعية يتعين العمل الدؤوب من أجل تغيير ذهنيتها ذات الاستعداد المتيسر للخضوع لقيم اليمين المتطرف خاصة، وقيم المحافظين الرجعيين، واللذين يوظفان أسلوب الشعبوية المخربة للعقول وللبرامج الاجتماعية التقدمية، وذلك بدغدغة عواطف الجموع التي يسهل ترويضها من قبل هاتين القوتين السياسيتين، فإذا هذه الجموع ذاتها هي من يضعف تلك القاعدة الاجتماعية الضرورية لنجاح ترسيخ قيم اليسار.
يتسع الحديث عن قيم اليسار، غير أنها جميعها ذات أفق هو الأهم، ويتعلق بالعدالة الاجتماعية على مستوى المجتمع الواحد، والعدالة الإنسانية على المستوى الكوني، ولا يمكن تصور وتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية دون أن يكون هناك قانون يجمع عليه الكل وبموجبه وحده تتم حماية العدالة الاجتماعية، التي تتأسس على قيمة المساواة كما سبقت الإشارة، وعلى قيمة الإنصاف، الذي يتضمن ضمان وحماية الحقوق والمصالح، التي تعود للفرد وللجماعة وللمجال فيتحقق التوازن الاجتماعي الذي بدونه يجري المساس بالأمن والاستقرار الاجتماعيين الحقيقيين، وإذا كانت قاعدة العدالة الاجتماعية هي، المساواة، فإن هذا يعني أن الحقوق والواجبات الاقتصادية، والحقوق والواجبات الاجتماعية إنما تنبني على الحقوق والواجبات السياسية باعتبارها الشكل الأرقى لحماية هاتيك الحقوق والواجبات جميعها التي تلغى فيها جميع أصناف التمييز، وإلا فإنه لا يمكن الحديث عن قيمة المساواة إذا ما مُس أي بعد من أبعاد الشرط الإنساني العام وخاصة التمييز على أساس المعتقد الديني ولون البشرة، واللسان الذي تنطق به الجماعات داخل المجتمع المتعدد، والجنس، والتصنيف الطبقي والتراتب الاجتماعي.
والحق أن أعمق قيم اليسار يبقى ذاك المجسد في قيمة التضامن، وهي القيمة التي تميز اليسار على نحو صارم عن اليمين، بل إنها القيمة التي تفرق بين التصورين والفلسفتين والخلقيتين تفريقا صارخا، ذلك أنه جرى في خضم الصراع بينهما على المستوى السياسي- الحزبي نوع من التداخل بين قيم اليمين وقيم اليسار كما هو واضح في قضايا الحرية والعلمانية والمساواة والإخاء، وخاصة في مجتمعات الديمقراطيات الحقة، لتبقى قيمة التضامن حقلا مخصوصا لليسار إلى درجة أنه يمكن اعتبار قيمه هي الصلابة بمكان في ما يرجع لتَشَكُل القاعدة الاجتماعية لليسار.
إذا كانت هذه هي قيم اليسار، الذي تُجْمِعُ عليها كل تيارات اليساريين، فلماذا وُجدت وتوجد وسط اليساريين نزعات انقسامية وتوجهات انشقاقية إلى درجة أصبح معها اليسار ككل، وليس، فقط، كجماعات، مهددا ليس في تواجده في الفضاء السياسي، بل أضحى مهددا في وجوده ككل…؟
إنه ليس سؤال المرحلة في المغرب وحسب، هو سؤال مطروح اليوم في كل الدول التي تتصارع فيها قوى يسارية ضد من يتعارض معها. وهو السؤال الذي يتعين ان ينكب عليه الفكر من أجل النظر فيه.
الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 28/12/2021