نحن المغاربة لا نضام، بشموخ الجبال على الدوام

أحمد المديني

1
لا أميل إلى كتابة المناسبة، إلى الموضوع المحدد ما يمليه ظرف. كنت أفعل هذا في زمن مضى عملت فيه مثل صحفي محترف، وكنا نعيش في زمن القضايا الحقيقية والصعبة، كلّ كلمة تقال سلاح وموقف، ولا ساعة لنا لنذخر مشاعرنا وغضبنا خاصة لغد، وقتُنا واحد ممتد أطول من دقائق عقارب الساعة وأقصر في آن؛ وقت الصمود والعنفوان والنضال الذي كان.
2
كتابة المناسبة ضربٌ من الاحتراف، مهمةٌ تنجزها وانتهت، بعدها تنتقل إلى شأن آخر بآلية ولا مبالاة، الشغل هكذا، الذين يعملون في الصحافة اليومية يعون هذا جيدا ولا وقت لديهم ليتأملوا ما يخوضون فيه، ليس لأن الصحيفة لا تنتظر، وقارئها متلهف/ سابقا، طبعا/ متربِّص، بل لأنهم زيادةً سينصرفون لما يعنيهم حصرا، أمس كانت الكتابة والسياسة والحياة همّا واحداً.
3
ليست حالة نوستالجيا ما أعيش، ولا أنكرها. خلافا للظن والمعهود فهي طاقةُ دفع إلى الأمام وحافزُ وجود. من أنت بلا ماضيك. مشحون بكثيف الأحداث وغزير المشاعر والذكريات، القاسي والفرح، ومن، إذا ظننت تنفض يدك منه تحسبه غبارا عالقا بجلبابك سيطير، اللهم أنهم غبار. أرى مثل هؤلاء يمشون في تاريخ البلاد مُسَرنمين وكأن الدنيا والناس بلا ذاكرة.
4
لا أنوب عن أحد، وبصعوبة أتكلم عن نفسي، ولم أدّع يوما أني لسان أحد، وهذا سبب رئيس لمقتي كتابة المناسبة، ولجعلي أختلف جذريا مبكرا عن كُتاب جيلي وأشقّ عصا طاعة التزام مباشر. ساقتني عفويتي وترعرعي في مدينة حرائق إلى العيش مشتعلا بنيران لا تنطفئ، وأننا ولدنا ونوجد ولا إمكان لحياتنا إلا في وطن فُرن يَصهر الجسد والروح في ذَوْب حبه.
5
كما لا أُجرّد الخلَفَ من الهوى وتبعاتِه. لكل جيل تجربتُه، إن عرف كيف يصنعها وملَك أن يَشحَنها. نحن الآن في المغرب أجيال، لا بحسب الأعمار وحدها، بل الثقافة وخبرة الحياة والقيم والسلوك. ولن نحقق مفهوم الجيل إلا بالاختلاف والصراع الحيوي الخلاق، وليس الانتقال بين العقود، لا بالنكوص إلى الوراء، أو بنزق مسح السبورة كأن شيئا لم يك من قبل!
6
لكي تصبح نوستاليجياً ينبغي أن تعيش وتكابد، أولا، في الحياة وتعي الزمن، لا الكتب وحدها أو بالسماع، أن تراكم الكثافة وحكمة العمر ورصيد الخسارة قبل الربح وبقوة هزيمة الندم، بأنك ربحت الحياة في قلب قضية أخلصتَ لها وما همّ ما جنيت، تماما مثل حُبٍّ لا يفنى، العشاقُ وحدهم جديرون به، شمعة تنير الداخل واستعارة قصيدة آتية؛ أحِبّوا أولا وسترون.
7
عندئذ ستعيش وتكتب وتوجد في الامتداد، في النهر الدافق للحياة، إذا جفّ في الخارج تتدفق من شغافك أنهار، لا توجد صحراء إلا في النفوس القاحلة والعيون المطفأة، المكفوفون أيضا يحلمون، أما الخاسرون فينوحون ويُهشّمون صورَ الذكرى بالقَذى يُعمي العين، ويشطِر الكائن إلى نصفين، ضاع أمس ولا غد له، لذلك أبقى في الامتداد، ولا أبكي أو أرقص بهلوان مناسبة.
8
المناسبة ليست العابر وحده، هي الزائل، الخفيف، ينشغل به الخفيفون والعابرون أو يحسبون، بكسب الوقت والضحك على الذقون، كثير مما عشناه منه هذا العام، ربما ما سبق من أعوام. تتداولنا الأيام، تكبّل مطامحنا، تَقصُّ أجنحة الأحلام، نَخالُ من ضجر وعُقم أنها تشبه بعضها، والخلق أحياء كم منهم نيام، وفوق الكوفيد ثمة مِحنٌ وأشرارٌ وأوبئةٌ أخرى، ياه، تنخُر العظام.
9
في كتابها الأخير»Revoir» تتساءل الكاتبة الباحثة الفرنسية هيلين سيكسو، بما سيبدو نوعا من الترف:» ماذا بوسعهم أن يفعلوا من لا يتوفرون على خزان أحلام، يا لهؤلاء التعساء، فأنا لا أستطيع أن أتخيل وجودا يبقينا تحت كابوس مسلط». فماذا لو تساءلنا: ماذا بوسعهم أن يفعلوا لو اكتشفوا الأحلام سيرون فيها صورة للكابوس، وسيقولون سننتظر الجنة إن شاء الله.
10
أما أنا فأريد حقا أن أتخيل كلَّ جميل ومبهج ومفرح لبني وطني وللخلق أجمعين في سائر الأوقات لا لمناسبة عام جديد. أتخيل ولا أقول أطلب، كي لا أُخيب الظن وأزيدهم يأسا وكمدا. عجيب شأن العربي مُبتلى بالهزائم والأحزان. استرجِعوا تاريخه منذ أزيد من قرن ترونه لم يكد يُسام إلا الهوان، من الأجنبي نزع سيادة بلده، ومن ساسته نهبوا حقوقه وأذلّوا كرامته.
11
راجعوا آدابنا شعرا ونثرا، واعصروها ستقطر شلال دموع وتصخب بالتأسِّي والنّحيب، وتَشْخَص بصور البؤس والتعاسة. نعم، الأدب معدنه الأول ومنبعه الألم والنفس الجريحة، لكن هذا ليس هو الشقاء الأرضي. فيما أمم أخرى تقدس الحب ومنه أجمل الشعر، كان وظل حراما عندنا، حتى القبلة تحتاج إلى استعارة، ولكي تصبح كاتبا عليك أن تبرهن على النكد.
12
الرجال لا يضحكون، والنساء يبحن وإما ينحن من وراء حجاب. الذين عاشرتهم من معتنقي النضال في بقاع عربية عديدة وجدت أغلبهم يحملون تمائم تردّ عنهم عين المرح، سِيما الكآبة في وجوههم ويكبتون الفرح حتى الاختناق، هم أنفسهم من ينادون بخلاص الشعوب. من ماذا؟ الفقر، الحرمان، الاستغلال، الاستبداد. بأيّ ترياق؟ بمزيد كبت للحريات وتقتير للفرح بسخاء.
13
مَرَّ عامٌ ونيف ونحن بين فكّيْ الكوفيد أشقياء، الهواء شممناه من ثقب في الباب، وضوء النهار قبسناه من فجوةٍ في السماء، وشفاهٍ ظمئنا لها التهبنا جوىً ولا ماء، وسادة زادوا عُتُوّاً استأسدوا أولياء، على الجلوس والقيام، الذهاب والإياب، على الجو وفي العباب، صاروا أوصياء. ليس الموت ما نحشى بعد، وإنما أن نصدق أن الحياة ممكنة ما تزال بعد هذا الوبال وخُطب الغثاء.
14
لهذا وذاك، لكل ما عشناه وفلتنا من هلاك، حقّنا أن نجهر ساعة بالفرح. سنلوكه ولو مزاحا، نسرقه بل نغصبه غصباً، لم يبق لنا مع لصوص أعمارنا، وقراصنة أحلامنا، بعد فكاك.وسأمنِّي النفس بالآمال، أن يكون آخر عام مع المحال، أن تسطع الحقيقة، وواهمٌ من يظن سيحجب الشمس أبدا بغربال، نحن المغاربة معدن النساء والرجال لا نُضام لنا شموخ الجبال!
15
تذييل: باقتضاب وفهم عرّف سارتر المثقفين بأنهم: « الذين يتدخلون في ما لا يعنيهم». حذار، لا يحسبنّ جميع المتدخلين أنهم من عيار تعريف الفيلسوف الوجودي، فهو نفسه من يعود إلى ما يعنيه وهو يبحث عن جمع بين الماركسية والنزعة الإنسانية، ليصل إلى صيغة(اللقيط السياسي) كما شخّصه في مسرحية»Les Mains sales». كم بيننا من لقطاء، ومن أيدٍ قذرة!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 29/12/2021