هل نحن في المملكة المغربية، أم «دولة أخنّوشستان»؟!

أحمد المديني

لي أن أقولها بالفم الملآن ولا أخاف منها أو أقلق، أني لا أميل إلى أي حكم وللحكام، سواء في اليمين أو اليسار، عادلين، كما يوصفون، أو رجعيين، من أي طينة كانوا ويولدون. نحن مفترقان منذ البداية، لم يحكمني أحد في طفولتي وامتداد حياتي إلا ما اضطررت لمسايرته كسائر الناس، لكني لم أُسلِّم عنقي يوما لبشر، وهذا فرق جوهريّ في المفهوم والعلاقة. أعلم الناس خلائق وطباعا، وأن كلاًّ ميسر لما خُلق له، إلا في هذه الخليقة لا أفهمها، وكيف يتورط فيها غالبية بني آدم كأنها غريزة إضافية، وهي فعلا مكتسبة، إذا امتُلكت وضاعت هلَك صاحبها. أعلم، بالطبع، أن دنيانا مذ وُجد فيها آدم وحواء وتناسلت الكائناتُ لتصبح شعوبا وقبائلَ وهي تحتاج إلى من يسوس أمورها ويُدبّر أمرها، فظهرت الأديان وسُنّت القوانين، ومعها الجيوشُ والقواتُ بأنواع لتسهرَ على الأمن والتنفيذ وحماية الأنظمة والحكام وحتى للفتك والسلب والنهب باسم الجبايات؛ نعي هذا جميعا ومثله أصغرُ أكبرُ، مما يُعدّ من البدَهِيات.
إحدى ثنائيات الكون هي الحاكم والمحكوم، وبين هذين الحدين، أو المُعامِلين، بمصطلح الرياضيات، تدور مواضيعُ وتشريعاتُ ونواميسُ المجتمع وتدبيرُ الشأن العام والخاص كذلك، فضلا عن ما تأسّس واقتُرح من مذاهب وإيديولوجيات، فنهضت حضاراتٌ وساد أقوامٌ وبادوا. وسواء اعتبرنا أنهم «Les justes» (العادلون) في مسرحية ألبير كامو (1913ـ1960) الذين يعتقدون أن من واجبهم قتل الدوق الكبير لأنه السبب في بؤسهم هم وأطفالهم في روسيا؛ أو ذهبنا مع الكواكبي(1855ـ1902) في أطروحته عن «طبائع الاستبداد» باعتبارها أصل الداء السياسي، واستعرضنا على مرّ العصور عَرَمْرَم المستبدين؛ في الحالتين كلتيهما لا يخلو الأمر في زعمي من شيء من الجنون، بما يجعل طرفا يعتبر أنه قادر على الإمساك بإحدى الكفتين، تخويل نفسه الحق والإرادة والصلاحية والقدرة الخرقاء بأن يفعل ما يطيب له على هواه ويشاء، كما فعلها كاليغولا وقهقه ملء شدقيه أمام القناصل وأعضاء مجلس الشيوخ فارتبك المجلس ولمّا جرؤ شيخان على سؤاله ما سِرَّ ضحكة مولاي لنشاركه فيها أجابهما: «الأمر بسيط جدا، فإني أضحك إذ تكفي إيماءة من رأسي أستطيع أن أرى رأسيكما يتدحرجان فورا»، وكما وُجد ويستمر كاليغولات من عيارات مختلفة، وإذا قيل مثالُك شاذٌّ باعتبار هذا القيصر كان مضطرب النفس والعقل، نقول إن اضطرابات النفوس وخلل العقول أنواع لو تعلمون.
مهما حاولت تقديم أمثلة من شخوص وحوادث التاريخ، ومن بين شخصيات الملاحم والروايات، التراجيدية منها والملهاة، من الصعب التسلل إلى مخّ هؤلاء واستنباط ما يعشّش في نفوسهم، لا يشغلني في نهاية الأمر لماذا هم مولعون بالحكم حدّ الهوس، وقادرون على التمسك بثمن تدمير أوطان وإفناء وتشريد شعوب، ويْم الحق ضربٌّ من جنون قد يصيبنا نحن العقلاء المزعومين، وإلا ما معنى أن يستيقظ واحد من هؤلاء ويجد أنه يحكم بلدا خلاء ولا يشعر بالوحشة بل يزداد شعورا باليقين ويتطابق مع فكرة القائد الواحد الأوحد؛ أشدّ ما يثير استغرابي أن بإمكان هذا الصنف أن يستبدَّ ويُفسِد في الأرض كما يشاء، بشرط أن يوزع قليلا من إرادته، ومن الرزق على العباد ولو شروي نقير، أم أني في واد وورائي سيُطَلق النفير؟!
ما كنت لأنجرّ لاسترجاع همٍّ أكل الدهرُ عليه وشرب، لولا وقوعي صدفةً أثناء تجوّلي في بعض المواقع للتسلية على خبر مررت به عبوراً أولا وجدته أقرب إلى المزحة و «الفاك نيوز» لكني، وأنا « أبحصص» جيدا أقرأ اسم الرجلين، وواحد بالذات، قلت هذا شأن أبعد ما يكون عن المزاح. جاء في القصاصة أن رئيس الحكومة في مناسبة توقيع ملحق اتفاقية تعاون تجمع بين وزارة العدل والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أدلى بتصريح نقله موقع هسبريس (25/01/2022) نسجل منه الآتي: تخصيصه مبلغ 200 مليون درهم في قانون المالية للعام الجاري لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية ورفع هذا المبلغ ليصل إلى مليار درهم سنة 2025. واستوقفني بعد هذا إعلانه «إحداث جائزتين جديدتين ضمن جائزة المغرب للكتاب، وهما جائزة المغرب التشجيعية للإبداع الأمازيغي وجائزة المغرب التشجيعية للدراسات في مجال الثقافة الأمازيغية، وكذا تخصيص دعم سنوي منظم للكتاب الأمازيغي واستفادة الجمعيات الثقافية الأمازيغية من الدعم للمشاريع المقدمة في مختلف المجالات التي تستفيد من الدعم».
بعد هذا أذكّر بالآتي: إن جائزة المغرب السنوية للكتاب تتضمن تسعة أصناف من بينها اثنان مخصوصان هما: جائزة المغرب التشجيعية للإبداع الأمازيغي، وجائزة المغرب التشجيعية للدراسات في مجال الثقافة الأمازيغية، وهما مشرّعتان وتُمنحان ولهما لجنتهما للتحكيم، فالأمر محسوم إذن. فهل يتكرم السيد الرئيس بإضافة جائزتين أخريين أم اختلط عليه أمر السابقتين؟ الحق، لا أسأل، بل أستغرب كيف باسم الانصاف أو مثله ننتقل إلى الميز؟ وكيف بجرة قلم، يقرر رئيس حكومة بلد في الشأن الثقافي بلا تمحيص فيحدث الفرز لينتصر لفئة على حساب أخرى في الشعب الواحد الذي يخضع لقوانين واحدة وعلى رأسها دستور يساوي بين الجميع؟ هل يحسب اللغة والثقافة العربية في بلدنا أحسن حالا من غيرهما، فليلتفت حوله ليسمع العُجمة متفشيةً ويرى العربيَّ أضحى غريبَ الوجه واليد واللسان، وله بعد هذا أن ينشئ من الجوائز ما يشاء ويغدق على عشيرته الأقربين ويقدم لها دعم الكتاب ولجمعياتها المليارات، لكن أن يفعل ذلك من ماله الخاص قد وسّع لله عليه في الرزق، اللهم لا حسد، أو يوزع هبات الدولة أي المملكة المغربية بالقسطاس، ماذا لو سأل مستشاريه عن رجل أعمال ملياردير مصري اسمه نجيب ساويرس صاحب مؤسسة ثقافية ضخمة في مصر تمنح جوائز سنوية لنوابغ بلاده في كل فروع المعرفة والإبداع وتُعدّ حدثا حقيقيا في أرض، «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون».
وكيف يُوزع الدعم للكتاب الأمازيغي من دون كتب لغات منصوص على رسميتها في الدستور، بها يُرفع الآذان ويُتلى الكتاب العزيز؟ أيّ ضغينة هذه في نفوس وزراء الثقافة في الحكومات الأخيرة، للكتاب العربي، فحرموه من الدعم، أو حرفوا مجراه أو حذفوه بدعاوى شتى بينما سخوا في مجالات أخرى بلا حساب، تجد تمويل فيلم ضحل يعادل طبع ألف كتاب.
لسنا سُذّجاً فنحن نعرف، وهم غير معنيين بحساب الجهل والمعرفة ولا بقيمة الفكر والإبداع لكيان أمة. حين فاز باتريك موديانو بجائزة نوبل للآداب (2014) سئلت وزيرة الثقافة في فرنسا عن رأيها فارتبكت معلنة أنها لم تسمع بموديانو من قبل، وبعد أسبوع أقالها فرنسوا هولاند. لكم أخشى أن يجرنا هذا إلى حافة النّعرات وسعير الطائفية باسم دعم اللغات. وبالمختصر المفيد نحن مواطنون في بلد اسمه المملكة المغربية، فيها ولدنا وعليها نموت، غيره ما أنزل لله به من سلطان، ولا مكان للجنون من أي نوع كان، أو لـ «دولة أخنّوشستان»!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 02/02/2022