«ابكِ يا بلدي الحبيب»، فالخَطبُ أجَلُّ من أن يُقال!

أحمدالمديني
1
من يقول أنا قادر على الكلام أو الكتابة عن الموت واهم ومختال، لا يعرف قدره وأنه وقد خلق من صلصال، مصيره ذرّات غبار، وإلا هل للفناء شكل لترسمه الكلمات بعد الزوال. لذلك مذ اكتشف الإنسان الموت ومعه عجزه وصُعق باللاّيقين، ما فتئ يتحايل عليه بخدع شتى وتعلات، ويؤلف من المعتقدات والتعاويذ والطقوس العشرات، يفعل ذلك مرتعِباً، وبوعي، أيضا، بينما الموت جرّافة تكتسح ولا تبالي، هي عند المؤمنين مردودة إلى قوة غيبية، وغيرهم سادرون في الحياة إلى أن يحصدهم لا يعنيهم الوجود في أخرى. هذا البديل الأخروي الذي تقول به الأديان، الإسلام أولها، وتنظم شعائرها وسُننها ما يمكن تسميته فعلا(مؤسسة الموت)، لننظر، مثلا، كيف نظمها الفراعنة تنظيما مبهرا ما زلنا نعاينه ونتتبع دقائق تكوينه. ولنتمعن، أيضا، في سجلات التراتيل والأناشيد المتوارثة التي تُتلى وتُرتّل في مناسبات النّعي والدفن والجنازات مكتوبة ومعزوفة ومغناة وراقصة وقرابين.
2
مثّل الموت التيمة الأولى والتحدي الأكبر للأدب، أحسب أنه نسغُه وجوهرُه، أقوى ما يمكن أن يعبر عنه ويدركه هو المأساة، أن يبلغ ذروة المأساوية روحا وأجواء وصورا وإيحاءات. هي مرتبة تعلو في ظني إذ يُقِرّها التراث الأدبي للإنسانية ملاحم وأساطير والديوان الشعري لكل الشعوب، ما الرثاء إلا أحد الأغراض المطروقة فيه بوصفه مناسبة عارضة اجتماعية وإلا فالحزن صنو ملازم للإنسان، وعند الشعراء بحساسية مرهفة، منه يمتحون الأسى والرهبة في انتظار المصير المجهول، ليس الموت إلا مطلقه الأعمى وأحد أسمائه المجردة.
3
يتقدمنا دائما ولا نراه ، وإذ هو كامن في لا وعينا نظن أننا تعديناه فنمضي يركبنا البطر بلا حساب، بين متكبرٍ ومستبدٍ وسفيه ونهّابٍ لحقوق الناس وعاثٍ فسادا في الأرض ودجّالٍ ومنافقٍ ومسترزق بالأحياء والأموات على السواء، منتفخِ الأوداج متكرِّشٍ بدهون الغباء كأنه باق على الأبد، وما الأبد يا ترى، إنه سخرية الدهر من الجميع، فجاء القرآن الكريم بين الكتب السماوية ليسفّه هذه الأهواء ويدعو الضالين إلى الهداية:» ولا تمش في الأرض مرَحا إنك لن تخرِق الأرضَ ولن تبلغ الجباَل طولا»(الإسراء،37). يتخلف وراءنا أيضا ليرى بعضنا يمشي بخُيَلاء، ويجالسنا ويُداري زَهْونا فيتوارى عن الأنظار وقتا ويخِفّ به الإحساس كي ننعم بالعيش أو يستخف بينما هو قابع في منطقة النسيان الويل منها لا ميقات لانفجار لحمم بركانها.
4
إنما، عجباً، لماذا نُصعق في كل مرة إذ يبلغُنا نعي، أو نتوقف في الطريق نُفسِحه لموكب جنازة تمر؟ لماذا ننظر إليها لحظة، يا للمفارقة، عابرة في الحياة، بينما هي الأبدية التي لا يجد لها الفلاسفة تعريفا، وتستغرقها حسابات الفيزيائيين في مليارات السنوات إلى ما لا نهاية؟ هل هما سؤالا البديهة أم الجنون؟ القدريون غير معنيين بهما، ليبقيا في صلب رغبة وفكرة البحث عن معنى للحياة في قلبها، وكيفية البقاء والانتصار قي معركة مفتوحة الخيال، العبقري للشعراء وحده ينتفض فيها، لا عجب قال المتنبي يواجه خصومه بخُيلائه المعهود:» كم قد ُقتلتُ وكم قد مِتّ عندكم / ثم انتفضت فزال القبرُ والكفن».
5
رأيت في صباي ويفاعتي ناسا كُثرا يموتون، جنازات ومشيّعين، وحضرت مجالسَ للترحم ورمي الميت في حفرة، يسموه دفنا، والفقهاء فوق رأسه يرتلون بهَرْج بعض الذكر الحكيم، وينكفئ الجمع مهرولين نحو قصاع الكسكس يسمى هذا (الطعام) لروح الميت. كبُرتُ وأخذت أرى الموت يحصد الأقارب والأصحاب: أبواي، أخوالي، وسقط بقربي عمر بن جلون بطعنة الغدر، والسبحة تَكِرّ بلا انقطاع، المدن والمرابع التي عشت فيها تُقفر من الأصدقاء تِباعا حتى إني لم أعد أستطيع زيارة مدينتي الدار البيضاء، غدت في عيني مقبرة لرفات الأحباب، لا المجاطي والجوماري ينشدان أعذبَ الشعر، ولا مصطفى القرشاوي حاملاً شعلة النضال، وأين عابد الجابري فكرةٌ من رأسه تعدل هراء كل من يُسفسطون الآن في المزاد. فإن ذهبت أمشي في الأزقة الخلفية مُتحسِّساً الجدران تلاحقني أشباحُ الماضي، هنا كان فلان، هنا صال وجال، هنا عربدنا بأعتق خيال، وهنا راهن عبد الله قانية على ربح المحال، مثله عبد الله بوهلال دائم الترحال، لكن ظلّ رُبانَ سفينة الاتحاد من زمن المحرر إلى أن التحق بالرجال.
6
الكتابة عن الموت هي المُحال بعينه، وإن بسببها دخلت صدفةً في قفصها. أذكر صيف 1968 وأنا تائه ذات صبيحة في شاطئ عين الدياب. جلست فوق أريكة متاحة وسرّحت الطرفَ إلى البحر قبل أن يؤمّم، وسرح خاطري في حادثة سير وقعت بارحتها في الطريق من القصر الكبير إلى الرباط مات فيها مذيع جميل وفصيح بالتلفزيون المغربي الناشئ يومئذ. حرت لا أفهم كيف يموت إنسان رقيقٌ حسن السمت مثله وقلت وأنا في مطلع الشباب إن الحياة غير عادلة، وعدت إلى البيت وكتبت نفثات بعنوان: «الشباب وتجربة الموت» أرسلتها لجريدة العلم، هي الحصن المنيع يومئذ، لذا انتشيت بنشرها بعد أيام فقط، ونسيت الموضوع، ومنذ هذا العهد وأنا أرى المنايا خبط عشواء، وفي كل ما أكتب نفس مأساوي دفين، حتى بِتّ أندُبُ حظي العاثر جعلني أبكي الأطلال وأودّع الراحلين، وأشهد أن الرحيل خير من لوعة وأنين.
7
أمّا أن أرثي صِبا في الربيع الخامس فهذا إعجاز لا يُطال، واجتراحُه خدشٌ وتحدٍّ للجلال. لذا وفروا قصائدكم وآهاتكم، كيفما كان الرُّزءُ فالمقتل في كبد الثكالى، وبما أن حزننا اليوم فاض لفقد ابننا ريان، أستسمح روحه وأستعير عنوان رسول حمزاتوف(1923ـ 2003)» ابكِ يا بلدي الحزين»،وعندي الخطب أجلُّ من أن يقال.أحسب ما سطّر بالقلم الكاتب الكولومبي هكتور أباد(1958ـ)هو الأليق بمأساتنا بل وبالوجود :» في جميع أنحاء العالم يشترك الإنسان في مشاعر جيّاشة، في الفرحة بعناق جسدٍ لجسد، وتعبير السّخط في مواجهة الظلم، والإحساس بالألم الناجم عن التعصب الديني؛ يشترك في محبة الأبناء، والسرور الغامر بالصداقة، وإقبالنا على الصفح أو الانتقام، فكيف بالأسى والذهول في حضرة الموت. ولا يبدو أن هذه الأحاسيس تنتقل بواسطة التعلم، فهي كأنها مولودة معنا، مع كل البشر حيثما وُلِدوا»، وسأتطفل فأضيف مُسرِفاً: أجل، إنه الذهول دائما أمام الموت، فكيف إزاء طفل في غيابة الجب مات غيلة؟!
الكاتب : أحمدالمديني - بتاريخ : 09/02/2022