يعيد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، »الاستراتيجية العظمى« إلى تعريفها الأولي، إلى معناها الأصلي الذي يبدو أن كثيرا من الدول تنساه، وهذا التعريف يفيد بـ»ضرورة استعمال كل المقدرات الوطنية من أجل الوصول إلى الأهداف السامية متمثلة في الأمن القومي، تحت أي ظرف كان« !
وهو ما جعله يبدو في صورة العسكري الديبلوماسي، على غرار القياصرة السابقين، وهو ما يطرح كذلك على العرب أن يبحثوا في ثلاثية الحرب والديبلوماسية والاقتصاد، كمقومات وطنية روسية، عن مكانتهم في عقل »بوتين«.
فهل يمكن أن نتحدث عن »”بوتين العرب “على غرار ما فعله المؤرخ والمتخصص في قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الفرنسي رولان لومباردي، في إحالة رمزية على »لورانس العرب«؟
من الواضح أن روسيا أصبحت في معادلات العالم العربي رقما لا يمكن الالتفاف على وجوده أو تجاهله، على الأقل منذ 2015 بعد المشاركة الفعلية المباشرة في الحرب السورية، وفي معادلات حوض المتوسط وشمال إفريقيا منذ اندلاع الصراع الليبي ـ الليبي، بقرار إقليمي وأدوات محلية.
كما أن المتوسط كان مجالا لمناورات ضخمة،عسكرية بأسلحة ثقيلة وغير مسبوقة، قام بها الأمريكيون عبر حاملة الطائرات «”هاري ترومان”» في بداية فبراير الذي ودعناه، وكانت المرة الأولى منذ الحرب الباردة التي تخضع فيها مجموعة قتالية كاملة للناتو لحاملة طائرات أمريكية، وتلتها مناورات فرنسية، عبر حاملة الطائرات شارل دوغول، بدعوى محاربة التنظيمات الإسلامية، بل إن وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي اعتبرت “هذه المهمة التي سميت ـ كليمنصو 2022 ـ ستقودها إلى المشاركة في عملية (العزم الصلب) التي تكافح تنظيم الدولة الإسلامية في المشرق« كما أنها ستواجه »في الميدان الليبي، الميليشيات المسلحة التي تهرب السلاح إلى منطقة الساحل« وفي إشارة غير ودية إلى »مجموعة “فاغنر” الروسية« وربطت فرنسا بين مناورات المتوسط وبين »مكافحة الجهاديين في العراق وسوريا في إطار عملية “شمال”.
وكان الرد الرسمي الروسي سريعا، إذ تحركت »البحرية في كل الاتجاهات من الهادئ إلى الأطلسي مرورا بالمتوسط بحوالي 140 باخرة و10 آلاف جندي«.
وبطبيعة الحال تتجاوز المناورات البعد الاستعراضي وتندرج في منطق شامل، حيث تم خلق قوة عمليات دائمة للبحرية الروسية في الحوض المتوسط تابعة للأسطول الروسي في البحر الأسود، وقد اكتسى
التواجد الروسي في المتوسط أولويته في صبغته الحاضرة من وثيقة استراتيجية تحت عنوان «”أسس سياسة الدولة في المجال البحري في أفق 2030 «”، والتي وقعها بوتين نفسه في يوليوز 2017.
وروسيا »بوتين« موجودة في كل التربصات ـ بلغة كرة القدم ـ الجيوسياسية المتعلقة بجزء من القارة الإفريقية حيثما توجد قوى عربية، متناحرة كانت أو متوافقة، كما في مالي، وموسكو في نظر الفرنسي لومباردي، صارت قِبلةً لكل الفاعلين في الرقعة الشرق أوسطية، من القاهرة إلى أنقرة مرورا بطهران وتل ابيب والرياض، ويكفي أن يتصفح المتتبع آخر صفحات الأخبار في الشهور الأخيرة لينتبه إلى »الباليه« الديبلوماسي الذي تشهده بلاد »بُحيرة البجع« .
الواضح أن الأحلام السوفياتية لم تمت في ذهن من اعتبر تفكيك الاتحاد السوفياتي القديم« أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، وصار مسرح تحققها يمتد على رقعة الشطرنج الروسي، من دمشق إلى الخرطوم إلى برازيليا، وتشمل أدوات تحقيقها الأمن والصناعات الحربية والغاز والنفط، وهي المقومات التي تصنع حاضر العرب وغير قليل من كينونتهم.
وعندما ننـظر إلى الحروب، نرى العرب، وعندما ننظر إلى الغاز والنفط نجد العرب، وعند النظر إلى القمح نجد عجز العرب عن إطعام أنفسهم، و»القمح مر في حقول الآخرين« على حد قول محمود درويش !
وقد حذر معهد الشرق الأوسط للأبحاث من أنه »إذا عطلت الحرب إمدادات القمح للعالم العربي الذي يعتمد بشدة على الواردات لتوفير غذائه، قد تؤدي الأزمة إلى تظاهرات جديدة وعدم استقرار في دول عدة«.
ويبدو من الوهلة الأولى أن دول شمال إفريقيا لا علاقة مباشرة لها بما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، أو بين روسيا وجزء من العالم الغربي في الساحة الأوكرانية، ولا تتدخل هذه الدول في الصراع، ومن منطق الأشياء أن حلا سريعا سيكون من مصلحتها وفي حالة طال الصراع لاشك أن آثاره الاقتصادية لن تتأخر سواء تعلق الأمر بالمبادلات التجارية أو بارتفاع أسعار المواد الأساسية، لأن روسيا وأوكرانيا توفران المنتوج الزراعي للعالم ومنه العرب، بحيث أن 10 في المئة من صادرات العالم من القمح تضمنها روسيا و5 في المئة أوكرانية، وتعد دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، الأكثر تبعية في هذا المجال بما يناهز نصف حاجياتها وعندما ستلتهم الحرب الحقول سيجوع العرب !
ومن حيث المنطق، قد يبدو للعرب أن عودة موسكو نوع من عودة أوضاعهم إلى منطق مخالف لما ساد منذ خروج الدب الروسي من حلبة القطبية الجيواستراتيجية، فالتاريخ يذكر أن انهيار جدار برلين، تلته انهيارات كبيرة، منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، وكان العرب قد أضاعوا العراق، كما أضاعوا في تقلبات العقد الموالي العديد من الكيانات، لأنهم في الواقع لم يقرؤوا قوة الهزَّات التي ضربت العالم أو فشلوا في ترصيد ما حدث والنجاح في تحقيق ديموقراطية قادرة على تفجير طاقات شعوبهم.
وعلى ضوء قراءة انفجارات الربيع العربي، يبدو فلاديمير بوتين مثل الحليف الموثوق به، بالرغم من الموقف منه، فإن العرب يتابعون كيف تخلت أوروبا وأمريكا عن حلفائها عندما تساقطت نيازك الربيع العربي على عواصم تونس بنعلي، وقاهرة مبارك وطرابلس القذافي، وكيف أن بوتين حمى حليفه بشار الأسد، ووضع الدب قوائمه في قلب الشام وفي قلب المعادلات الشرق ـ أوسطية.
وعلى عكس ما يبدو من جغرافيا العالم المترامية الأطراف، فالربط بين ما حصل في جورجيا في 2008 وما يحصل في أوكرانيا حاليا وما يحدث في الشرق الأوسط ، معضلات متشابهة في العقل الاستراتيجي الروسي، فقد كان الدب الروسي يسعى إلى تأمين محيطه القوقازي، عبر وقف التمدد الأطلسي إلى جواره المباشر، أو لِنَقل المجال الحيوي للدولة الروسية، بتكريس موسكو قوة إقليمية في منطقة القوقاز، وكالعديد من الدول الآسيوية التي توجد بها إثنيات مسلمة وعادة ما تكون رهن أطماع غربية ومطالب استقلالية مشروعة، تعتبر موسكو ذلك »خزانا استراتيجيا« يمكن أن يتحرك ضدها في أي وقت، لهذا يعتبر بوتين »بأن القوقاز الشمالي نقطة تلاقي بين المسرح الأوكراني والمسرح السوري العراقي«.
وهذه الجبهة المزدوجة دفعته إلى »تصليب الخطاب ضد الشركاء الأجانب لمتهمين بالنزوع المغامراتي في العراق وسوريا وليبيا«، وكانت مبررا للمزيد من »القبضة المتشددة في الداخل وتأجيج الوطنية العدوانية، التي تغذت من حرب أوكرانيا ومن محاربة الإرهاب،«حسب المحللين.
ومن الواضح أن »قوس الأزمات« اتسع حول العرب، فأصبحوا في قلبه، وما زالت القوة الفاعلة دوليا، ومنها الصين وروسيا الصاعدتان، تتعامل مع الدائرة العربية في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا وفي غرب المتوسط كدائرة أزمات لا تنتهي، ويسعى كل طرف إلى بناء دوره على أساس العجز العربي في هذه المناطق.
من المحقق أن سؤالا من قبيل: هل سيولد “»بوتين العرب”« من الحرب الأوكرانية الحالية متأخر قليلا عن واقع بدأ منذ نهاية الربيع العربي، والذي شكل منعطفا في المعادلات الجيواستراتيجية، الشيء الذي جعل خبيرا مثل »شارل تيبو« يقول »إن قوس الأزمات التي تضرب شمال إفريقيا والشرق الأوسط صار جزءا من أزمات أوروبا«، وهوما يعني أن أي معالجة للعلاقة مع روسيا من هذا المنظور يجعل العواصم الكبرى تقرر في مصير العرب دون استشارتهم !
نشر في موقع «العربي الجديد»
هل يولد «بوتين العرب»من حرب أوكرانيا ؟

الكاتب : عبد الحميد جماهري
بتاريخ : 02/03/2022