وكر أوكرانيا الأمريكي 

يونس وانعيمي  

إذا ما توفق بعض منا من التحرر من ذلك العصف الإعلامي اليومي المكثف حول الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتمكن من تشغيل دواسة فكر مضاد للبروباغندا الغربية المشيطنة لروسيا، ستصل بنات أفكاره لمسلمات تفيد في فهم ما تقوم عليه الصراعات الجيو-سياسية بين المعسكرين الغربي والشرقي (مع افتراض أن الأرض كروية الشكل):
1 – يريد الاتحاد الروسي، كقوة دولية (من حيث السلاح والطاقة والامتداد الحيوي) أن يحمي جواره، الذي كان جزءا منه فانشطر وتفتت، وذلك من خلال بسط سيطرته ونفوذه ونفاذيته لجواره الحساس بنفس الوسائل التي تقوم بها باقي القوى العظمى (الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا مجتمعة…): لأمريكا مثلا حساسية مفرطة لكل من يقترب من جزر الكاريبي وخليج المكسيك، كما لأوربا نفس الضجر من احتمال سقوط الضفة الجنوبية للمتوسط تحت سيطرة روسيا أو الصين، ولها نفس الحساسية من محاولات مغازلة الروس لرومانيا وبولندا حتى تم دمجها سريعا في الاتحاد الأوروبي، وهي نفس ورقة الضغط التي تلعبها تركيا شرقا وفنلندا شمالا… وتعي روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية خطورة «لعبة استغلال الجوار» التي تمارسها أمريكا على منافسيها العسكريين والجيو-سياسيين: حيث كانت لعبة حرب اليابان وحرب فيتنام وحرب أفغانستان وحرب العراق وإيران…كلها حروب اندلعت بعد حصول «تماس كهربائي» افتعلته اليد الغربية لخلخلة الجوار الحساس للصين وروسيا وحلفائها. كما أن روسيا كانت دوما تضغط بنفس ورقة «الجوار الجيوسياسي» في كوبا (إبان الأزمة النووية الخطيرة لجزيرة الخنازير) ووضع أنظمة موالية لها بكلومبيا وفنزويلا والبرازيل ونيكاراغوا حيث بذلت وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA وفيالق الكوموندو جهودا كبيرة لاقتلاع تلك الأنظمة، مرة بذريعة إحلال الديمقراطية ومرة أخرى بذريعة محاربة الإرهابيين وكارتيلات المخذدرات. اليوم بوتين يستعمل نفس الورقة ليجد ذريعة تدخله لأوكرانيا وهي ذريعة محاربة النازية الجديدة.
2 – لا أحد من المعسكر الغربي (الناتو وحلفاؤه) في مصلحته أن يدخل في حرب مباشرة مع فلاديمير بوتين. لأن الحرب مكلفة جدا اقتصاديا ولوجيستيا وبشريا ولن تجد هذه الدول مبررات مقنعة لمواطنيها للدخول في كذا نزاع مسلح وهي التي خرجت للتو من جائحة أفقدت كثيرا منها موازنتها، ولا يزال جل منها في مرحلة نقاهة. كما أن العديد من هذه الدول تعيش سخونة حملات انتخابية رئاسية (فرنسا- أمريكا- بريطانيا…) ومن الصعب أن يرسل هؤلاء الرؤساء (بايدن- ماكرون- جونسون-ترودو…) جنودهم للموت ويقنعوا اليمين المتطرف الماسك بأعناقهم باستقبال ملايين المهاجرين والنازحين الجدد. أفضل وضعية تكتيكية هي التي تحدث اليوم: الحرب على روسيا بنظام المناولة sous-traitance حيث نسلح أوكرانيا و«شعبها الأبي» لإرهاق موسكو والكشف عن عتادها والتقرب من تكتيكاتها العسكرية (حيث يجهل الغرب ما لدى روسيا طيلة 30 سنة مضت منذ حرب أفغانستان) ودراسة ردود أفعال قادتها العسكريين وإيجــــاد ذريعة دولية لتنزيل عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا الاتحادية. الهدف ليس حماية أوكرانيا أولا بل مد اليد في جيوب وخزائن أوليغارشي وأثرياء روسيا حتى ولو بقرارات تعسفية ومتسرعة بل وغبية. الغرب يكتشف فجأة أن الثروات الروسية، لا الطبيعية ولا النقدية، هي في خزائن وتحت أراضي روسيا وليست مشاعة ومستباحة بين دول العالم (كما أموال ألمانيا مثلا)، ولم يقدر البنك الدولي لحد اليوم أن يبوح للمتورطين في استباحة أموال روسيا أن ما هو متوفر عالميا للنهب والسرقة لا يمثل سوى 16 في المائة من هذه الثروات. فروسيا تعي في عقيدتها ومن خلال أزماتها السابقة مع الغرب أن تحصن مدخراتها الفيدرالية جيدا وتحميها من كل استيلاء محتمل.
3 – العقوبات على روسيا، الاقتصادية طبعا، لن تفلح في عزل وتقليم أصابع قوة عالمية كبيرة. التاريخ القريب علمنا أن سياسة أمريكا في حصار وعزل الدول لم ينتج سوى نتائج عكسية تماما: إيران منذ 1979 وفور حصارها ونهب أرصدتها الخارجية وهي تتحصن وتنوع مداخل التقوي العسكري وتؤمن احتياطاتها وتستغل بذكاء أشكال امتدادها الاستراتيجي، كما لن ننسى أن حصار الغرب للصين في عهد ماو تسي تونغ كان فرصة تاريخية لها للتقوي والتحصين، وكوريا الشمالية لم «تسلح أضراسها» بالرؤوس النووية إلا وهي محاصرة ومنغلقة عن العالم، ولا أبالغ أن حصار قطاع غزة وحصار جنوب لبنان وحصار شمال السودان وحصار كوبا وحصار نيكاراغوا وأفغانستان…هو حصار غربي غبي لأنظمة كلما حوصرت كلما زادت تسلحا وخبرة وذكاء في استثمار «غيابها عن الرؤية». حصار روسيا الاتحادية، بقوتها العسكرية وغناها الطبيعي وامتدادها الجغرافي والحيوي وكثرة حلفائها و«مريديها» لن يساهم في عزل الشرق بل في عزل الغرب نفسه:
ألمانيا تتسلح خارج التزاماتها القديمة للغرب وستتبعها بالمؤكد اليابان، وهما الموقعان على معاهدتين صارمتين بعدم التسلح. دول أمريكا الجنوبية تخشى أن توقع بها أمريكا كما تم الإيقاع بأوكرانيا. دول الخليج، الحلفاء الروحيون لأمريكا، بدأوا حركة تمرد ديبلوماسي على الغرب ابتداء من امتناع الإمارات العربية عن التصويت لمشروع قرار أمريكي بمجلس الأمن، مرورا بتصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي لمح «لجواره الحيوي» مع إيران وضرورة حل معضلاته وأيضا للاستثمارات السعودية الضخمة بأمريكا التي من الممكن تنقيلها إن اختفت شروط وضعها لدى واشنطن.. الهند وباكستان ليست دولا أوروبية حتى تغامر وتجازف مع حماقات أمريكا، كما أن الغرب يعي تماما بأن النصف الإسكندنافي لأوروبا والنصف «العثماني القديم» ليسا بنفس مطواعية فرنسا وبريطانيا بخصوص قطع العلاقات نهائيا مع روسيا. كثيرة هي الدول التي تنفض من حول أمريكا لأن ما تصبو إليه هذه الأخيرة سيقسم العالم بطريقة أسوأ من تلك التي قسمته في بداية القرن العشرين. العولمة والمصالح المشتركة و«الأمعاء المشتركة» مع روسيا والصين والهند وأمريكا الجنوبية وإفريقيا ستدخل الغرب (بمفهومه الجيوسياسي التقليدي) إلى قطيعة ابستمولوجية مع نفسه.
لم تتضامن القبعات الزرق ولا الصليب الأحمر ولا منظمات غوث اللاجئين والنازحين ولا اليونسيف… مع الشعب الأوكراني الأعزل. كل ما فعله الغرب هو تسليح واستغلال الأوكرانيين في حرب إعلامية لا أخلاقية واستعمالهم كدرع بشري يتم تصويرهم بكاميرات قنوات إعلامية تجارية بطرق محطة بكرامتهم وبعزتهم… يصورون الشعب الأوكراني كشعب جائع تائه في صقيع الشتاء يرتشف الحساء البولندي ويكتسي أسمال بطانيات رومانية ويقبع تحت اسمنت خنادق تقطر بمياه عادمة ودماء شهداء أبرياء. لا عجب في أن يقتادوا أوكرانيا لمحرقة الحرب حتى يجدوا مبررات تقنع وجداننا بأن روسيا هي الشيطان الرجيم للعالم. روسيا على الأقل شيطان نراه اليوم ونحسه، لكن الأخطر دوما ومنذ البدء هو ذلك الخناس المختفي وراء سترة الناتو وخلف الكاميرات وتحت سطور الخطابات المتلفزة و»العواجل الإخبارية» والذي لا يتردد اليوم في إدخال العالم للكارثة من أجل أن ينقذ نفسه.

الكاتب : يونس وانعيمي   - بتاريخ : 09/03/2022

التعليقات مغلقة.