تحت ظلال الحرب الساخنة في أوكرانيا والشرق الأوسط، والسلام البارد في المتوسط وشمال إفريقيا

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

أمريكا: المراهنة على الأمن‮ ‬المغربي‮ ‬لتحصين‮ ‬الجيو- استراتيجيا

 

حظي‮ ‬الفصل الأمني‮ ‬والاستخباراتي‮ ‬في‮ ‬توطيد التعاون الجيوـ استراتيجي‮ ‬بين المغرب وأمريكا،‮ ‬بأهمية بالغة في‮ ‬البلاغ‮ ‬الذي‮ ‬توج جلسة الحوار الاستراتيجي‮ ‬بينهما‮. ‬
وبدون مجهودات في‮ ‬الإقناع،‮ ‬فإن الربط بين المستوى العالي‮ ‬للتعاون الأمني،‮ ‬ثم الهدف المأمول منه في‮ ‬الظرفية الدولية الراهنة،‮ ‬هو شهادة اعتراف تتجاوز‮ الدورية المناسباتية أو التحالف الظرفي‮ ‬إلى ترابط عضوي‮ ‬بين خدمة الأمن‮ والاستقرار هنا والآن،‮ ‬وبين الطابع الاستراتيجي‮ ‬في‮ ‬خدمة قضايا السلام والتعاون‮. ‬وبالرغم من أن الدول لا‮ «‬تُشْكر‮» ‬على استقرارها،‮ ‬فإن‮ ‬نائبة وزير الخارجية الأمريكي،‮ «‬ويندي‮ ‬شيرمان‮ » ‬شكرت المغرب على أمرين اثنين‮:‬
ـ كونه شريكا‮ ‬يتمتع بالاستقرار‮ ‬
ـثم كونه رافدا للأمن‮.‬
وهما مظهران‮ ‬يبدو أن الإدارة الأمريكية ألحت على أن‮ ‬يؤسسا قاعدة في‮ تحديد طبيعة التعاون والحوار‮ ‬الاستراتيجي‮ ‬الحالي‮ .‬
وعليه،‮ ‬لم تتردد أمريكا،‮ ‬على لسان المسؤولة في‮ ‬الخارجية، في‮ ‬تعداد النقط التي‮ ‬استخلص منها‮ ‬المغرب جوهر وجوده كـ«رافد أمني‮ ‬قوي‮» ‬دون الاقتصار على الحديث عن المنطقة‮،‮ ‬بل‮ ‬يتجاوز ذلك‮‬، بالإشارة‮ ‬إلى ما‮ ‬يفيد بأن الأمر‮ ‬يتعلق بمساهمة في‮ ‬أمن العالم‮.‬
وهو في‮ ‬ذلك،إمَّا أمنا قياديا أو داعما قويا،كما قالت‮. ‬وتمثلت عناصر التنويه الأمريكي‮ ‬بالدور المغربي،عالميا، من خلال‮ : ‬
‮ ‬ـ دوره القيادي‮ ‬في‮ ‬ما‮ ‬يتعلق بالمنتدى العالمي‮ ‬لمكافحة الإرهاب.‮ ‬
ـ‮ ‬دوره الداعم‮ ‬داخل التحالف العالمي‮ ‬لهزيمة‮ «‬داعش‮».‬
‮ ‬ولم‮ ‬يقتصر الموقف الأمريكي‮ ‬في‮ ‬هذا الجانب على‮ «‬ترصيد‮»‬‮ ‬ما تحقق منذ بداية الحرب على الإرهاب،‮ ‬ابتداء من2001‮ ‬أو التذكير به من باب المجاملات التي‮ ‬تفرضها الزيارات‮‬،‮ ‬بل كانت التعبيرات صريحة وواضحة حول المستقبل،‮ ‬من خلال الدور الذي‮ ‬تلعبه الأجهزة المغربية،‮ ‬دوليا، في‮ ‬استشراف التحركات الإرهابية ورصد ديناميتها في‮ ‬مجالات نشاطها المسلحة أو الإيديولوجية‮ … ‬ولا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يُفلت المتتبع أو صاحب القرار‮‬،‮ ‬في‮ ‬هذا السياق،‮ ‬نقطتين أساسيتين‮ ‬وردتا في‮ ‬البلاغ‮ ‬المشترك،‮ ‬من خلال التشديد على
ـ‮ ‬مساهمة المملكة بصفتها رئيسا مشاركا لمجموعة التفكير الإفريقية‮ ( ‬Africa Focus Group‮ )،‮ ‬التي‮ ‬تهدف إلى تبني‮ ‬نهج استشرافي‮ ‬واستراتيجي‮ ‬للتهديد الذي‮ ‬يشكله تنظيم‮ «‬داعش‮». ‬
ـ استضافته للاجتماع الوزاري‮ ‬المقبل للتحالف في‮ ‬ماي‮ ‬2022‮…!‬
‮ ‬وتبدو خارطة الطريق واضحة‮ ‬وللمغرب فيها دور الدينامو‮ ‬و«الحاضنة الأمنية‮»‬،‮ ‬من أجل تحصين ما تريده الولايات المتحدة ودول العالم عموما من تنسيق الجهود في‮ ‬محاربة الإرهاب‮.‬
مناقشة قضايا الإرهاب،‮ ‬والانشغال الكبير بين الدولتين بما سماه البلاغ‮« ‬دحر الجماعات الإرهابية،‮ ‬ولاسيما تنظيمي‮ ‬القاعدة في‮ ‬بلاد المغرب الإسلامي‮ ‬وداعش‮.»‬،‮ ‬شكلا نقطة انطلاق نحو مناقشة قضايا الساحل،‮ ‬ليبيا وأوكرانيا‮…!‬
وفي‮ ‬الواقع،‮ ‬فإن البلاغ‮ ‬لم ‬يضف الكثير إلى ما يعرفه الجميع من مجهودات،‮ ‬سياسية وأمنية مغربية، تخص تأمين المحيط شمال إفريقي‮ ‬وفي‮ ‬الساحل، حتى بات العديد من المحللين‮ ‬يعتبرون أن حدود أوروبا أصبحت جنوب المغرب،‮ ‬حيث‮ ‬يسهر على‮ ‬قطع الطريق على الجهاديين والمتطرفين المسلحين،‮ ‬ولا على‮ ‬دوره في‮ ‬ليبيا‮.‬
ما‮ ‬يثير حقا،‮ ‬في‮ ‬الشق الأمني،‮ ‬هو وجوب الحديث عن‮ ‬أوكرانيا،‮ ‬ضمن الانشغالات المغربية‮ الأمريكية‮،‮ ‬وهي‮ ‬مبدئيا بعيدة جغرافيا عن دائرة الإرادة الإقليمية للمغرب،‮‮ ‬والواضح أن مناقشة أوضاعها لا تقف عند المواقف التي‮ ‬عبرت عنها كل عاصمة على ‬حدة،‮ ‬بل‮ ‬تتجاوز إلى تقديم تحليل مشترك،‮ ‬إن لم‮ نقل موحد في‮ ‬ترتيب الأولويات الأمنية التي‮ ‬تطرحها الفترة العصيبة الحالية‮.‬
فأوكرانيا مع فتح‮ ‬باب التطوع‮،‮ كما حدث سابقا في‮ ‬أفغانستان وسوريا والعراق، قد‮ ‬تتحول إلى مشتل إرهابي‮ ‬تسمح ظروف الحرب أن‮ ‬يؤسس‮ «بنية دولة‮«..‬
ولا يستبعد الدارسون أن تكون الحرب الروسية في أوكرانيا بداية لفصل جديد في تاريخ الصراعات الدولية، «يُرجح أن يصبح توظيف “الحروب الهجينة” ومأسسة أدوار المقاتلين الأجانب والمرتزقة سمات أساسية فيه»، وربما يُعاد في سياقها إحياء نماذج المواجهة الغربية في الشرق الأوسط وآسيا.
‮ ‬علاوة على ذلك،‮ ‬لم‮ ‬يعد أحد‮ ‬ينكر أن‮ «‬الحرب الهجينة‮» ‬أو المختلطة‮،‮ ‬التي‮ ‬تجمع بين الحرب النظامية والإرهاب الاستراتيجي‮ ‬والمغامرات المتطرفة،‮ ‬صارت‮ «‬نمطا في‮ ‬الحرب‮» ‬ويمكن‮ ‬تشغيله في‮ ‬أي‮ ‬نزاع ممكن،‮ ‬ولهذا لا‮ ‬يمكن لأي‮ ‬استراتيجي‮ ‬أن‮ ‬يلغي‮ ‬من عهدة العقل احتمال‮ ‬تطاير الشظايا من أوكرانيا إلى المحيط‮ ‬القريب وهو‮ الحوض المتوسط‮…‬
وإذا كانت لوحة القراءة الخاصة بليبيا والساحل،‮ ‬وعلاقتهما بالإرهاب وتعميم تحولاته، معروفة بشكل‮ ‬قوي،‮ ‬فإن الوضع الأوكراني‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يمر مرور الكرام في‮ ‬ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يفرزه من أرضيات إرهابية خصبة‮.‬
وهنا الإشارة واجبة‮ إلى‮ ‬أن الحرب،‮ ‬أي‮ ‬حرب،‮ ‬ولاسيما عندما‮ ‬تكتسي‮ ‬أبعادا جيواستراتيجية، عادة ما تكون فرصة لإحياء‮ ‬التنظيمات المتهالكة أو‮ «‬الآيلة للسقوط‮» ‬مِنْ‮ ‬قَبيل‮ ‬تنظيم‮ «‬داعش‮» ‬و«القاعدة‮» ‬والتنظيمات اليمينية المتطرفة‮…‬
وبدون أن‮ ‬يسعى المغرب وأجهزته‮ ‬إلى‮ «‬تسويق‮» ‬نفسيهما كبنك معلومات في‮ ‬هذا الباب،‮ ‬فقد ثبت لأمريكا وللدول المتعاونة مع المغرب أنه‮ ‬راكم تجربة عملية‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يساهم‮ ‬بها في‮ ‬الأمن الدولي‮. ‬
وصار من ثوابت القراءة الجيوسياسية للمنطقة،‮ ‬لدى الولايات المتحدة،‮ أن تستعيد دوما الفضاء المتوسطي‮ ‬والشمال الإفريقي، وفي‮ ‬قلبه النموذج الأمني‮ ‬المغربي،‮ ‬في‮ ‬كل لحظة حرجة من لحظات العالم،‮ كما أن الحقائق تضع المغرب‮ في‮ ‬بداية الطريق الطويل نحو‮ العالم الإسلامي‮،‮ ‬من طنجة نحو كراتشي،‮ ‬وهو‮ ‬إلى ذلك أقرب حليف معتدل،‮ ‬يجمع بين‮ كونه شريكا موثوقا به في‮ ‬محاربة الإرهاب وبين كونه فاعلا في‮ بناء‮ ‬السلام في‮ ‬الشرق الأوسط‮‬،‮ ‬إضافة إلى كونه رائدا عربيا في‮ ‬الديمقراطية‮ ‬والإصلاح‮… ‬
‬وإذا كانت الصدف لا تصنع القناعات،‮ ‬فبالأحرى أن تصنع سياسات وجغرافيا سياسية،‮ ‬فإن‮ ‬تزامن ما وقع في‮ ‬زيارة السيدة المسؤولة الأمريكية مع تقارير دالة في‮ ‬مجال الأمن ومحاربة الإرهاب دوليا‮ ‬يكتسي‮ ‬طابعا محوريا ومركزيا‮‬،‮ ‬تطبعه الديمومة والوضوح في‮ ‬الرؤية،‮ ‬وليس‮ غيرهما‮.‬
‮ ‬فقد تزامنت الزيارة الهامة،‮ ‬وهي‮ ‬الأولى‮ ‬من نوعها للسيدة شيرمان،‮ ‬مع ثلاثة أحداث لا‮ ‬يمكن القفز عنها‮:‬
* أولا‮: ‬صدور تقرير عن المرصد الدولي‮ للدراسات حول الإرهاب الجهادي‮ ‬في‮ ‬سنة‮ ‬2021‮.‬
‮ ‬وهذا التقرير أشاد بالتعاون المغربي‮ ‬الإسباني‮ ‬في‮ ‬المجال بالرغم من الظروف السياسية المطبوعة بالأزمة والجفاء بين مدريد والرباط‮. ‬ووصف التعاون الوثيق بين الأجهزة في‮ ‬البلدين. ‬وإذا كانت هناك من دروس،‮ ‬فإن المغرب قد استطاع تجاوز آلامه الخاصة والظلم الذي‮ ‬لحقه من الدولة الإسبانية وواصل التعاون بالرغم من الطعنات في‮ ‬الظهر‮. ‬وهو نفس الأسلوب الذي‮ ‬يريد اعتماده مع الجار الشرقي‮‬،‮ ‬بدون نجاح إلى‮ ‬حد الساعة‮.‬ بالتالي فقد أعطى صورة عن نفسه بأنه بلد ‬يعرف ترتيب الأولويات وحتى في «العداوات !«
‮ ‬وقد كان لافتا في‮ ‬التقرير تلك الخلاصة التي‮ ‬كتبها«دانييل بيريز‮» ‬محرره، بقوله ‮«إن أهمية التعاون بين البلدين تبينت من خلال الدعم المقدم من طرف الإدارة العامة لحماية التراب الوطني‮ ‬المغربية‮ (‬ديستي‮) ‬والمكتب المركزي‮ ‬للأبحاث القضائية‮ (‬البسيج‮) ‬للسلطات الإسبانية‮«… ‬
كما أوضح التقرير، أن التعاون بين البلدين عرف تطورا مميزا، إذ انتقل من تبادل المعلومات حول الخلايا أو الأشخاص المرتبطين بالجهادية إلى تشكيل فرق مشتركة…
ومن التزامنات ذات الدلالة أن المسؤولة الأمريكية، جاءت إلى المغرب….. قادمة من إسبانيا!
* ثانيا: وقد سنحت الفرصة خلال الأسبوع نفسه أن يعطي العمل المغربي من أجل حماية الأمن في أوروبا نموذجا عبر ما قدمته الأجهزة المغربية لبلجيكا. حيث قدمت «الديستي» معلومات ومعطيات دقيقة للسلطات البلجيكية المختصة حول «مواطن بلجيكي من أصل مغربي، يشتبه تورطه في التحريض والتخطيط والإعداد لمشاريع إرهابية وشيكة. هذه المعلومات الدقيقة مكنت من توقيف المشتبه به الذي يحمل الاسم الحركي عبد الله البلجيكي، ووضعه رهن الاعتقال من طرف القضاء البلجيكي على ذمة البحث والتحقيق في إطار قضايا الإرهاب والتطرف العنيف«.
لا شك أن الطابع الظاهر للتعاون طابع ثنائي مغربي بلجيكي في المجال الأمني، بيد أنه لا يمكن أن نغفل الطابع الأوروبي للخدمة المغربية، سواء من خلال اعتبار التوقيف « تتويجا للجهود المتواصلة التي تبذلها المملكة المغربية لمكافحة التنظيمات المتطرفة وتحييد مخاطر التهديد الإرهابي على الصعيد الدولي»أو من خلال المكان المعني وهو بروكسيل، عاصمة الاتحاد الأوروبي المؤسساتية!…
* ثالثا: التقرير الصادر عن «معهد الاقتصاد والسلام الأسترالي»، الكائن مقره بسيدني، والذي تداولت وسائل الإعلام تصنيفه المغرب ضمن قائمة البلدان الأكثر أماناً على صعيد منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ككلّ، وهو ما بوَّأه المركز 76 عالمياً من أصل 163 دولة في مؤشر الإرهاب العالمي لسنة 2022.
نفس التقرير أشاد بـ«تطور المقاربة الأمنية المغربية على مستوى مكافحة الظواهر الإرهابية بالقارة الإفريقية، معتبراً أن المملكة تعد نموذجاً ناجحاً في إجهاض المخططات التخريبية بالمنطقة».
وعلى ذكر القارة، يتفق المعنيون بمحاربة العنف الجهادي، أن ‎المقاربة الشمولية التي يستوحيها المغرب، تجعل مقاربته ضرورية تتجاوز «الثنائيات» أو «التضادات» التي تعودت الدول النظر من خلالها إلى المشكلة، الشيء الذي ينتج عنه التفريق بين مناطق التهديد ووضعها مجزأة، مما يخلق« منطقة رمادية لا هي أوروبية محضة ولا هي شرق أوسطية محضة ولا هي شمال إفريقية محضة»‫..‬ «القاعدة في الغرب الإسلامي»، و« بوكو حرام»، و «الشباب»، و«المرابطون»، و«أنصار الشريعة» وغيرها من الجماعات التي تهمين على صناعة الإرهاب في القارة‫..‬يتعامل معه المغرب معاملة ذكية واندماجية تجعله في مقدمة المواجهة‫..‬
وليس صدفة أن يشير التقرير العالمي المذكور أعلاه، إلى «الدور الفعال للمملكة المغربية في محاربة الإرهاب الذي يوحي بالفهم الجيد للتهديدات المحدقة بها، إذ تجمعُ بين الأساليب الأمنية التقديمية والتدابير الناعمة في شتى المجالات، وهو ما يسهّل تبادل المعلومات بين مختلف الأجهزة».
هنا لا تلتقى القارات فقط، بل تلتقي المقاربات كذلك، مما يعطي للمغرب بصمته الخاصة به في العمل الدولي في محاربة الإرهاب، وتحصين الثوابت الجيواستراتيجية وخياراتها.
لا شك أن زيارة ويندي شيرمان، وما رافقها من مواقف وتوقعات وحوار استراتيجي، سيكون لها ما بعدها، كما أنها تشير بوضوح إلى مركزية الدور الريادي لبلادنا في مجالات حيوية، وفي التحكم في تقلباتها … ما بين السلام البارد والحروب الساخنة!

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 11/03/2022