مع تدوينات سفر عبد اللطيف شهبون..

مذكرة شعرية لجغرافية الروح

 

يشكل أدب الرحلة مجالا أثيرا للتأمل وللاستلهام وللخلق وللإبداع. ومنذ الأزل، كانت «الدهشة» عنوانا مميزا لأشكال تلقي الصور والوجوه والفضاءات، كما كان «الانبهار» عنوانا لسياقات تبلور المتون المدونة لتفاصيل الرحلة والتنقل، ثم كانت «العجائبية» مدخلا لإعادة تركيب مكونات بنية السرد المدمج لعناصر فتنة المكان وتأثير الوجوه ووقع الرموز وآثار الشواهد، مع نزوعات الذات المنتشية بفتوحاتها. وعلى هذا الأساس، كان المبدعون يميلون –دائما- إلى استثمار هذا البعد العميق داخل أعمالهم الإبداعية والتأملية، ليس –فقط- في مجال توظيف النماذج والاستعارات والكليشيهات والمحكيات، ولكن –أساسا- في مجال إعادة تخصيب عطاء الذات ومقاربة تميزها على محك التجارب والرؤى الموزعة في الزمان وفي المكان. وعلى هذا الأساس، أضحت الكتابة عن تجارب الرحلة، جزءًا ناظما في التوثيق لمسارات التاريخ الذهني للمبدع، من موقعه كباحث عن السمو، وكمهووس بأسئلة «الآخر» و»المغايرة»، وكمستشرف للعوالم التي تنتجها يوطوبيات المبدع والمفكر والمثقف.

في إطار هذا التصور العام، يندرج صدور كتاب «من أرض الله»، للأستاذ عبد اللطيف شهبون، في ما مجموعه 171 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، وذلك سنة 2019. ويمكن القول، إن هذا العمل التأملي العميق يشكل رافدا أساسيا في مسار المشروع الثقافي والروحاني الذي انشغل به الأستاذ شهبون على امتداد عقود زمنية ممتدة. ففيه تتقاطع دوائر الاهتمام التي طبعت مسار عبد اللطيف شهبون في «دهشته» وفي مبادراته وفي مسار تلقيح تجاربه في مجالات متعددة، جمعت بين الجانب الأكاديمي وبين الملمح الحقوقي وبين الانشغال السياسي وبين الأفق الإبداعي وبين الهاجس الإعلامي. لقد أتاح السفر للمؤلف فرصا ثمينة لإعادة اكتشاف العالم، ولإعادة طرح أسئلة الوجود والكينونة، وقبل ذلك، لإعادة مساءلة الذات في يقينياتها وفي عناصر تجانسها أو تنافرها. وبذلك، تحول فعل السفر إلى عنصر محفز على خلق عوالم بديلة ترسم حيوات موازية لطقوس الحياة اليومية ذات الإيقاع البطيء والمعتاد. ولعل هذا ما سعى عبد اللطيف شهبون إلى اختزال أبعاده الفلسفية العميقة وهو يحدد مفهوم السفر، عندما قال: «السفر افتتان بالمجهول. هكذا كان منذ «هيرودوتس» اليوناني، مرورا بالمواطن العالمي ابن بطوطة إلى يومنا هذا. يتيح السفر التعرف إلى الآخر ويقود إلى التفاهم، وهو باب مشرعة لأكسجنة الذهن وترويح الخاطر.. وأما زاد المسافر فهو التوقف بكل قواه عند الصور العالقة بالآخرين، بالتجارب الإنسانية، بالثقافات، بالروائح، بالأذواق الجديدة التي يضيفها إلى مخزونه الغميس.. وقد يعود المسافر إلى المكان ذاته، يقف ويستوقف لاستكمال ما عاشه واستعادة لحظات.. العالم قرية هكذا يقولون.. نتعرف إلى أناس وأمكنة وثقافات بواسطة التلفزيون أو بألفة قرائية في جرائد ومجلات ودوريات أو في حكي روائي، لكننا بالسفر نمسك بالحقيقة بعد أن كنا ماسكين بحبل التمني…» (ص. 85).
وبهذا البعد التأملي العميق، تصبح الرحلة مناسبة لإعادة بناء عوالم على عوالم، أساسها الأحلام المؤجلة والسياقات المشتهاة في ذهن المفكر والمبدع والمثقف. لذلك، جاءت نصوص عبد اللطيف شهبون فاحصة لتجارب عدة عاشها المؤلف داخل المغرب وخارجه، واحتك فيها بأسماء فاعلة في مجالات مختلفة تراوحت بين الأبعاد الجامعية والحقوقية والسياسية والإبداعية والفنية والإعلامية والجمالية. هي «أعمدة» عبد اللطيف شهبون الشاهدة على معالم عطائه وعلى حصيلة منجزه وعلى مجموع انتظاراته. لذلك، فمضامين كتاب «من أرض الله» تشكل مدخلا أساسيا لكل محاولات التوثيق لإبدالات «التاريخ الثقافي» للمبدع عبد اللطيف شهبون. فهي اختزال للانتظارات، واستشراف لآفاق الممكن، وامتصاص للانكسارات، وتنظير لقواعد «الكشف» ولدوائر «الوجد» ولرؤى «التجلي». وتزداد أهمية متن «من أرض الله» بروزا، إذا أخذنا بعين الاعتبار قوة اللغة التي وظفها عبد اللطيف شهبون في تدويناته، حيث السلاسة المتناغمة، والشاعرية الحالمة، والتطويع الأخاذ.
وللاستدلال على ملامح هذه القوة التي تطبع لغة عبد اللطيف شهبون، نستدل ببعض مما كتبه مناجيا عوالم معشوقته الفاتنة مدينة شفشاون، في إطار ما وصفه ب»جغرافية الروح». ففي ذلك اختزال لمجمل القيم اللغوية التي اختزلنا أبعادها أعلاه. يقول المؤلف: «الشاون ثغر مبتسم وغيث منسجم وفضاء جلالي أسبل عليه الله سره.. الشاون نقطة نورانية تجري فها كينونتي.. ومن هذه النقطة بدأ اتصالي الأول بالإحساس الكوني للوجود. كل ما كتبته وأكتبه عن الشاون يماثل مذكرة شعرية لجغرافية روحي. كتابة المذكرة الشعرية تختلف شكلا وجوهرا عن كتابة بيوغرافية ثقافية بسيطة. فالكتابة الأولى متعالقة بجغرافية الروح.. وفي جغرافية الروح تتماهى الطفولة والتربية والمثيرات الجمالية والحقائق الجلالية وعمل اللغة وضمير الإيقاع اللجي وضرائر الفن والدين العاطفي والحب والمرض والإحساس الحاد بالفقد والموت.. لا أتصور أن أحدا يجلس لكتابة ملامح جغرافيته الروحية كما لو أنه يحرر محضرا أو ينسخ وثيقة أو ينسج بيانا أو يدبج رسالة.. إن الناظر بعين روحه ونظر قلبه يراكم تجارب يمتلئ بما يراه.. يحترق بما يتذكره شوقا.. يتأمل ما يدركه ثم ينميه بالصحبة.. ويغمره بالمحبة حد الجنون.. يمتلك ذاكرة، وذاكرته هي آنيته الحافظة لتوتره وسكينته وهبات مشاعره وتلوينات تصوراته.. ومن مجموع هذه الرواسب تنبع بشائر المعنى وحلل المغنى.. والمغنى حياة الروح.. تشفي العليل المجروح.. إن هذا العتاد النفسي هو الذي تشكل عناصره الوقائع الشعرية التي أدونها بشوق وانتشاء وتعلق وحزن عن مدينتي… الشاون نور صبح وقمر حب ونسيم وصل وريح وصال ومطر توفيق وشمس تقريب وثدي مودة أو في كلمة جامعة نفحة طريق ونسمة رضوان…» (ص ص. 157-158).
وعلى هذا المنوال، تنساب نصوص عبد اللطيف شهبون، لتعيد تركيب عناصر الافتتان الجمالي والولع الصوفي والعشق المستدام، لخصوبة المحيط، ولثراء الواقع، ولبراءة الوجوه، ولطراوة الأنفس. يتعلق الأمر بكتابة فريدة، تشتغل على كثافة المعنى، وعلى تشظي القيم البلاغية، وعلى انبثاق الحقول الدلالية للاستعارات المؤطرة للمعنى. باختصار، هي كتابة تختزل مسار تجربة، وآفاق حلم، ورصيد تكوين، ومجهر تفكيك، أحسن عبد اللطيف شهبون الإمساك بأطراف خيوطها الناظمة للغة المتن ولآفاقها التأملية والتعبيرية الواسعة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 15/03/2022