شعوب في أقصى الزاوية الحادة للحياة
أتساءل دائمًا: أيّ عارٍ يمكن أن تتحمّل وزرَه تلك الأرواح التي رقصت فرحًا وكسرت كأس المدام على جثث العابرين قسرًا من أوطانهم!
ألا يشعرون بذلك العار ينكمش داخل صدورهم خجلاً ممّا اقترفت ضمائرهم العفنة!!
أعتقد أن نفوسهم تحتفظ بحق الردّ، فأيّ ردّ سيكون من ضمائرٍ يسابق فيها السّوسُ دودَ الخلّ ليحصل على إقامة دائمة في تلك الهياكل المجردة إلاّ من الأخلاق والإنسانيّة.
وفي رواية غريق في جنة الإغريق يلقي الكاتب رواد العوام الضوء على النهاية التي وصلت إليها شخصيات الرواية الثلاث ( عماد ونديم وصفوان ) جرّاء ويلات الحرب، لتكون البداية في ما يمكن أن نسميه وطناً فكانت: الهاوية الأولى…
لقد رضيت تلك الشخصيات بأدنى متطلبات الحياة ورأت فيها النعيم بحدّ ذاته، شخصيّات مثّلت فئة الشباب الأكثر فاعليّة في المجتمع على اختلاف مستوياتها الثقافية والعلمية، تلك الفئة التي دفعتها فواجع الحرب وقيود الخدمة العسكرية وشعارات ضرورة الدفاع عن حياض الوطن، ووهم الحرية المنشود لترك أعمالهم ودراستهم وأهلهم بحثاً عن لقمة العيش والأمان، ليصبحوا هاربين من جحيم الحرب إلى بلاد الإنسان والكرامة والنعيم عبر جنة الإغريق، حرب جنّدت كلّ ما لديها من عدّة وعتاد حجمهما ملء السموات والأرض لتقضي على أناس لا حول ولا قوة لهم سوى بقايا أمل وقناعة بأبسط سبل الحياة، فكسرة الخبز تغنيهم ورشفة الماء تحيي بهم الرضا حرب دفعت بهم من مأمنهم إلى الهاوية الثانية:
لتكون لبنان هي الوجهة الأولى والتي رسمت لهم طموحاتهم أنها البلد الأكثر سلاسة للتوجه إلى أوروبا البقعة التي كانوا يرون أنفسهم فيها طيورًا تحلق في سماء النعيم.
لكنّ الأمر لم يكن بالسهل فقد ساقت نتائج الحرب بعض الشخصيات مثل شخصية عماد إلى اقتراف ما ينمّ عن انعدام أخلاقه وسرقة مَن وثقتْ به ليصل إلى تركيا ويدفعه مكرُه لدفع صديقيه( نديم وصفوان) إلى المجهول، وقتل لصّين على مبدأ أتغذى بهم قبل أن يتعشوا بي…
أما نديم ذاك الشاب الذي وجد في لبنان وظيفة تلائم فكره النيّر وأخلاقه العالية، فكانت المكتبة وتوصيل الكتب لطالبيها الوسيلة الوحيدة لجمع المال والتوجه لأوروبا….. وصفوان الفتى الطيب الذي كان أكثرهم حظّا حين وجد نفسه ـ بعد أن خاض جحيم الحرب في سوريا وذلّ المعيشة في لبنان واستقواء الأمواج العاتية على روحه الغضّةـ في أوروبا البلد المنشود.
لكنّ لبنان يضيق ذرعاً بأبنائه ولن يتحمّل المزيد من الأشباح التي ستعج بها شوارعه، فما كان من شباب لم تحملهم اليابسة إلّا ان يتوجّهوا إلى البحر الذي خذلهم حين دفعهم فقدانُهم للأمان إلى البحث عن الدفء في أحضانه ليجدوا أن ذلك الحضن استحال إلى مقصلة تشظّت عليها أرواحهم برداً ورعباً من المجهول، فوجد هؤلاء الشباب أنفسهم يمسكون طموحهم من معصمه ويقودونه إلى …..الحتف الأخير
حتوف وليدة القدر:
تجعلنا الكثير من القصص أقلّ تعاطفًا مع أصحابها رغم المآسي والأسباب الدافعة بها إلى ارتكاب ما لا يمتّ للقيم الأخلاقية بشيء.
فما المبرّر لشخصٍ هاربٍ من ويلات الحرب وانعدام الضمير وقسوة الجوع واللّهاث وراء القرش أن يقتل ويسرق ثم يجد في بلاد المهجر بيئة تخلّصه من الحرب ليشنّ حربه غير الأخلاقية تجاه أبناء جلدته من السوريين الذين هربوا وتحسّسوا طريقهم المظلم بكلّ ما ملكوا من مال على قلّته ليبصروا نور الحياة؟!!!!
أليس الهروب من جحيم الحرب إلى جحيم الضمير الأسود أكثر ضراوةً كما هو الحال في شخصيّة عماد الذي خرج من لبنان واستقرّ في تركيّا يقتات على لحم السوريّين الهاربين، ويشرب كأس غرقهم على شاطئ البحر ويستنشق رائحة الدولار الثمين… إنّه بحقّ الحتف الأخير…. في حين ترى أن إجحاف القدر بحق نديم بلغ أقصى درجات الألم لتجد أحلامه قد تناثرت أشلاء على أرصفة المسافات العمياء، وقد أهداه القدرـ عرفاناً لضميره الحيّ وأخلاقه العالية وصبره الكبيرـ قماشاً أبيض بربطة محكمة ورقمًا يدلّ على عدده في لائحة الجحيم.
على أنّ للقدر حيلا تجعل من الناس، خاصة ذوي الإيمان به، يمتثلون ممن ابتسم لهم ذاك القدر وأوصلهم إلى جنة النعيم، فقد أحب القدر صفوان وانتشله من أمواج المتوسط العاتية ليصل إلى أوروبا ومعه بعض الذكريات الأليمة والأحقاد الدفينة التي ستكون أوروبا بكلّ ما فيها من مقاييس الحياة المثالية كفيلة أن تذروها مع أقل نسمة عابرة، وليكون صفوان القدوة لسيلٍ من الشبان الذين سيجربون حظّهم في جنّة الإغريق، فلا ندْرِ قد يكون هؤلاء الشبان نسخة عن صفوان أو عماد أو نديم…
إن حرباً بحجم هذه الحرب لا يمكن للدول وإن اجتمعت قاطبة أن تحصي عدد الصرخات التي دوّت في سماء هذا الوطن، ولا يمكن لكل معداتها أن تطفئ نار الحقد والكراهية على السبب والمسبب، ولن يكفي بنادول العالم بأكمله لتسكين أوجاع أبنائها.
فإلى متى سنظل رهن المسافات العمياء؟؟