إبراهيم بوطالب أستاذ الأجيال 1937-2022

 

إبراهيم بوطالب أول مؤرخ في المغرب المستقل، هذا واقع. في بداية الاستقلال توجه إبراهيم بوطالب إلى فرنسا من أجل متابعة الدراسة الجامعية، اختار التاريخ عن قناعة وهو ابن الوطني والشهيد عبد العزيز بوطالب. وفي الوقت الذي كان فيه الشباب من المغارب يفضلون الالتحاق بشعبة الحضارة العربية الإسلامية بسبب إجبارية اللغة اللاتينية، اختار إبراهيم بوطالب المسلك الصعب. اختار التاريخ واستطاع بفضل مثابرته الحصول على دكتوراه السلك الثالث في التاريخ. ناقش أطروحته في موضوع العلاقات التجارية بين فرنسا والمغرب في القرن الثامن عشر. وعاد إلى المغرب ليعلن أول مؤرخ في تاريخ المغرب المستقل، وكل أقرانه وزملائه آنذاك في الشعبة أتوا إلى التاريخ من آفاق أخرى.
السي إبراهيم بوطالب “أستاذ الأجيال” ليست صورة بلاغية، بل هي أكثر من ذلك صفة يستحقها الرجل عن جدارة. كرس نفسه للتأطير والتدريس، وساهم في تكوين أجيال من المؤرخين. ما من أطروحة في حقل التاريخ منذ أن شرعت الجامعة المغربية في مناقشة الرسائل والأطاريح الجامعية إلا وكان السي إبراهيم عضوا في مناقشتها أو مرجعا من مراجعها أو مسهما في توجيه صاحبها. وما من طالب كان يهم بتسجيل أطروحة في التاريخ إلا ولجأ إلى السي إبراهيم ليرشده ويوجهه، إلى درجة يمكن القول معها إن إبراهيم بوطالب ساهم إلى حد بعيد، إلى جانب زملائه محمد حجي ومحمد زنيبر وأحمد التوفيق، في رسم معالم خريطة البحث التاريخي في المغرب.
في سنة 1967 ركب إبراهيم بوطالب مغامرة ناجحة إلى جانب زملائه، ومن بينهم برينيون وعبد العزيز أمين و برنارد روزنبرجي، عندما ساهم في كتابة “تاريخ المغرب” باللغة الفرنسية. كان الراحل يرى أن إعداد مثل هذا الكتاب يعد أساسيا في هذه المرحلة من التاريخ المغربي. كتاب يستحضر خصوصية التاريخ المغربي وغناه، كتاب لا يضع ما أنجزه الغرب واجهة للتصارع، بل فضل النقاش الهادئ مع الأطروحات الاستعمارية. وأعتقد أن هذا الكتاب شكل محطة مهمة في الكتابة التاريخية المغربية. ورغم أنه أنجز بعد عقد من استقلال المغرب إلا أنه لا يزال يكتسي راهنية. كتبه مؤلفوه بنفس المدارس التاريخية الأوربية، لاسيما الفرنسية دون إدعاء.
وبالإضافة إلى هذا الكتاب، انخرط إبراهيم بوطالب في مشاريع مواطنة كالإشراف على مجلة هسبيريس تمودا منذ سنة 1989، وترك بصمته على المجلة عندما أصبحت مفتوحة للأقلام العربية. لقد كان الراحل مقتنعا بضرورة الإسهام في إنتاح بحثي باللغة العربية. كما انخرط إلى جانب زملائه في وضع الموسوعة المغربية معلمة تاريخ المغرب الذي ظل حريصا على إصدار كل إعدادها لا سيما عندما ترأسها بعد وفاة زميله المؤسس الأستاذ محمد حجي. وكتب فيها ما يزيد على الأربعين مادة. وعندما نودي عليه للمساهمة في هيئة الانصاف والمصالحة لم يتردد ولو لحظة واحدة. فأطر العديد من الموائد المستديرة المتعلقة بتنزيل توصيات هذه الهيئة.
أسهم إبراهيم بوطالب في مجال الترجمة فترجم العديد من الدراسات إلى اللغة العربية ، فمن اللغة الإنجليزية ترجم كتاب “الحماية الفرنسية من الأوج إلى الأفول” للمؤرخ الأمريكي وليام هواسنكتونWilliam Hoisington و»الإدارة الفرنسية للبادية المغربية 1912- 1956» للمؤرخ روبين بايدويل Robin Bidwelle .
تعرفت على السي إبراهيم بوطالب في مقامات متعددة، وفي كل مقام كنت لا أزيد سوى تقدير للرجل. تعرفت عليه في ندوات متعددة في كلية الآداب بالرباط منذ سنة 1981 التي نظمت فيها ندوة الإصلاح والمجتمع. كانت الأسئلة التي يطرحها أثناء المناقشات وأثناء مداخلاته تنبئ عن سعة المعرفة والاطلاع. لمن الإصلاح وممن الإصلاح؟ سؤال شغل باله وطرحه على بساط المناقشة. ثم تعرفت عليه عن قرب عندما رافقته في أول جامعة خريفية إلى الريصاني سنة 1989، على هامشها أتيحت لي مجالسته، وهو من شجعني على نشر وثائق عثمانية في مجلة هسبيريس تمودا. وزادت علاقتي به توطدا عندما كان يتردد على فاس التي كان يحب أن يقضي بها الخريف للاستحمام في حامة مولاي يعقوب. وكنت أستغل الفرصة لأدعوه للمحاضرة في جامعة فاس. وتوجت هذه العلاقة بعضويته في مناقشة أطروحتي حول المغرب والباب العالي التي نشرتها في تونس سنة 1998، وكانت مهداة إلى ابراهيم بوطالب.
عندما سعى إلى توسيع الجمعية المغربية للبحث التاريخي في جامعة فاس كنت ذراعه الأيمن، وتمكننا من تنظيم أول أيام وطنية للجمعية المغربية للبحث التاريخي في جامعة سيدي محمد بن عبدالله (نشرت أعمالها بعنوان «الجبل في تاريخ المغرب» من تنسيقي بمعية زميلي المرحوم محمد مزين). تنسجم هذه الرغبة في توسيع الجمعية مع ضمان انفتاحها على الباحثين الشباب ومن كل الآفاق. كان إبراهيم بوطالب مهووسا بالإشعاع الدولي للجمعية أيضا، ومن ثمة دوره البارز في انضمامها إلى الجمعية الدولية للتاريخ سنة 1998.
ولما كنت أفكر في الانتقال من جامعة سيدي محمد بن عبدالله في فاس إلى جامعة محمد الخامس في الرباط (1998)، كان دعمه قويا وكان سندي دون قيد ولا شرط. كما الأمر عندما توليت مسؤولية عمادة كلية الآداب. وأعتز اليوم أنني عندما أنهيت أشغال بناء مدرجين في كلية الآداب –العرفان- سميت واحدا منهما باسم إبراهيم بوطالب تكريسا لثقافة الاعتراف ونبذا لثقافة الجحود، عندما أخبرته بذلك رأيت في عينيه سعادة أسعدتني.
عندما أصبحت مساهما في هسبيريس تمودا منذ سنة 2007 أدركت حجم العمل الذي يقوم به الرجل، ووقفت على حرصه على الرقي بالمجلة، وزاد حماسه عندما قرر فريق العمل الدخول في مسلسل اعتماد المجلة دوليا، وقمنا سويا بكل الشروط التي يتطلبها الاعتماد الدولي واستوفيناها منذ سنة 2009. أدركت حجم العمل الذي يقوم به الرجل من خلال مراجعات الكتب التي قدمها في مجلة هسبيريس، وهو ما يبرز المتابعة الحثيثة لما كان يصدر خارج المغرب في حقل الدراسات التاريخية المتعلقة بالمغرب بمختلف اللغات من الإسبانية إلى الفرنسية إلى الإنجليزية ثم إلى الألمانية. لقد كان السي إبراهيم يتقن كل هذه اللغات بالإضافة إلى اللاتينية والإغريقية. ومع أنه كان يتقن هذه اللغات كلها إلا أنه كان شغوفا باللغة العربية مدافعا عن الإنتاج بها، وعندما طرحت مسألة تقنية في الاعتماد تمس بطريقة إصدار النصوص العربية اعترض بشدة.
في سنة 2012 باشرت كلية الآداب والعلوم الإنسانية مشروع إصدار مجاميع المقالات والدراسات التي أنجزها أساتذة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، وكان أول مجموع فكرت فيه أعمال السي إبراهيم بوطالب. وعندما دعوت الزميل عمر أفا لينسق هذه العملية معه، كنا نعول على نشر كتاب في مجلدين، ولكن انتهينا إلى نشر عمل من أربعة مجلدات صدرت سنة 2014، وهو ما يعكس كثافة الأعمال التي أنجزها الراحل، بالرغم من انشغالاته الأكاديمية المتعددة لا سيما الإشراف على الأطروحات والرسائل الجامعية. في هذا المجموع يقف القارئ عند تنوع اهتمامات الرجل، لقد كان مسكونا بهاجس المصطلح ومن ثمة تناولت أبحاثه أسئلة في تدقيق بعضها كـ»البرجوازية» و»المجتمع المدني». وكان يتحفظ على استسهال ترجمة بعض المصطلحات إلى اللغة العربية دون الانتباه إلى مزالق هذه الترجمة، لقد فضل الحفاظ على استعمال كلمة «باسيفيكسيون» عوض كلمة «التهدئة» التي درج العديد من المؤرخين على استعمالها لتسمية المرحلة الأولى من الوجود الفرنسي في المغرب ما بين 1912- 1934. كما كان مهووسا بالزمن الراهن قبل أن يصبح «تاريخ الزمن الراهن» على طرف كل لسان، فانخرط في دراسة شخصية الحسن الثاني والمهدي ببركة وعبد الرحيم بوعبيد، وخصص في هذا الكتاب اثنتي عشرة دراسة مخصصة للمرحلة الممتدة ما بين 1956- 1999. أما زمن بحثه المفضل فقد كان فترة الحماية، فقد تناول دراسة المقاومة المغربية والحركة الوطنية وأحداث يناير بفاس 1944. وعلاوة على ذلك كرس جزء من أعماله للقرن التاسع عشر، وربما كان البحث في القرن التاسع عشر نتيجة لدافعين اثنين، الأول ذا طابع منهجي، فهو مقتنع تمام الاقتناع أن تاريخ القرن العشرين في المغرب بشقيه الحماية والاستقلال لا يمكن أن يفهم إلا بفهم تاريخ القرن التاسع عشر بكل تعقيداته. والثاني، يرتبط بإشرافه العلمي على العديد من الأطروحات التي همت القرن التاسع عشر المغربي. ومن بين الاهتمامات التي يقف عليها قارئ هذا المجموع اهتمامه بتراث المرحلة الاستعارية الذي خصص له بحثا بعنوان “البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي في الفترة الاستعمارية” وذيله بقائمة بيبليوغرافية طويلة تفيد البحث للتاريخ الثقافي للفترة الاستعمارية.

عميد سابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط
الرباط 11 مارس 2022


الكاتب : عبدالرحيم بنحادة

  

بتاريخ : 05/04/2022