المشهد الصوفـي (3) مهرجان سيدي قدور العالمي بين الاحتفالية والتنقيب عن التراث المطمور بمكناسة الزيتون

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

 

صففت طويلا – وبكل حرارة – عندما استدعيت للحضور إلى «المهرجان الأول» لسيدي قدور العلمي الذي نظم في بحر الثمانينات من قبل ودادية رؤساء المصالح الإدارية لإقليم مكناس، استجابة لما يكنه سكان المدينة الإسماعيلية من مشاعر الاعتزاز والفخر، وما تحمله الصدور من عطف وتكريم لنجوم هذه المدينة الإسماعيلية من أبنائها البررة ورجالها الأفذاذ، من علماء، وأدباء ومصلحين اجتماعيين، وشعراء زجالين، وغيرهم من الذين أدوا ما عاهدوا الله عليه من واجب ديني، ووطني، وعلمي، وفني، وأدبي، مكن مدينتهم الخالدة من الاستمرار الحضاري، ومن تثبيت وجودها التاريخي على مر العصور .
نعم، فلقد شعرت بشعور خاص، وأنا أتلقى رسالة الدعوة للمشاركة في هذا المهرجان من طرف السيد رئيس الودادية الذي طوقني بحزام من التقدير والتكريم، وبوأني منزلة رفيعة الشَّأن، تجعلني كزملائي الباحثين في فن الملحون، أدلي بدلوي بين الدلاء، وأسهم – أنا الآخر – إسهاما متواضعا في الكشف عن بعض الجوانب الفنية والأدبية في شخصية شاعرنا الملهم، سيدي عبد القادر العلمي – رضي الله عنه.
إنه شاعر فذ يأتي – بدون منازع – في طليعة أعلام الملحون الخالدين، ومن أولئك الذين اعتز بهم هذا الفن الأصيل عبر العصور والأحقاب، وإلى اليوم يفاخر المغرب بإنتاجاتهم الأدبية المتنوعة، كما يباهي – أيضا- بمواقفهم الاجتماعية، والدينية، والوطنية والثقافية، إنها مواقف قد ظلت تسقي عروقها محبة العامة لهذه الإنتاجات الأدبية، وتعلقهم بشاعرهم الموهوب، والتفافهم حوله في السراء والضراء، وفي الأفراح، والأتراح .
وإذا كنت أومن بأن «مهرجان سيدي قدور العلمي الأول» قد جمع في مواده الفنية والأدبية بين «الاحتفالية، وبين التنقيب عن التراث المطمور بمكناس»، فإن العروض الثقافية التي شهدها هذا المهرجان – بالخصوص – قد كشفت عن الدور الكبير الذي لعبه في مجتمع مكناس، كل من الشاعر وجماعته الشعبية العريضة وعلى طول المدد والأحقاب التي عايشها فن الملحون .
ظلت هذه الجماعة مخلصة للعلمي، وظل العلمي نفسه مخلصا ووافيا بالتزامات هذه الجماعة، وما يتطلبه الإنتاج الأدبي الذي كان غذاء روحيا وثقافيا لمشاعرها، وتنشيط وجدانها. كان ما يقدمه العلمي من شعر زادا تنمو به معارف جماعته، وبه كان يزداد فهمها للحياة التي تحياها، وتعاني ما تعاني منها، ومن كدوراتها وضائقتها. كان حقا العلمي – فوق ما ذكر – يلعب دور الوسيط الفعلي بين جماعته، وبين علماء وفقهاء، وأدباء عصره. فهؤلاء يتزود منهم ومن مجتمعهم في حلقات المسجد، وفي رحاب الزوايا، وبداخل الدور والمنتدى، وفي جنبات «الحلقة الشعبية» وفي غيرها. نعم، تجد العلمي يقدم زاده الصوفي المتنوع إلى جمهوره الغفير، في جو من الثقة، ومن المودة والحب الخالص. ونستطيع أن نشبه العلمي وهو بداخل مجموعة من الشرائح الاجتماعية بنحلة داخل شهدها، وفي مسارحها التي تتنوع وتختلف موادها. إذن، فالنحلة – في جميع الأحوال- لا تحاسب على ما تنتجه من عسل مصفى ، وإنما على مرعاها الذي ترعى وتسرح فيه، وهو الذي يرفع من قيمة عسلها أو يحط منه. ونقصد بالمرعى – في مثلنا هذا – ذلكم المجتمع – بجميع ألوانه المعرفية ومشاربه الفنية – الذي يرعى فيه الأديب الشعبي، ويستمد منه المادة الأولى الثقافية التي يبسطها تبسيطا، ويقربها من جماعته الواسعة ليستساغ فهمها، وتدرك مقاصدها وأهدافها، لما تتلقاه بواسطة الثقافة العالمة وتعانق فيها الحياة بالصور الزاهية التي رسمها الشاعر بالكلمة والمعاني الرصينة، والمنغومة .
ظهر العلمي في صفو ف الزجالين الذين تغنوا بأمجاد الدولة العلوية الشريفة، وخلدوا ملاحم رجالاتها وعظمائها، بل من أولئك الذين دونوا الكثير من معارك حروبها، ومن دفاعها المستميت عن العقيدة والعرش.
كما كان يعد العلمي في حظيرة أهل الملحون من الذين قربوا للعامة مجال «التصوف» وبسطوا معانيه الأخلاقية، وآفاقه الدينية البعيدة، واتخذوه وسيلة من وسائل تنشيط الوجدان الديني، والاجتماعي ، ودعوة الناس عامة إلى التشبث بمكارم الأخلاق، وبسيرة الأولياء والصالحين، وذكر مناقبهم، وكراماتهم، وذلك عن طريق ما كان ينشد في المحافل الشعبية مما يعرف في حظيرة أهل الملحون بقصائد الجمهور».
لقد اصطنع العلمي لهذا الغرض من القوالب الفنية، والإبداعية، ما جعل سواد الشعب من أبناء أمته يحس بطرب شعره، وبتدفق معانيه وجلالها، وتقريب ذلك من مشاعرها ومداركها. ولهذا فلم يسبقه شاعر من شعراء الملحون، أو فحل من فحولهم إلى هذه الصولة. وهذا المقام الرفيع، ولاسيما ماكان يتعلق بأدبيات الحكمة والتصوف، وسبر أغوار النفوس، وتوظيف دخائلها، وإفادة جمهور عريض من هذه الألوان الأدبية، والتي جاءت من السهل الممتنع. وعلى غرار المدرسة الأدبية التي تزعمها أبو العتاهية، الشاعر العربي المعروف بزهدياته وبتزهده. إذن، فشاعرنا العلمي بهذه المنزلة الأدبية الرفيعة، كان يعد – في وقته– متنبيء الملحون، وخليق بعظيم مثله أن تقام له «المهرجانات» بقصد البحث والتنقيب في تراثه، وأن تقام له «الندوات» الثقافية، والفكرية، والفنية، التي يعرف فيها بإبداعاته وبفضله على أهل هذا الفن الشعبي المغربي الأصيل، وأن ينوه – أيضا- بتصوفه وبتجربته الحياتية، وبنبوغه وعبقريته.


الكاتب : عبد الرحمن الملحوني

  

بتاريخ : 05/04/2022