سنركز على أهم مساجلة فكرية دارت رحاها بين الشيخ أبي عبد الله محمد اكنسوس وغريمه أحمد البكاي ضمن مجال مراكش وبلاد شنقيط و خصوصا منطقة الأزواد و بلاد السودان، حتى تتماشى هذه الورقة البحثية مع مناسبة تكريم الأستاذة الفاضلة زهرة طموح التي قدمت الكثير للبحث العلمي الرصين في محاضراتها وكتبها الفردية والجماعية حول الجنوب المغربي وبلاد السودان الغربي ضمن تيمة الدين والتصوف. ونرى بأن أهمية اختيار نموذج المساجلة الفكرية بين أكنسوس وأحمد البكاي رهين بكون الأجوبة التي قدمها أكنسوس كانت كافية لشد المريدين الكنتيين رحالهم إلى الطريقة التجانية التي ستنتشر بشكل أوسع في مجال شنقيط وبلاد السودان، حيث سينفرد مجال شنقيط بخاصية تشبت المريدين بجوهر التجانية وآداب الطريقة الكنتية. تحاول مساهمتنا البحثية هذه الإجابة عن إشكالية مفادها إلى أي حد ساهمت المناظرة الفكرية بين أبي عبد الله محمد اكنسوس وأحمد البكاي في انتشار الطريقة التجانية بشكل واسع وحصر الطريقة القادرية في مجال شنقيط وما وراء نهر السينغال؟
خلاصة وتركيب:
يتضح من خلال مقارنة مضامين المراسلات المتبادلة بين محمد أكنسوس وأحمد البكاي أن المبادرة في إعلان هذا السجال اتخذها هذا الأخير وأن الغاية منه كانت هي وضع حد للنزيف الذي وقع على مستوى مريدي الطريقة القادرية الذين ارتدوا عليها والتحقوا بركب التجانيين في غرب إفريقيا، وقد انتبه أحمد البكاي إلى الخطر المحدق بطريقته والآتي من المغرب مقر الزاوية الأم للطريقة التجانية مما حدا به إلى نقل فتيل هذا الصراع الطرقي إلى مراكش حيث يتواجد محمد أكنسوس المؤرخ والأديب والمتصوف الذي ذاع صيته في الدواليب المخزنية وعند علية القوم باعتباره لسان الطريقة التجانية و واحد من طبقتها الثانية. فهل أحسن أحمد البكاي الاختيار حين راسل محمد أكنسوس كعنصر رئيسي ضمن هذا السجال الذي رجح في النهاية كفة التجانيين على القادريين ؟ سيما أن الأسلوب الذي اعتمده كان يهدف إلى استمالة أكنسوس إلى الطريقة التجانية مما سيخلق صدعا في هذه الأخيرة ويساهم لامحالة في وضع حد للامتداد التجاني في غرب إفريقيا بقيادة الحاج عمر الفوتي. وقد أبان هذا السجال على مدى التواصل الثقافي والحضاري بين بلاد المغرب وبلاد السودان وتمكن المغاربة، في شخص أكنسوس، من علوم الظاهر والباطن وامتلاكه لناصية اللغة العربية الفصيحة التي تأتت له بناء على إلمامه الواسع بمعاجم اللغة العربية وكتب المالكية وحفظه لأقوال الصوفية الكبار التي ظل يستشهد بها في كل سطور مضامين رسائله، وهو ما ارتقى برسائله هذه إلى مستوى مرجع مهم بالنسبة للتجانيين حيث بدؤوا يستدلون به على المنكرين على مقولات أحمد التجاني و مريديه من الطبقة الثانية من التجانيين. والملاحظ أن الغايات وراء مراسلات أحمد البكاي قد جاءت بما لم يشتهيه، فقد تسببت في ترحيل مريدين، عمروا لعقود من الزمن في الطريقة القادرية، إلى الطريقة التجانية سواء في السودان الغربي أو المغرب حيث فاق عدد التجانيين في مراكش عددهم في باقي مدن المغرب وهي الشهادة التي أدلى بها أحد الأجانب المختصين في التاريخ الديني. ولابد من التأكيد على مسألة جد مهمة تتعلق بدور أجوبة أكنسوس في إشعاع طريقته في القطر السوسي، الذي كان ناصريا بامتياز، وهو ما حدا بالتمكديشتين إلى توخي الحيطة والحذر عند إجابتهم على فتوى بخصوص الورد التجاني مخافة أن يحدث شرخ على مستوى طريقتهم الناصرية.
لقد أصبح أكنسوس بعد ذيوع أجوبته لسان الطريقة التجانية، بل ومرجعا مهما للاستدلال به في المجالس العلمية، كما سيرتبط اسمه فيما بعد بثلاثة أعلام من الطريقة أخذوا عنه كان لهم دور كبير في اتباع منهجه للرد على الخصوم وهم : الحاج سعيد الدراركي و الحاج الحسين الافراني وأبو علي بن الطيفور السموكني الذين سيتمكنون في وقت قياسي من نزع القداسة عن شيوخ الدرقاوية والناصرية لفائدة التجانيين.
وعلى الرغم من عدم كشف بعد القادريين على تغييرهم انتمائهم الصوفي وانخراطهم في الطريقة التجانية فإن أحداث القرن التاسع عشر ستكشف أن العديد منهم سيجهر بهذا التصدع في طريقتهم وهو ما دفع بمحمد أكنسوس إلى القول في أحد أجوبته « وأما الصحراوي … فإنه مازال نازلا عند الناظر… وقد ظهر أنه كنتي الطريقة، إلا أنه تظاهر بالتجانية الكريمة كغيره من أبناء جنسه، ومازال ملازما لحضور الوظيفة وموالاته ومخالطته لأولئك».
وخلاصة القول فإن امتلاك أكنسوس لناصية اللسان العربي والأمازيغي ودربته في المجال السياسي وفضه لعدة نزاعات في المجال السوسي لفائدة بسط الطاعة للمخزن كلها مؤهلات أهلته لتقديم أجوبة مهمة لغريمه أحمد البكاي و هو الأمر الذي ساهم في نشر الطريقة على نطاق واسع تجاوز حدود بلاد المغرب إلى ما وراء نهر السينغال.
ختاما لما سبق لم يكن جواب محمد أكنسوس نهاية لامتحان التجانيين في مدى مصداقية أقاويلهم وصحة مسلمات أحمد التجاني فخلال الفترة الاستعمارية سوف يتمكن الجناح الدعوي للحركة الوطنية والمتمثل في الحركة السلفية من إعادة فتح ملفات محرجة للتجانيين سيما ما يتعلق بمدى صحة ما ورد في كتاب «جواهر المعاني» وإمكانية انتحال علي برادة من سيرة أحمد بن معن وهو ما سيثيره من جديد أحد مقدمي الطريقة التجانية بمراكش يتعلق الأمر بمحمد بن عبد الواحد النظيفي الذي قام بتأويل صلاة الفاتح معتبرا إياها قديمة على القرآن مما جر التجانيين إلى المحاكمة على يد علماء القرويين وعلماء الازهر وجامع الزيتون كما تم تداول هذا الخبر في الصحف الجزائرية ووثائق الأرشيف الديبلوماسي بنانط وذلك بأمر من السلطان سيدي يوسف.