من متاهات سقوطنا…

 عبد اللطيف بلمعطي (*)

 

منذ أن شهد العالم الإسلامي بدايات اختلال توازنه أمام الغرب المتمثل في أوربا منطلق القرن 15، وذلك بعد أن رجحت كفة ميزان السيطرة على مجال البحر الأبيض المتوسط منه، لصالح هذا الأخير؛ تملك هذا العالم خطاب استفهامي استنكاري، ركن في جملة مآلات انهياره إلى متلازمة فقدان الاستقامة والخروج عن مفاهيم العقيدة الحقة وفساد القيم… كأسباب رئيسة لواقع نكستنا التي طال زمنها بطول زمن التركيز على هذا الخطاب الزئبقي.
وحتى لا تفهم مقالتنا خارج إطارها التاريخي لتأول عكس المراد لها، الذي يحاول تقديم بدائل تكون منطلقا لإعادة فتح النقاش من جديد. كما أننا لا نجزم القول من أن هذه الرؤية التاريخية هي جديدة طرحها، بقدر ما نظن أن الكثيرين ممن تملكوها كقناعة، قد أثروا مناقشتها داخل المنابر الأكاديمية. وعليه، فمقالتنا لا تزيد عن فكرة مناقشة رؤية تاريخية لموضوع اختلفت فيه الأقلام باختلاف مشاربها المعرفية.
إن مسألة سقوطنا كحضارة تملكت مفاتيح العالم زمن ما، لم تكن من وجهة النظر المطروحة في هذا القول، منحصرة في أمور أخلاقية صرفة أو استقامة كنا عليها، وبزوالها زال عنا ما كان بيدنا من مفاتيح خزائن العالم. بل وعلى العكس من ذلك، وفي مقابلة تاريخية يعلمها كل محايد دارس للتاريخ، موجزها أنه يوم غلبة استقامتنا وحسن أخلاقنا على شرنا –إن صح القول-، كانت حدود رقعتنا الجغرافية لا تجاوز بضعا من آلاف الكيلومترات في اتجاهات مختلفة، ولم تكن لنا يومها أدنى فكرة عن إمكانية تملكنا تجارة العالم والتحكم في سيرورتها؛ غير أنه ومع بداية استفحال الفتن بين ظهراننا، وانتشار أزمات التنازع حول الحكم التي وصلت في غير مرة من تاريخنا إلى مستوى المكر والاقتتال والاغتيال… بدأت توسعاتنا في اتجاه أقصى المجالات المعلومة يومها.
لقد سار واقع تاريخنا بداية من هذه اللحظة بتوافق مع المفاهيم العسكرية والاقتصادية التي ميزت بناء مفهوم الدولة الوسيطية، والتي عاشت عليها جل الحضارات التي عاصرناها زمنئذ، كالرومان وغيرهم من بقايا الحضارات القديمة. فكان السيف في محطاته الضرورية نموذجا للقوة العسكرية، وكان الاستحواذ على المواقع المركزية التجارية نموذجا للسيطرة الاقتصادية، الشأن الذي لم يكن بالجديد على العالم يومها، فكل الحضارات الوسيطية كانت تبسط نفوذها بهذا النهج، عسكريا واقتصاديا، ولم يكن المسلمون يومها بمعزل عن واقعهم المجتمعي الوسيطي. وفي هذا الإطار انطلقت شرارة ما عرف في المصادر التاريخية بمفهوم “الفتوحات الإسلامية” التي عبرها انتشر الإسلام بسرعة قياسية، فأمكنت المسلمين قدرة كسب موارد اقتصادية جديدة مهمة، وضبط لاستراتيجيات المجالات المتملكة من خلال قوة مراكزها التجارية.
وباعتبار أن أصل الخلافة الإسلامية أرض قريش التي عرفت تاريخيا كأحد أهم المراكز التجارية التقليدية، فإن التجارة التي كانت سيدة الفكر الاقتصادي خلال الفترة الوسيطية، لم تكن بالجديدة على المسلمين ولم تكن مسألة الانخراط فيها بمواصفاتها العالمية زمنئذ بالمستعصية عليهم، بل أجادوا ممارستها بنهج أسلوب الوساطة التجارية المعروف عنهم، وذلك بعد أن تملكوا الخطوط التجارية الرابطة بين أقصى الشرق الأسيوي والغرب الأوربي. فكان مرور تجارة الأجانب على مجال الأراضي التي أضحت فيئا للمسلمين، يقتضي بالضرورة تأدية الضرائب البرية التي سَتُكنز في ما بعد بيت مال المسلمين. كما استطاع هؤلاء في لحظات من الزمن أن يضعوا يدهم على مرتكزات الاقتصاد الوسيطي، لتخول لهم هذه الأخيرة إمكانيات اقتصادية انعكست إيجابياتها على الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية… فعاشت دولة الخلافة أزهى مراحلها التاريخية التي لم تعشها من قبل. بعودتنا لصلب الموضوع ولضيق مجال الكتابة نُعيد قول ما بدأناه قصدا، من أن مسألة انهيار العالم الإسلامي التي بدأت من القرن 15 وتجلت واضحة معالمها زمن القرن 19؛ لم ترتبط في حيثياتها بقضية الاستقامة وكذا لغة الأخلاقيات من القول؛ بقدر ما كانت شديدة الارتباط بمسألة فقداننا قدرة الحفاظ على المكانة الاقتصادية التي تملكها المسلمون، وكذا تكييف هذه القدرة ومستجداتها التطورية يومها.
كما أن مسألة الصراع التقليدي الذي جمع الخطاب النقلي بمقابله العقلي، قد كان له الأثر فيما سارت إليه أحوال الأزمة يومها، خصوصا ما ارتبط بهذا الصراع من سجَالات تقديم حلول اختلفت باختلاف القناعات المرجعية للخطابين. وكذا الكيفية المعلومة التي انتصر من خلالها النقل على العقل بإيعاز من السلط الحاكمة، التي وجدت في مضامين الأول قبضتها، فصنعت من خلاله فقهاء نكصوا خدمة لها، الخطاب العقلي؛ وبرروا للعامة هذا التنكيص بمبررات دينية. لتتملك السلط الحاكمة من خلال هذه القوة الخطابية شرعية حرق بعض كتب التوجه العقلي التي تضمنت حلولا للأزمة بمنظورات مادية، ووأد بنات أفكاره، بل واتهمت علماءه بالزندقة والردة والهرطقة… “فكما أنه ليس من صالح الوصيّ أن يبلغ الأيتامُ رشدَهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعيةُ بالعلم”، على حد قول عبدالرحمان الكواكبي.
ولعل المعاب تاريخيا في نظرنا القاصر تجاه بنية عقل السلط الحاكمة يومها وما أحاط بها من وقع مقترحات النقليين، هو عدم التركيز تفكيرا على الأسس المادية للأزمة، وكذا التقليب في جوانبها علنا نجد علتنا فيها. فبالرغم من تملكنا زمام التجارة العالمية ووصولنا سيطرة إلى منابع تجارة الشرق الأسيوي، لم ترق مستويات تفكيرنا الاقتصادي خارج إطار عملية حمل بضائع هذه المناطق وتسويقها في مناطق أخرى، في رحلة شبيهة لما كان عليه الحال زمن التجارة القريشية قديما. لقد كانت أرض الشرق الأسيوي حمالة عجائب وغرائب لم تكتشف إلا بوصول الغرب إليها، والاستفادة والافادة منها (المطبعة، صناعة الورق، والبوصلة…) هذه الأخيرة والكثير منها ستكون أحد أساسيات بداية انقلاب موازين القوة لصالح كفة الغرب. فالمحيط الأطلنتي الذي ظل مجهول السواحل الغربية منه، وكان أمل خوض غماره مفقودا؛ سيصبح في اللحظة التي بدأ فيها العقل الأوربي هدم ركائز الوساطة الإسلامية، ورفع وصاية نقليات الكنيسة عليه؛ مجال إبحار للمغامرين الأوربيين الذين جعلوا من الخرائط وثقافة الملاحة القديمة منهجا جديدا في تعاملهم مع البحر بدل منهج الكنيسة. فوجدت سفن الكرافيلا بعد اختراقها هذا المحيط طريقها نحو الشرق دون وساطة للمسلمين، وطريقها نحو الغرب حيث الذهب وفضة العالم الجديد… فصنعت من كليهما مجدها الحالي.
صفوة ما أريد له القصد في ثنايا هذا المقال، هو أن سبل البحث عن كيفيات خوض مستقبلنا الرأسمالي اليوم، بالصيغ المشابهة لتملكنا زمام الأمر فيما مضى؛ تقتضي بالضرورة منا فهم تاريخنا بمعزل عن لغة العواطف التي لازمتنا ردحا من الزمن، وألزمتنا حيث نحن منذ بدايات طرحها كخطابات تبريرية لأزمتنا. ثم إعادة قراءة سجَالات صراع نمط تفكيرنا بين خانتي النقل والعقل، وكذا البحث بجرأة عن الأسباب الرئيسة لترجيح كفة الواحدة على الأخرى والغاية من ذلك، وإعادة ترتيبها بما تقتضيه اللحظة الاقتصادية اليوم… إذاك يمكننا أن نتصالح في خطوة أولى مع ذاتنا، ثم نوحد الرؤية بما يتوافق وسيرورة النظام العالمي خصوصا في جانبه الاقتصادي في خطوة ثانية.
سقوطنا كقوة اقتصادية، لم يكن رهين ما سوق له ضمن ثنايا الخطاب التقليدي، الذي ركن إلى علة فقداننا مفاهيم الاستقامة الروحية والأخلاقية؛ بقدر ما كان نتيجة تهميش ركيزة طبيعة التحولات الاقتصادية المادية العالمية وكذا نسف العقل وحلوله في كثير من المرات وقمع رجالاته.
( *) أستاذ التاريخ والجغرافيا بسلك الثانوية التأهيلي، وطالب باحث بسلك الدكتوراه جامعة ابن طفيل، القنيطرة.

الكاتب :  عبد اللطيف بلمعطي (*) - بتاريخ : 13/04/2022

التعليقات مغلقة.