المشهد الصوفـي (11) أحوال غريبة من سيرة الشيخ العلمي

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.
نعم، إن هذه المرويات التي تروى حول بعض شعراء الملحون على اختلافها في بعض المدن المغربية لا يزال يحفظها أهل الملحون بالتواتر، جيلا عن جيل، مما يجري في كل منتدى من منتدياتهم، وفي كل محفل من محافلهم. إنها مرويات تكشف عن خفايا إنتاجات هؤلاء المبدعين، وعن ألغازها، ومعمياتها، بل من أجل العمل على تقريبها من الأذهان، والأذواق، فيحاول الدارسون، والباحثون، تقديم ذلك سهلا ومبسطا إلى جمهور عريض من القراء والمولعين بفن الملحون؛ في كل غرض من أغراض القصيدة الزجلية –على تعدد أشكالها الفنية، وأجناسها الأدبية -. ومن الأسماء اللامعة في هذا الفن، اسم قد ظل– في كل وقت وحين- تردده الشفاه وتستشهد بمعانيه العقول والأرواح، بل يرن صدى بدائعه وروائعه في كل وسط من الأوساط، في الغدو ، والرواح.

 

تحكي الذاكرة الشعبية عن العلمي أحوالا كثيرة ومختلفة، ومع ذلك لم تستطع الذاكرة الشعبية التي تروي هذه الأحوال أن تحفظ لنا مشاهد منها ، لأنها ربما كانت في وقتها أحوالا لا تنضبط عند صاحبها ولا تلازمه في معظم أوقاته مع الناس بالمعاينة . وكما حكوا عنه – أيضا – الكثير من أحوال «الوصول» أو «الشهود « وهي أحوال قد هاجمها بعض المتصوفة، واعتبروها خرافة من خرافات الخارجين عن التصوف السليم. ويتجلى للقارئ في ديوان العلمي – الجانب الصوفي –ما تتراءى منه معا لم هذه الأحوال من بعيد غير واضحة، كما تقدمها الكلمات، وتشخصها معاني قصائده في هذا المجال وذاك !.. وقد ينطلق ذلك من اعتبار شعور العلمي بما يتخيل، وبما يتفاعل به – أيضا- مع نفسه ومجتمعه. فهو في هذه الأحوال كلها يعتبر النفس معدنا يجب تطهيره من جناية الخلق الذميم، ذلكم الخلق الذي تصدأ به النفس وتبتعد عن هديها  وجوهرها وتقويمها، فهو يدعو إلى تصقيل النفس الأمارة بالسوء وتنظيفها مما يعلق بها من الرياء والتطاول على الحقوق. وكان العلمي لا يسمح لنفسه بإتيان أمور ينكرها العوام والوقوف – أيضا – عند كل ما ينفر الخلق الحسن، كالتظاهر بالجنون ، أو ارتكاب المحرمات، أو بعض مظاهر الغفلة كما كان يفعل بعض أولئك الذين يعتلون نفس المنبر الذي اعتلاه، والذين يقومون – أيضا -بنفس الدور الذي كان يقوم به وسط الجماعة الشعبية العريضة. وكيفما كان الأمر، فإن الحالة الملازمة للعلمي – رحمه الله – ، هي حالة صاحب «الحال» الواعي بحاله، حال لا تخرجه عن المعهود في سلوك الناس، ولا عن المعقول من تصرفات الجماعة التي تحيط به، وحتى لا يختلط الأمر – حينئذ – بين من خرج بحاله حين طوره لوارد حال بفعل «الجذب»، وبين من كان خروجه عن ذلك الطور من مس الجن، وهذا ما كان يتسامى عنه حال العلمي. ويتحاشى حال «لَمْسَطِّيْن» أي الممسوسون والمعتوهون. فظاهر الرجل كباطنه، وهذا ما تجليه جل قصائده التي بين أيدنا إلى اليوم. نعم، فهو يتزيا بزي من لا يداهن نفسه ومجتمعه، مشغولا بالطاعة، وعلى وعي بما يصيبه – أيضا- من نفسه ومجتمعه، عليم، وخبير بكل شادة وفادة.
– خلاصة لما يأتي :
إن هذه الأحوال المشار إليها تدفع الباحث إلى تشخيص آفاق البحث والتنقيب في شخصية العلمي من خلال شعره ومؤهلاته الاجتماعية والثقافية، وهي كالتالي :
* أولا : سيدي قدور العلمي من خلال الموروث الشعبي الشفاهي والمكتوب، مما اعتنت به كتب التراجم وسِيَر الأولياء والصالحين …
* ثانيا : مخزون «الذاكرة الشعبية» من خلال التراث الصوفي للمدينة الإسماعيلية في سياق تاريخها الطويل، وارتباط حياة العلمي بهذا التراث، ارتباطا روحيا، وثقافيا واجتماعيا …
* ثالثا : أثر هذا المخزون الصوفي في شعر العلمي، ومدى معانقته لمحتوى هذا المخزون الذي جمع بين الروايتين : المكتوبة، والشفوية …
* رابعا : رأي شعراء الملحون في شخصية العلمي، وفي إنتاجاته الأدبية، والفنية. وهذا الرأي له وزنه وبعده ونحن نؤرخ لهذه الشخصية الفذة ونتعامل مع كل المعطيات التي جمعناها من هذا المصدر وذاك، وروينا بعضها من هاته الذاكرة وتلك. ولعلنا نسبر بذلك أغوار هذه الشخصية الثرية، ونصل إلى مرمانا المنشود، ومبتغانا المقصود! وفي هذا السياق أطال بعض الباحثين الوقوف أمام اعرنا في إكبار وإجلال، وحاولوا أن يخرجوا جواهره وُدَرَرَه لينفعوا وينتفعوا. نعم وجدوا شعرا رفيعا في صياغته، حسن السبك، رصين العبارة، دافق العطاء في معانيه ومضامينه … وإلى جانب هذه الدلالة البلاغية، والفنية فهناك دلالة أخرى تحتضنها أفكار العلمي في الحكمة، والتصوف، ومن ورائها تجربة ثرية تجود بالصريح دون الرغو، وبالجد دون الهزل…
وهذه الدلالة المعنوية قد تفرد بها شاعرنا في وقته، فحملت معها بذور الخير إلى حظيرة الشعر الملحون من عهد العلمي، إلى زماننا هذا، بل إلى ما شاء الله تعالى … ولا مانع من أن نقول اليوم: إننا لم نتوصل – من شعره الغزير – إلا بالنزر القليل واليسير مما ينشد في محافلنا ومنتدياتنا، رغم ما تم جمعه بين دفتي ديوانه المطبوع.
فالأفكار التي حملها شعر العلمي – رحمه الله – ليست منفصلة عن الصياغة البلاغية انفصالا كليا، وليست كل دلالة التزامية ممكنة ذات وجه أدبي واحد، نأخذ به كمنطلق حين نريد أن نقارن – مثلا – بين شعره، وشعر بعض تلامذته. إذن ، فالصورة الشعرية الدائمة للعلمي، هي الجمعُ بين «الجسد» و «الروح» للقصيدة الواحدة …
فالجسد نعني به – في نقدنا – بناء القصيدة وما تختزنه من «طبوع» و «ميازين» … والروح نعني به ما يحويه هذا البناء من معان وأفكار سامية، تجود بها مواهب العلمي في كل عطاء من عطاءاته المتنوعة والمختلفة . وحين نجد وجه الشبه فيما يعرض علينا من أشعار، ونلمس الفرق بين شعري العلمي مثلا وبين أحد تلامذته. فإننا لابد أن نمعن النظر فيما يجمع بين الجسد والروح.
فهو امتداد حقا للعلمي، وتتجلى فيه روحه وأصالته ، ويتميز – أيضا- بجانب كبير وعظيم من عبقريته ومواهبه، وإن خالفه في أحد وجوهه، فهو لغيره، ولذا نقول – مرة أخرى :
إن كل دلالة التزامية ممكنة ذات وجه أدبي … إذن ، فهي تلزمنا بما تحمله «الصورة الشعرية» من خصائص فنية ومميزات. فإن كان الوجه البارز «جسدا» – كما اصطلحنا على ذلك سابقا – فإن الوجه المختفي هو «الروح» أو العكس، ولا يجتمع «الجسد» و «الروح» إلا في الصورة الشعرية التي اتقدت جذوتها من شعر العلمي، والتي منه قد تفجر عطاؤها وسرها. نعم، تفجر من معين مواهبه وقدراته ، دون تقريط، أو تبريص – كما يقول أهل الملحون .
***
إن التصوف في شعر العلمي – رحمه الله – يعتبر ظاهرة دينية قد أفرزها مجتمع متأزم، مجتمع خائف مضطرب، كان يواجه بها الخوف من المصير المجهول، وذلك عن طريق خلق علاقات تضامنية تعاونية، متمثلة في الطوائف، وفي الجماعات الدينية وقد كان الإحساس بالانتماء إلى «المشيشيين» عند العلمي يشكل مرحلة تطورية بين البناء الاجتماعي لكل من الطائفتين : الجزولية، وفي فروعها، والعيساوية  والحمدوشية ، وبين البناء الاجتماعي الديني الصرف الذي كان سائدا – يومه – في المجتمع المكناسي، ونستطيع
في عجالة سريعة، وجولة عابرة – أن نقول بأن بداية هذا التصور الديني في المجتمع المكناسي بصفة خاصة ، قد اقترن وجوده وجودا فعليا بالقرن العاشر الهجري، وهو القرن الذي نشطت فيه الطوائف الصوفية بالمدينة الإسماعيلية، وبخاصة عند الطائفتين : الجزولية، وفروعها، والعيساوية والحمدوشية . ويشكل الرابط بينهم ما كان معروفا عند الشاذليين الذين كانوا «النواة الأولى « لما ظهر بعدهم من طوائف دينية، وفرق صوفية تتكون من مجموعة من الناس تخلق تكوينا هرميا اجتماعيا يخدم – في الأساس – فئة الشيوخ خدمة استغلال وفي سبيل تسخير الجماعات والهيمنة على عقليتها وعوائدها …


الكاتب : عبد الرحمن الملحوني

  

بتاريخ : 14/04/2022