أمريكا والمغرب.. ضفتان في التاريخ وفي الأطلسي (3)

مشروع سيدي محمد بن عبد الله الإصلاحي وعالم القرن 18

كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدار البيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟.
إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.

 

 

كيف كان المغرب سنة اعترافه بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة مستقلة؟ وما موقعه ضمن فضائه العربي والإسلامي والإفريقي والمتوسطي وضمن النظام العالمي للقرن 18؟. ذلك أنه لا يمكن تمثل قيمة ومعنى أن تكون المملكة المغربية أول دولة في العالم تعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية (بولاياتها 13 حينها)، بدون تمثل السياق العام المحيط بنا كمغاربة حينها.
كان المغرب قد دخل منذ سنة 1757 ميلادية، تاريخ تولي السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) الحكم، ما يمكن وصفه بمرحلة التعافي من الفوضى السياسية والتدبيرية التي كبلت كامل الجغرافية المغربية منذ وفاة السلطان القوي مولاي اسماعيل سنة 1727 ميلادية، بسبب تداعيات الصراع على الحكم من قبل عدد من أبنائه، دام 30 سنة. وهي المرحلة التي تزامنت مع بروز قوى دولية جديدة، متحكمة في البحار، مثل بريطانيا العظمى التي شرعت في بسط سيطرتها على المحيط الهادئ، خاصة شبه الجزيرة الهندية منذ إنشاء شركة الهند الشرقية الإنجليزية سنوات 1601 و 1612، والذي سيتوج سنة 1774 بإصدار مجلس العموم البريطاني لما عرف ب «قانون التنظيم» الذي خول لها، بعد معارك هنا وهناك على امتداد سنوات، من وضع اليد مباشرة على كبريات الموانئ الهندية ومدنها خاصة بومباي ومدراس ودلهي. مثلما عززت من موقعها العسكري والتجاري بأروبا وبالبحر الأبيض المتوسط، حين احتلت جبل طارق الإستراتيجي سنة 1704. حيث شهدت المنطقة القريبة تلك من المغرب، على بعد 14 كلمترا فقط من شواطئه الشمالية بين تطوان وطنجة، مواجهات عنيفة بين الإنجليز وبين الإسبان المدعومين من فرنسا، لاستعادة تلك الصخرة من بريطانيا العظمى، كان من أهمها مواجهات سنة 1779 التي امتدت لثلاث سنوات، كان يسمع صدى مدفعيتها في الضفة المغربية، دون أن تفلح لا إسبانيا ولا فرنسا في إخراج البريطانيين من تلك الصخرة الإستراتيجية ومينائها الحيوي. ولقد توازى ذلك مع الحرب الأخرى بين ثلاثتهم في القارة الأمريكية الشمالية (التي سبقت الإشارة إليها في ما سبق) ما بين سنوات 1756 و 1763 التي عرفت بحرب السبع سنوات. وهي حروب خرجت منها بريطانيا منتصرة على القوتين الفرنسية والإسبانية.
بالتوازي، كان عالم القرن 18 في ذات الفترة التاريخية يشهد اندلاع حرب أخرى في الشرق بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية، على عهد الإمبراطورة كاثرين الثانية، وهي حرب سنوات 1768 و 1774، التي كانت الغاية منها تحديد المتحكم في البحر الأسود والمضايق (خاصة مضيق جزيرة القرم ومضيق البوسفور)، وكان رد فعل سلطان المغرب سيدي محمد بن عبد الله هو قطع الإتصال مع روسيا ورفض استبقال سفارة لها أو قبول هدايا أرسلتها إليه الإمبراطورة الروسية تلك، تضامنا مع العثمانيين. فيما كانت باريس تعيش آخر سنوات الملكية على عهد الملك لويس السادس عشر وزوجته النمساوية الشهيرة ماري أنطوانيت، ما بين 1774 و 1789، قبل قيام الثورة الفرنسية التي دامت ما بين 1789 و 1793.
ففي هذا العالم، إذن، المصطخب بالحروب الكبرى بين القوى الأروبية الجديدة، خاصة بين البريطانيين والفرنسيين والإسبان، في جغرافيات متعددة عبر العالم من الهند حتى أمريكا الشمالية. وبين الإمبراطوريات القديمة (العثمانية والروسية)، والصراع للتحكم في مضايق البحار مثل جبل طارق، كان المغرب يستعيد قوة نظامه التدبيري السياسي داخليا، مع صعود الأمير سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل إلى العرش وهو في 47 سنة من عمره، ليصبح السلطان محمد الثالث في الفترة ما بين 1757 و 1790. وهو السلطان الذي وجد أمامه واقع نظام عالمي يحكمه الصراع من أجل البحار ومن أجل التجارة ومن أجل التوسع لامتلاك أسواق جديدة عبر قارات العالم.
كان من حظ سيدي محمد بن عبد الله، أنه قد تم تأطيره سياسيا وتكوينيا ومعرفيا من قبل سيدة وازنة في تاريخ الدولة العلوية، هي جدته خناتة بنت بكار، التي لم تكن سيدة عادية في تاريخ الدولة العلوية وتاريخ المغرب خلال نهاية القرن 17 وبداية القرن 18 (توفيت سنة 1730). فهي واحدة من أهم زوجات السلطان المولى إسماعيل، التي تزوج بها أثناء انتقال محلته السلطانية صوب الجنوب المغربي، حيث جدد العهد والإتصال السلطاني والإداري والتنظيمي مع قبائل الصحراء وقبائل سوس، التي كان من بينها قبائل المغافرة الشنقيطيون من سلالة بني معقل، بزعامة الشيخ بكار المغافري الشنقيطي (الموريتاني)، سنة 1679 ميلادية. ولقد كتب عنها المؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري في الجزء السادس من كتابه «الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى»، مما يجعلها علما كبيرا من أعلام الفكر والذكاء السياسي بالبلاط الإسماعيلي، مثلما كتب عنها عدد من الرحالة والديبلوماسيون الإنجليز والإسبان والهولنديون والفرنسيون. وأنه رغم ما عانته من محن بعد وفاة زوجها السلطان مولاي إسماعيل من قبل واحد من أبنائه، حيث تم تتريكها واعتقالها رفقة حفيدها سيدي محمد بن عبد الله (وعمره 13 سنة)، فإنها نجحت في أن تدفع بابنها مولاي عبد الله بن إسماعيل ليعتلي العرش أكثر من مرة، مثلما حرصت على التكوين الفكري والعلمي والتاريخي والسياسي لحفيدها سيدي محمد بن عبد الله (كانت قد أخذته معها إلى الحج).
بالتالي، فإنه حين اعتلى ذلك الأمير عرش المغرب سنة 1757، قادما من مراكش التي كان خليفة للسلطان بها، كان مستوعبا لدروس التاريخ، ولمعنى التجاذبات المصالحية في زمنه عالميا. بدليل رهانه منذ بدايات حكمه على عدم الإكتفاء بعاصمة ملك واحدة هي فاس، بل إنه من السلاطين الذي اعتبر كبريات المدن المغربية حينها كلها عواصم لملكه، مما جعله كثير التنقل لمباشرة سلطاته في الميدان. مثلما أنه باشر مهام قيادة العمليات العسكرية لتحرير كل المدن الشاطئية المغربية المحتلة، من محاصرته لمليلية حتى تحريره لمدينة «البريجة» من البرتغاليين سنة 1769 ميلادية وأطلق عليها إسم «الجديدة». وانتبه لأهمية الإنفتاح على البحر وعلى التجارة العالمية، حيث حرص على إعادة تنظيم المراسي والموانئ، مثل ميناء الرباط النهري القديم، ومدينة الدار البيضاء (التي أعاد بناءها بالكامل) ومدينة العرائش (التي دحر عنها في معركة بحرية القوات الفرنسية)، ومدينة طنجة، وحاول استعادة سبتة لكنه أجل الحسم بخصوصها إلى حين الإستعداد البحري لها. وكان من أكبر موانئه التجارية يتمثل في بناء مدينة الصويرة وميناءها الجديد على الطريقة المتبعة في كبريات المدن الأروبية، حيث نجده يقرر تكليف مهندس معماري فرنسي هو المهندس ثيودور كورني سنة 1760 ميلادية لتنفيذ تلك المهمة، فأصبح مينائها لأكثر من قرن ونصف أكبر الموانئ التجارية بالمغرب.
كان لذلك السلطان المتميز، رؤية استراتيجية في ممارسة الحكم، تقتضي ليس فقط الإنفتاح على البحر وعلى السوق العالمية، بل أيضا التوفر على الوسائل ليكون ذلك الإنفتاح من موقع قوة، حيث نجده يراهن كثيرا على امتلاك أسطول بحري جديد ومتقدم من السفن الشراعية الضخمة والكبيرة، وإنشائه معملا لصناعة السفن وتجديدها وإصلاحها على ضفة نهر أبي رقراق، مباشرة جنوب صومعة حسان. حيث نجد تفاصيل عن ذلك في الجزء السابع من كتاب «الإستقصا» للناصري (الصفحات 94 و 95)، تخبرنا أنه قد اعتنى ب «المراكب القرصانية» أي السفن الحربية، التي بلغ عددها في عهده 20 سفينة حربية «كبارا من المربع»، وهي سفن حربية برتغالية في الأصل تتميز بقوتها في المناورة، وهي سفن شراعية سريعة وضخمة تصل ما بين 150 و 180 طنا، ولها قدرة حمولة تصل إلى 135 طنا، و 30 من «الفراكط» و «الغلائط» (هي الفرقاطات وسفن التدريب والحراسة في البحر الصغيرة). فيما بلغ عدد «رؤساء البحر» في عهده (مرتبة الأميرال الحالية) 60 رئيسا كلها بمراكبها الخاصة وبحريتها. وبلغ عدد البحارة العسكريون 4 آلاف، والطبجيون (المتخصصون في المدافع) ألفين. وكان من أشهر رؤساء البحر في عهده، الذين ذاع صيتهم خارج المغرب، نجد الحاج الهاشمي عواد وابنه الحاج الطاهر عواد (من سلا)، التهامي المدور، محمد العربي المستيري (من الرباط)، علي لوباريس، علي الصابنجي، الهاشمي كوار، قدور الشايب عينو وغيرهم. ولقد كانت تلك السفن المغربية (الحربية والتجارية الشراعية القوية والضخمة)، تصل حتى الدول الإسكندنافية شمالا وجزر الخالدات وخليج غينيا جنوبا وجزر الآسور غربا وطرابلس بليبيا شرقا.
ذلك كان هو المغرب الذي اعترف باستقلال الولايات الأمريكية سنة 1777، حتى قبل الإعتراف العالمي بها سنة 1783 بعد اتفاقية السلام بفيرساي بباريس بين التاج البريطاني وممثلي الولايات 13 الأمريكية. وكان قرارا سياديا مستقلا بكل المقايييس، يستحضر في المقام الأول المصالح التجارية للمغرب.

في الحلقة القادمة:
أمريكا والفضاء المتوسطي في القرن 18


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 20/04/2022