«نوافذ».. من غرف العنف (4) ثمن الانتماء

تعيش العديد من النساء، وإلى غاية اليوم، عنفا تختلف أشكاله وصوره، قد يكون جسديا أو نفسيا أو جنسيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو ثقافيا …، ماديا أو معنويا. عنف قد يرافق الضحية أينما حلّت وارتحلت، قد تعيشه منذ نعومة أظافرها وهي طفلة أو يافعة ثم شابة، وقد يستمر ليصاحبها حتى بيت الزوجية ليكون عبارة عن حلقة ممتدة، وقد تجد نفسها لأول مرة تحت هذا السقف الجديد تعيش هذه التجربة المريرة غير المنتظرة.
عنف في البيت، في الشارع، في العمل، في الفضاءات التعليمية المختلفة مستوياتها، قد يكون عابرا وظرفيا، وقد يصبح ملازما و «أبديا»، يمكن لفصوله المادية أن تنتهي، بمتابعة المعتدي أو في حالات جد وخيمة بوفاة الضحية تحت التعذيب أو أن تضع هي نفسها مكرهة حدّا لحياتها، كما يمكن للأذى العضوي أن يتوقف بتدخل القانون لحماية المعنّفة لكن مع استمرار النفسي ما استمرت في الحياة.
اعتداءات مستمرة، تجعل المدافعات والمدافعين عن حق المرأة في حياة بدون عنف، يطالبون بمراجعة الترسانة التشريعية الخاصة بالنساء وبحمايتهن وإدخال تعديلات عليها تأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والمستجدات التي تم الوقوف عليها وملاحظتها وتسجيلها، للقطع مع كل أشكال التمييز ضد المرأة وإحقاق الإنصاف والعدالة.
«الاتحاد الاشتراكي»، وانطلاقا من وقائع فعلية، لحالات عنف طالت مجموعة من النساء من فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، شملت في حالات معيّنة أمهات وأطفالهن، إضافة إلى عنف استهدف طفولة بريئة، على امتداد جغرافية المملكة، قررت صياغة بعض القصص التي تحرّر ضحاياها من قيود الإيذاء العمدي، مع تعديل شخوصها وبعض من تفاصيلها، مساهمة في تسليط الضوء على واقع لا يزال الكثير من مساحاته يتحكم فيها الصمت والألم.
قصص من نوافذ غرف العنف، اكتوى داخلها ضحايا من نيران الأذى الذي اختلفت صوره، والذي يواصل البحث عن ضحايا جدد.

 

مي «عايدة»، هكذا يناديها الصغير والكبير، في الحي الشعبي الذي يوجد في أطراف المدينة والذي انتقلت للعيش فيه منذ زواجها بسي «الكبير» الذي فارق الحياة قبل سنوات عديدة، بعد أن أنجبت منه خمسة أبناء، ما بين الذكور والإناث، منهم من يتواجد اليوم في مدن أخرى بسبب ظروف العمل ومنهم من يقطن في أحياء تابعة لنفس المدينة، الذين يترددون على زيارتها بالتناوب، لكونها تفضل البقاء في البيت الذي قضت فيه أحلى سنوات عمرها ولا ترغب في فراقه مهما كان الثمن.
قضت مي «عايدة» حوالي 60 سنة بهذا الحي، وهي التي عايشت 3 ملوك، ورأت أجيالا تتعاقب على المنطقة، خاصة وأنها كانت تمتهن بيع «الربيع» بـ «السويقة» القريبة من المنزل، ثم الخضراوات في مرحلة لاحقة، وكانت على صلة بكل بنات وأبناء ونساء الحي، تعرف الجميع دون استثناء والكل يعرفها، ويحبونها رغم ما قد تقدم عليه في بعض المرات، حين تقف سدا منيعا أمام الأطفال لمواصلة لعب كرة القدم بدعوى إزعاجها، بل أنها في حالات معيّنة كانت تنتزع الكرة لتقوم بتقطيعها، مخلّفة موجة غضب واستياء عارمة، سرعان ما تتبدد بتدخل بعض ساكنة الحي الذين يعملون على تلطيف الجوّ، وربما التكفل باقتناء أخرى شريطة اللعب في مكان آخر.
لم تكن مي «عايدة» تقف حاجزا أمام أطفال الحي للاستمتاع بهوايتهم المفضلة فقط فهي كانت ترفض أن يتحلّق الشباب حول باب المنزل للتسامر أو لعب الورق أو غيرها من الممارسات، وتدقّق في أبسط التفاصيل، بما فيها استفسار صغار الجيران عن دواعي صعودهم ونزولهم في كل وقت وحين، لكن ومع ذلك فقد كان الجميع يحترم المرأة لعوامل متعددة، ويعاملونها كأمّ ثانية لهم، وحتى حين كان يغضب بعضهم بشدّة، كان غيرهم ينهونهم ويشجعونهم على التجاوز لأنها جزء لا يتجزأ من حياتهم ومحيطهم وذاكرتهم في هذا المكان.
تعامل «تفضيلي»، شكّل إجماعا عند الكلّ، ولم يقتصر ذلك على السكان القدامى بل أن حتى الملتحقين بالحي وجدوا أنفسهم يحرصون على الالتزام به، فالكل يبادر بالتحية، والجميع يسأل عن الأحوال، ولا أحد يتخلّف عن حمل قنينة البوطان أو القفة أو سطل الحمّام نحو البيت، فهذه السيدة التي تبلغ من العمر 81 سنة، يرى البعض بأنها «بركة» الحي التي تستحق الاحتضان والاحترام.
إجماع تواصل لسنوات طويلة إلى أن وقع ما لم يكن متوقعا، ففي إحدى الليالي أقدم أحد الجيران على فعل لم يكن أحد يمكنه أن يتخيّل إمكانية حدوثه بشكل عام، فبالأحرى أن تتعرض له تلك المسنّة التي يحترمها الجميع بل وينظر إليها الناس بنظرة العطف والشفقة في كثير من الحالات، لكن صرخات مي «عايدة» التي كانت قوية رغم هزالة جسمها، كشفت عن أن هناك من البشر من تتحكم فيه صفات غير آدمية، كما هو الحال بالنسبة لـ «العربي»، الرجل الذي يعيش لوحده ويتوفر على دكان في المنزل المقابل لمسكنها، الذي يبيع فيه بعض اللوازم والأغراض المستعملة، والذي كان معروفا بتعاطيه للمخدرات.
إدمان جعل «العربي» يفقد البوصلة وكل إدراك تلك الليلة، إذ في لحظة من اللحظات التي غاب فيها عن رشده، توجّه صوب البيت الذي تقطن فيه مي «عايدة» لوحدها، وبعد أن صعد الأدراج قام بطرق الباب الذي فتحته في وجهه وهي مطمئنة، لأن الرجل ليس بالغريب وإن كان معروفا بفعله ذاك، لكنها بمجرد ما أن فعلت ذلك حتى دفعها صوب الداخل وهاجمها وهو يمنّي النفس بأن يقضي وطره منها، في لحظة شُلّ فيها عقله، لكن المرأة وإن كانت متقدمة في السنّ وبعد أن تعرضت للتهجم ووجدت نفسها أمام شخص يحاول تجريدها من ملابسها بالقوة، شرعت تدافع عن نفسها بالدفع ومحاولة خدشه بأظافرها، فازدادت عدوانية المعتدي وبدأ بدوره في توجيه ضربات إليها في سائر أنحاء جسدها، مما جعلها تصرخ وتستغيث طلبا للنجدة.
صراخ وعويل دفعا المعتدي إلى استحضار جسامة ما أقدم عليه في لحظة من اللحظات فانتابه خوف شديد الأمر الذي جعله يلوذ بالفرار، قبل أن ينزل عدد من الجيران من الطابق الفوقي للمنزل والتحاق آخرين من المنازل المجاورة تفاعلا مع الصراخ، فوجدوا مي «عايدة» في وضعية صدمة وعاينوا مشهدا كان مستفزا للكثيرين الذين لم يستوعبوا الأمر، خاصة بعد أن شرعت في سرد تفاصيل الاعتداء. أمام هذا الوضع تم ربط الاتصال بالدرك فحلّت بالمكان دورية متبوعة بسيارة للإسعاف التي عملت على نقل الضحية صوب المركز الاستشفائي الجامعي، وهناك تم استشفاؤها بمصلحة العظام والمفاصل بعدما تبين تعرضها لعدّة كسور وهو ما تطلب مكوثها لمدة بالمستشفى، في حين تم تحرير مذكرة بحث في حقّ المعتدي من أجل إيقافه ومتابعته بالمنسوب إليه.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 21/04/2022