“من مقدمات الخطيبي” إضمامة من الاستهلالات، قدم بها الخطيبي بعض أعماله وأعمال غيره في الفكر والإبداع. وهي في إبداعه لا تتجاوز نصا مسرحيا واحدا، ووحيدا في كتابته المسرحية، وهو “النبي المقنع” الصادر عن دار “لارمتان” L’Harmattan في 1979.
قدم الخطيبي أعمال مؤلفين معروفين، وآخرين ليسوا بالقدر نفسه. كما قدم لنساء كاتبات مغربيات. وكانت له استهلالات في المجلتين (المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، علامات الحاضر)، ووقع مقدمات أخر بالاشتراك.
ونصادف في مقدمات الخطيبي الأكثر ترددا: التمهيد Avant-propos، الاستهلال Préface، التقديم Présentation، الديباجة Prologue، الاستهلال البعدي Postface، الافتتاحية Préliminaire، أو بروتوكول… وهي تصنيفات-رغم تداخلها- صالحة لتأطير ما تثيره كل مقدمة من قضايا حول المؤلف، وتشكل النص، وإضاءات لولوج عالم الكتاب…
غير أننا نعثر على مقدمات، لا تشير إلى نفسها بهذه التسمية، بل تأخذ عنوانا مستقلا حل محلها، أو عنوانا مصحوبا بها.
ليست المقدمة ملزمة ولا ضرورية، في كل كتاب. إلا أنها تستمد قيمتها مثل باقي المتوازيات والمناصات والعتبات. وغالبا ما يعدم حضورها في الهوامش والإحالات، وكأنها خارج النص hors livre بتعبير جاك دريدا.
ورد في كتاب “التشتيت” La dissémination “تكون المقدمة لنص فلسفي غير مجدية ولا حتى ممكنة”. فهل كتب الخطيبي مقدمة فلسفية؟ هذا الحكم القاطع لجاك دريدا يعفينا من إثارة هذا السؤال أصلا؛ فكتابة الخطيبي المتعددة، لا تيسر تأطيره في خانة معينة، فالخطيبي ليس رجل المفاهيم، ولا نعثر له على كتاب فلسفي بالمواصفات الفلسفية، إذا استثنينا “كلمته” التي قدم بها الكتاب الفلسفي لعبد السلام بنعبد العالي: “الميتافيزيقا، العلم والإيديولوجيا”.
ويكاد المنجز الإبداعي لعبد الكبير الخطيبي، يخلو من مقدمات، باستثناء كتابه المسرحي الآنف الذكر. والذي استهله بديباجة Prologue.
لكن، من يقرأ منا كتابا بدءا من مقدمته؟ من يقرأ مثلا، مقدمة “لسان العرب” لابن منظور (1232-1311). الجواب السهل: قليلون نادرون هم من يقوم بذلك. يكشف الناقد عبد الفتاح كيليطو، في إحدى شهادات عن قراءته لمقدمة ابن منظور، وهو أمر قد لا يعني شيئا، للكثيرين من متصفحي هذا المعجم النفيس. ليذكر ما قاله: “جمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون…وسميته لسان العرب”.
حظيت مقدمة ابن خلدون بذيوع صيتها، أكثر من كتابه المقصود بها: “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر”. وحسابيا، حبر الفيلسوف نيتشه من المقدمات أكثر مما ألف من الكتب. وهذه لعمري معادلة غريبة! ومهمة مستحيلة كما أثبت ذلك “دريدا” وهو يفكك مقدمة “هيجل” في كتابه “فينومينولوجيا الروح”.
ولا تخفى الأهمية من تجميع مقدمات الخطيبي، سواء تلك الواردة في مؤلفاته أو مؤلفات غيره أو في المجلتين اللتين كانا يديرهما. وتوفير بعض منها، في هذه الإضمامة، عرضا وترجمة، تثمينا لهذه العتبات النصية وتبريزها.
مقدمة:
أهذا النص قصيدة؟ أهو حكاية ذكرى رغبة مُسْتَهامة، عشق وشقاء؟ تبريح تمحوه كلمة مِتْلافة؟ نشيد توقيت مضاد بندولي؟ بيد أن الحميمية الملغزة لهذا الصوت تتحاشى عنف حرية النبرة والجنس الأدبي؛ حرية هيابة، محددة، مرنة في إعصارها، تتناسب مع ما سيقال.
هذا الذي سيقال له قوة قصيدة من نثر إنشادي، تمشي على النار. نار تدور حول فراغ مشع، الدوار عينه.
ينبغي تعقب الإيقاع المتوهج لهذا الصوت، صوت مرئي جدا،يلقي ضِيَاءً من الصور.
أهو قادم من ليلة صوفية بعيدة؟ لكنها «ليلة عنقاء»، كما يخبرنا، ليلة من حلم وما اجتمع فيها من معان متقابلة أو متضادة.
الكلام والصمت، البصر وزيغ العاشقين، الإنصات والرؤية باللمس، مستهل نشيد، تجوال، مغامرة مُشَطرة إلى رغبات وهي متسائلة ٌ، تشكو وتشتكي.
عشاق الهناك!إنه مكان آخر، أكثر قربا، حيث يقصي كل عشق بارد، مكان آخر في حركة مُنْتَشِيَةٍ، في أعقاب أو بتعقب أَثَرِلحَدَثٍ، للغز، لصدفة عرف سببها،تحت خطو عابر، في هذه الصحراء النيرة، الأشد خصبا، حيث تَعِن صور متدفقة على «اللقاء» و»السقوط».
للاسترشاد داخل هذا الدوار، المنسوج بكلمات دائمة التحليق، ينبغي جيداللعنقاء المقصودة،أن تترفع عن اختبار النار وألم العاشقين. تحويل الكآبة إلى فن للتناسخ،هو نداء الشاعر أثناء سفره في الماضي. كآبة تلقينية للصراخ والصمت. هنا، مركز الثقل في هذا الحوارالمعلق داخل الدوار. هذا الزمن ينتزع من لغة تفر من التحليق، قوة دائرية، لكوكبة من الكلمات في وضعية سقوط حر.
يتعلق الأمر جيدا بالخفة، وانعدام الجاذبية، صحو العنقاء عند كل ليلة بيضاء، في كل مرة، تعثر فيها على نقطة توازنها، في الفراغ المشع.
الصوت، ذلك الذي يتلفف في سرعة كلمات مجنحة، وأقلام منثورة في الرماد. يغير الصوت من نبرة الجمال الآسر للصمت، النشيد الذييتردد ويتأرجح، الزخم المتنامي للمتعة في الذاكرة، الوحدة المُومِضَة ُ في الليلة الأخرى، ليلة الهناك. ليلة تبصر، وتسمع، وتلمس، وتخفق، لا تذهب إلى أي مكان، مشتتة في لحظات خاطفة. بمثل ذلك هي هذه الليلة-الحد.
افتتاحية
كتبت هذه السلسلة من الرسائل ما بين دجنبر 1995و أكتوبر 1999، وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا، بالنظر إلى الأزمنة وهي تتسارع مسعورة.
التبادل بين مثقفين اثنين، يعيشان ويمارسان مهنتهما المزدوجة بالمغرب.
غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. ونحن سويا ننتمي بذلك، إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي.
من الراجح أن هذا التبادل هو الأول من نوعه، منشورا في العالم العربي، وفق ما قاله لي أحد العارفين. وهذا يعني أن رهانا رمزيا ينضبط لعبور الرسالة من وضعها الخصوصي إلى النشر والتعميم. وانضبط منذ البداية لموضوعة «التحاب» « Aimance »، الذي ّأحددها كالآتي: « أقصد ب «التحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاءمكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة»