كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدار البيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟.
إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.
إذا كانت العلاقات المغربية الأمريكية قد ولدت ضمن حسابات عالم القرن 18، متوسطيا وأطلسيا، فإنها ستعيش كل تقلبات القرن 19، سواء في بعدها الشمال إفريقي أو المتوسطي أو الأطلسي. ذلك أنه منذ بداية سنة 1800 ميلادية، سيشهد العالم بداية انقلاب (انعطافة) في ترتيب المصالح بين القوى الكبرى الصاعدة المتحكمة في الثورة التكنولوجية الصناعية لذلك القرن، والمتحكمة في نظام السوق العالمي ومنظومة التجارة العالمية عبر البحار. مثلما أنها مرحلة تدشين اتساع المسافة بين سرعة تطور الشمال وسرعة تبعية الجنوب له، الذي من ضمنه المغرب.
كانت البداية مغربيا، قد دشنت عمليا مع وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله سنة 1790، التي وضعت تداعيات الصراع على الحكم بعده بين ابنيه اليزيد وهشام خلال سنوات 1790 و 1792، نقطة النهاية لمشروعه الإنفتاحي على التجارة الخارجية عبر البحر ومحاولات التحديث العسكرية والجمركية والمينائية. ذلك أن السلطان الذي جاء بعده، مولاي اليزيد بن محمد الثالث، قد كان أصلا معارضا لوالده في حياته ومتمردا عليه لسنوات، التجئ في نهايتها إلى ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش (شيخ جبالة) للإحتماء به، وأنه مباشرة بعد وفاة والده سيدي محمد بن عبد الله سينزل إلى فاس معززا ببيعة أهل الشمال لينال قيادة البلاد، مستندا على منهجية تعتمد العنف في الحكم (ضد كل ما هو إسباني وضد كل ما هو يهودي). فقد كانت خطته تعتمد أساسا التصعيد ضد كل ما هو أجنبي على مستوى التفاوض وتنظيم المصالح والعلاقات، متأثرا بما جاء به من أفكار وهابية متشددة خلال سنوات نفيه من قبل والده إلى الحجاز بشبه الجزيرة العربية. قبل أن تطاله رصاصة طائشة في إحدى معاركه ضد أخيه هشام بن محمد بضواحي مراكش أصابته في وجهه، كانت السبب في وفاته سنة 1792. وكانت النتيجة أن دخل المغرب في فوضى سياسية وتدبيرية لسنوات، قبل أن يتولى الحكم أخوه مولاي سليمان سنة 1795، حيث تطلبت منه تلك الفوضى سنوات من أجل إعادة ترتيب النظام، بفاتورة مالية وعسكرية كبيرة، من خلال مواجهات عنيفة مع قبائل الأطلس المتوسط وقبائل الجنوب عموما، التي كانت بعض أسلحتها أمريكية تدخل عبر ميناءي آسفي والجديدة.
بالتالي، فإنه حين كان المغرب غارقا في تلك الفوضى السياسية الداخلية، أصبحت علاقاته الخارجية شبه مجمدة، أو بتعبير أدق أصبحت «مبلقنة ومخترقة» حسب الموانئ ونفوذ كل قوة أروبية أو أمريكية فيها. بل إن السلطان المغربي الجديد، مولاي سليمان سيتبع منهجا حمائيا، إنغلاقيا في الحكم، أمام السوق الخارجية كنوع من رد الفعل لتحصين نظامه السياسي من الإختراقات الأجنبية، وكذا بسبب تخوفه من احتمال تعرض المغرب لما تعرضت له مصر من احتلال مع حملة نابليون بونابارت عليها وعلى فلسطين سنوات 1798 و 1801. دون إغفال تداعيات الطاعون الكبير لسنوات 1799 و 1801، الذي دخل المغرب مع الحجاج العائدين من مصر عبر ميناء الإسكندرية، ولقد جرف الآلاف من المغاربة (كان معدل الوفيات اليومية بمدن فاس ومراكش كمثال يتجاوز 500 فردا)، مما أضعف الجيش، أيضا، بسبب ارتفاع عدد الإصابات بين الجنود.
بينما كان واقع العلاقات بين القوى الأروبية، خلال الثلاثين سنة بين 1800 و 1830، قد دخل مرحلة المواجهات العسكرية العنيفة لإعادة ترتيب المصالح وقوى النفوذ بين فرنسا الإمبراطورية (وحلفائها من الأروبيين) وبين الإمبراطورية النمساوية (وحلفائها من الأروبيين)، ثم بين باريس وبين الإمبراطورية البريطانية. ثم الحرب الأهلية الإسبانية الأولى سنوات 1820 و 1823. دون إغفال باقي الحروب المشتعلة بين تلك القوى الأروبية في جغرافيات بعيدة خارج القارة الأروبية من أمريكا الشمالية حتى أستراليا. وكذا الحروب بينها وبين الإمبراطورية العثمانية وبين هذه الأخيرة والإمبراطورية الروسية. ما يجعل القارئ يخرج بخلاصة مركزية هي أن عالم القرن 19، منذ بدايته قد كان عالم الصراع العسكري العنيف بين مختلف القوى الصناعية والتجارية الأروبية لترتيب نفوذها على السوق العالمية.
ضمن هذا الإصطخاب العنيف لإعادة ترتيب المصالح بين القوى الغربية عالميا، كانت العلاقات المغربية الأمريكية، قد دخلت منعطفا جديدا، عنوانه الأبرز هو «التواؤم» مع الواقع العالمي الجديد هذا، بما يخدم مصلحة كل واحد منهما. وهي العلاقات التي تأطرت من خلال محطات كبرى، يمكن إجمالها في محورين هامين هما: تداعيات الحرب المتوسطية ضد القرصنة بكل من موانئ الجزائر وتونس وطرابلس، التي أصبحت واشنطن (بالتحالف مع السويد) طرفا محوريا فيها. ثم صدور ضوابط السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة سنة 1823 التي قدمها الرئيس الأمريكي الخامس جيمس مونرو أمام الكونغرس بواشنطن، عرفت ب «مبادئ مونرو»، والتي ستحكم السياسة الخارجية الأمريكية مع العالم طيلة القرن 19 حتى بدايات القرن 20. مع إضافة تداعيات الحرب الأهلية الأمريكية ما بين سنوات 1861 و 1865. لأن المغرب على عهد السلاطين مولاي سليمان ومولاي عبد الرحمان ومحمد بن عبد الرحمان، قد تقاطع مع هذه التطورات كلها، التي كيفت بهذا الشكل أو ذاك علاقته الديبلوماسية مع دولة الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت واشنطن تسعى، من جهتها (خاصة من خلال مبادئ مونرو، التي تقول بالإلتزام بعدم الإستعمار وبعدم التدخل) إلى إعادة ترسيم لخريطة مصالحها الحيوية في علاقة مع القوى الأروبية التي كانت تستعمرها من قبل، في مقدمتها بريطانيا العظمى، من خلال ترسيم واقع علائقي مصلحي يقوم على أساس لجم أي طموح لها ضمن مجالات النفوذ الأروبية بالمتوسط وفي المحيط الهادئ وفي المحيط الأطلسي، في مقابل أن لا تعود القوى الأروبية الكبرى تلك إلى مجال النفوذ الأمريكي سواء في شمال القارة أو جنوبها.
بالتالي، فإن المغرب قد تقاطع مع الحسابات الأمريكية هذه، خلال القرن 19، من خلال ملفين كبيرين هما الحرب الأمريكية الليبية (التي وضعت عمليا نقطة النهاية للقرصنة بالبحر الأبيض المتوسط وأغلقت مصدرا ماليا مهما لإيالاتها العثمانية الثلاث)، ثم الحرب الأهلية الأمريكية. حيث إنه في الحرب الأمريكية السويدية ضد باشا طرابلس ما بين 1801 و 1805، فرضت واشنطن حصارا شاملا على ميناء المدينة، مما جعل الباشا العثماني بها «يوسف قرة مانلي»، يبادر إلى مكاتبة السلطان المغربي مولاي سليمان يطلب منه الغوت ودعمه بالقمح والشعير والسلاح. وهو الطلب الذي تجاوب معه السلطان المغربي في رسالة مما جاء فيها: «هيهات أن ندع إعانتكم أو نبدي في ذلك عذرا»، حيث أرسل إليه سفينة محملة بالقمح والسلاح، لم تسمح القوات الأمريكية السويدية بوصولها إلى هدفها. بل إن واشنطن ستصعد من موقفها تجاه المغرب من خلال قرارها أسر سفينتين مغربيتين بطواقمهما من قبل النواة الأولى للأسطول السادس الأمريكي بالمتوسط، مما عجل بالدخول في مفاوضات مباشرة بين القائد العسكري الأمريكي لذلك الأسطول والسلطان المغربي مولاي سليمان، الذي حل خصيصا بطنجة من أجل إيجاد حل للأزمة المغربية الأمريكية، انتهت بإعادة تفعيل معاهدة 1786، من خلال الإلتزام ب: عدم الإعتداء على أي سفينة أمريكية تجارية أو عسكرية/ الحياد المغربي في الأزمة الليبية/ تحرير سفينة أمريكية محتجزة بميناء الصويرة. علما أنه سبق وأن كلف الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، سنوات قبل ذلك، قنصل بلاده بجبل طارق جيمس سيمسون في ماي 1795 بالتوجه إلى المغرب للقاء السلطان مولاي سليمان لتجديد المعاهدة التي وقعت مع والده معه، وهو الأمر الذي تجاوب معه ذلك السلطان المغربي وأرسل رسالة تأكيدية إلى الرئيس الأمريكي.
لحظة ثانية مهمة في العلاقات المغربية الأمريكية، ستشهدها سنة 1862، زمن الحرب الأهلية الأمريكية، حيث رست سفينة إسمها «سامتر» بميناء طنجة تابعة للقوات الجنوبية الأمريكية، المناهضة للقوات الفدرالية الشمالية، بعد أن أغرقت سفينتين لتلك القوات بالبحر المتوسط. فتدخل القنصل الأمريكي بطنجة «براون» ليطلب من السلطات المغربية احتجاز تلك السفينة الجنوبية وطاقمها بتهمة أنهم قراصنة ومرتزقة، فتجاوب نائب السلطان مع طلبه، مما خلق ردود فعل ديبلوماسية كبيرة من قبل بريطانيا وفرنسا، دفعت في تجاه تدويل الحادث، الذي انتهى بترحيل كل طاقم السفينة في حالة اعتقال إلى سفينة من قوات الشمال الفيدرالية ونقلهم إلى ميناء بوسطن ومحاكمتهم هناك. مما عزز بقوة من علاقة المغرب مع من يمثلون الشرعية السياسية في تلك الحرب الأهلية الأمريكية، أي قوات الشمال، التي ستنتصر في نهاية المطاف وتعيد توحيد الولايات الأمريكية على عهد رئيسها الأشهر أبراهام لينكولن (الذي بعث السلطان محمد الرابع رسالة تعزية بعد مقتله إلى واشنطن). خاصة بعد أن تم تجديد معاهدة «السلم والصداقة» سنة 1836 مع السلطان مولاي عبد الرحمان، التي سرب السفير البريطاني الأشهر بالمغرب دارموند هاي بخصوصها معلومات تفيد بأن المغرب قرر منح واشنطن مركزا بحريا على البحر الأبيض المتوسط بالقصر الصغير، مما أغضب لندن وباريس التي أرسلت 4 سفن حربية إلى طنجة في رسالة عدوانية على أنها ترفض ذلك، وتعتبره إعلان حرب.