هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
من منا لا يتذكر حرب الستة أيام التي أجهزت على تضخم الذات العربية لتتحول إلى قزم، وليعود المثقفون والكتاب إلى بيوتهم مطأطئي الرؤوس، تملأ نفوسهم الحسرة. كتابات كثيرة حاولت قراءة هذه الهزيمة التي لم تستوعبها الأمة العربية التي باتت الآن هباء. ستة أيام رقم لا يرقى إلأى سبعة أيام، لأنها الوقت الكافي للخلق. لكن ستة أيام ناقصة والخلق تحول إلى اجهاض للحلم العربي.
منذ ذلك الزمن “سقط القناع عن القناع”، كما كتب محمود درويش، واكتشفنا وجه الأكذوبة التي كان ينام على وسادتها جل العرب، انتهت الأسطورة وعدنا من حيث أتنينا نجر ذيول الهزيمة.
الحرب بالنسبة لي، ظلت دوما مقرونة بالهزيمة. ليس هناك منتصر في الحرب. لأن الحرب تدمر وتمحي الأثر. أتذكر رونيه بيرين، المصور السويسري، الذي اشتهر بتصويره لتشي غيفارا. فقد كان مدعوا لتغطية حرب الستة أيام، يتذكر أنه حينما كان يصور في صحراء سيناء، لفت نظره يد جندي خارج الرمال. يد تحول لونها إلى السواد جراء الشمس الحارقة هناك. الجسد مطمور واليد تطل عليه مثل نداء. آنذاك تذكر اللوحة الشهيرة للرسام الاسباني غويا التي رسم فيها يد رجل ميت، وقد كتبت عليعا كلمة «نادا» بالإسبانية (التي تعني لا شيء). هذا الـ» لا شيء» هو الذي يربطني بالحرب كمفهوم مغلوط لحل مشكلات العالم. لكن يبدو أن الحرب مندغمة في الحمض النووي للإنسان، لابد له أن يريق الدماء كي يعتلي ربوة الخراب ويتأسف على هذا العالم، نوع من التراجيديا البكائية على هذا الوجود الذي زُج فيه الانسان رغما عنه، والذي وجد نفسه مرميا في هذا العالم مع الحكم عليه بالموت. هذا الخوف الرهيب من الموت فاقم هذا الإحساس المرعب الذي جعل الإنسان آلة رهيبة لتسريع وتيرة الموت.
الحرب قرينة المحو، الغبار المتناثر في أرض اليباب. من عاش الحرب وهو طفل تشيخ روحه ولا يعرف للطمأنينة أي طريق. هؤلاء الذين أشعلوا الحرب ستبقى روحهم هائمة وعيونهم فارغة من أي نور. واهم ذلك الذي قال إن الحرب لابد من وجودها كي يعرف الانسان طعم السلام. لا سلام بعد الحرب. الحرب جرح لا يندمل، والذين عاشوا تلك اللحظات العصيبة التي يصبح فيها الموت مشهدا يوميا يعرفون إلى أي حد أن حياتهم الآن أشبه بموت مؤجل.
من قبل، كنا نقرأ عن الحروب التي لا تنتهي. والآن أصبحت الصور تندلق من شاشات التلفزة والهواتف. أينما وليت وجهك، فهناك حرب مشتعلة في مكان ما. حياتنا أصبحت حربا لا هدنة فيها. لذا أصبحت الكتابة نوعا من الهروب الكبير من أتون الحرب. أصبحت الكتابة شجرة وارفة الظلال، نستظل بها من وهج نار الحرب وننصت للسلام الداخلي. كيف نكتب عن الحرب التي أجهزت على ذاكرتنا، وغطت بوشاح أسود وجوهنا. الحرب اغتالت طفولتنا، ولم نعد أبرياء. نهرب من الحرب إلى الحلم ونرسم بالكلمات التي لم تتحول إلى أشلاء مدنا يسكنها الصمت، مدن هجرتها الطيور، ولم تعد تغرد في الصباح خوفا من أن تقنصها البنادق المندسة في أرواحنا.
نكتب دوما لأننا نحب الحياة، والحياة لا تقيم في منازل الحرب. نكتب على الصفحات البيضاء وننشرها كالرايات البيض استسلاما، أو رفضا قويا، لكل هذا القتل الذي تزرعه الحرب. نوع من المقاومة المستحيلة التي نوهم بها أنفسنا كي نجمل وجه العالم، لتبقى الكتابة واحدة من القلاع الحصينة للأمل والحياة. المهجع الوحيد لهؤلاء الحالمين بأرض الهناءة والذهاب بعيدا إلى أقاصي الحلم.
ستظل الحرب ذلك المكان المرعب الذي لا تذرعه سوى الخفافيش. ليل الموت الكريه الذي لن يوقد ناره سوى القتلة. أما الكاتب فهو مدعو ليحرس بعينيه العاشقتين ذلك الصباح الذي يتنفس عطر سلام أبدي.