مجرى نوبة العشاق

 

لن ينفعني انفجار سيل الأسئلة واندفاعها في وجهي على كل طريق، ولا امتداد طوفانها من حولي مهما تقادم الزمن، عن معنى ما أصبحتِ تمثلينه لي الآن ، أو ما سبق أن مثلتِهِ لي في أيامي الماضية، فلقد كنت غائبة عني باستمرار دون أن أكون قد استطعت في لحظة ما أن أنساكِ، فإذا حضرتِ اكتشفتُ أنني كنت ذلك الذي لم يمتلئ يوما بسواكِ، فإذا رأيتكِ اختلَّت الأبعاد في نظري، وفقدتُ الإحساس بين ما يوجد أمامي أو بعيدًا عني أوهنالك خارج المكان أيَّ مكانٍ، فمنذ أن رأيتك لأول مرة شامخة كبرج، وكنتِ متلألئة الوجه متبسمة دائمًا، لم تجذبني ابتسامتك بقدر ما أبعدني عنك إشراقُها الغامر، بل كان هناك ما يشبه الأسوارَ تنهض بيننا دائما، حتى أنني لم أقدر أن أراك إلا في أعلى الأعالي، تطلين من هنالك ، من خلف كوة ، أو من نافذة بعيدة لا تنفتح إلا جزئيًا، أو من خلف حجاب، من وراء مسافات متباعدة خلف حدود هذا البلد وحدود بلدان أدركتُها يوما ، وبلدان أخرى لم تطأها يومًا قدماي المتعبتان، أو من خلال صور أحلام وأشرطة فيديوهات، تضحك عيناك ولكن شفتاك لا تنبسان بصوت، لا نلتقي إلا على طرق مغلقة لا تفضي إلا إلى جدران شديدة الرطوبة كالحة السواد، ويومًا حين تجاوزت باب المدينة الجنوبي إلى ينابيع الأعماق، صعدتُ وأنا أسمع صوتا كانت الهجرة قد غيبته سنوات وسنوات، يكلم أحد مخاطبيه عن ميعاد العودة إلى أرض الموت والاغتراب، لم أفكر في سواك، وأنا أدنو من منفرج في مفترق طرق ، على خطوات من بيت كنتِ به ذات يومٍ، سمعتُ صوتًأ يفيض فرحًا وهو يردِّدُ :
ـ « عاد الحبيب الذي أهوى من السفر»
«والشمسُ قد تركَتْ في خدِّه أثــــــَرا»
لتجيبه كاعبٌ حسناءُ بصوت منغَّم يقطر سعادة:
«فقلت واعجبا، الشمس في قمري «
«و الشمس لا ينبغي أن تدْرك القمرَا»
فلم أدْرِ كيف انقاد خطواتي حتى وقفتُ على باب أقرب بيت إلى روحي ، وقد اشرقت عيناك في عنبر توسطه، و أنت تضحكين في فرح طفولي، كدأبك غير مكترثة بما حولك وبكل من حولك كلما رأيتني اقترب إلى حيث توجدين ، لأرى يدك البيضاء تشير لي من قلب المكان وتدعوني مرحبة بي ، بكل دفء عواطف، تلك التي عرفتِها قبلي، لم يكن في العنبر حسب ما بدا لي غيركما، إلى أنْ التفتَّ لأرى باقة من فتيات لا تزدن عن ثلاث زهرات ، كن يصعدن من أسفل الممر حيث لا وجود في أوله لغير جدار صامت دامي اللون، يصعدن في جهد للخروج إلى أضواء ساحات لم تكن بعيدة عنهن، وسمعت صوت إحداهن وهي تغني وتتبسم:
آهٍ يا سلطاني….
فتضاحكن مؤتلفات في مودة ظاهرة، ليرتفع صوت بشير من بينهن:
هو ذا سلطان عشاق كل الأحياء، فأين تراها محبوبته اليوم؟
فأجبت ممتلئًا رغبة في تضليلها:
لا يعشق سلطان فتيانِكِ اليوم زهرةً سواك؟
فامتلآ فضاء زقاق الرشيد بكركرة أصوات كأنها غناء ينابيع كانت تفيض على المدينة، قبل أن تجف هذه الزمان. لكنني حين التفت إلى باب معتقلك حيث كنتِ ، دون أن أكون فكرتُ حتى في اجتياز عتبته إلى حيث أراك، الحقيقة أنني كنت جبانًا بارد الأكتاف، وإن كان موج عشقي تطامَى إلى أعلى حد ، فقد كان هناك على باب معتقلك جسد عملاق يعترضني ليحجبك عني ، بحجة أنه أحد ممثلي أبيك ونواب أخويك ومبعوث أخوالك، لذلك فهو يحيط عرض الدار بالأسوار، كما كان من حجابك أيضًا جار قزم تعملق فيه حقد مجاني، وتطاول جهله حتى غطاه، فازداد منسوب ما يكنه لي من البغضاء حتى أغرقه وغمر ما حوله، حين حدس أن موعد اقتراني بك يدنو، وكأنه كان يسمع ما أهجس به في أعماقي ما اشترطته من ضرورة استماعي ولو مرة واحدة على الأقل، إلى همسة واحدة منك، فلم يسترح الحاقد إلا بعد أن أظلمت الأجواء ، وهو يرى صقرًا قويا من بلاد الأراضي المنخفضة يسفُّ فينقض عليك.
لكن هل استرحتُ أنا ؟ بل لماذا لم أثُـرْ رغم علمي أنك كنت مغتصبة ، مختطفة لم يهتم أحد حتى باستشارتها، ما زال سيل الاسئلة مندفعا في وجهي ، بل أثارني استسلامك وخوفك الكبير أمام سلطة محيطك الرهيب، خاصة حين لم أسمع منك أدنى صوت استغاثة بمن كنت تعرفين أنه متعلق بك بلا أمل، وما زالت نفس ذاك المشتاق الذي كنته، لا تقوى على نسيانك ، رغم أن ما بيننا من الشوق كان أكثر مما تستطيع التعبير عنه لغة هوى صادق، وبريق عيون لا يزال يخترق الآفاق من أعلى الأرض إلى أكثر جهاتها انخفاضًا، فأصدق ما حملته إليّ الأسلاك من نبضات قلب ، لم يدر يومًا ببال مختطفها الذي لم تكن له من قدرة على شيء، غير ضراوة البراثن و الأنياب.
يوم كانت جدران مدينتي بيضاء، كانت ألوان سمائها في كل فجر تسيل بنفسجا وضَّاءًا ، كانت أحلامي في منزلي حيث كنت أعيش ، وردية ملؤها الأضواء وبهجة الألوان المتراقصة ، أما اليوم ، وقد حجبت بهاء كل ماضي مدينتي سحابة من الغبار الأزرق الجفون، ليست ابنة أي فصل ، فانبهر سكانها أمام مشاهد في شوارع و طرقات لم تعد تنظر إلى الأعماق، بل إلى بهرجة أشياء طارئه ، وأزياء صارخة ، حتى كثر المصابون فيها بالعمى الأزرق الذي غطى مغرب الأرض ومشرقها، فكان أن أصبح الخريف سيد المكان ، وسكتت موسيقى العشق، وخفتت أنفاس الزهر، وخبت صور الجمال الذي تسرطن ، وتضخمت فيه علل وأمراض أصولية وكراهية عمياء ، وفحيح جهالة جهلاء ، حتى نسي الأهل فيها ما كان يحيطهم في أعيادهم من معاني سرور وظلال أفراح.
فأنت اليوم حيث لا بريدُ حمام يستطيع أن يبلغك، ولا حتى بريد إلكترون يقدر على نقل أدنى نأمة، أو حتى همسة منك ، خوفاً من أعين السوء التي كانت ولا تزال تحيط بي وبك في كل مكان وزمان. وكأن ليس بين عدد سكان هذه الأرض من بشر كانوا ضحايا عشق قاتل مثلنا ، فلم يُظلنا في أي وقت دفءُ وطَنٍ، بل كان كل أبناء الثلج ـ أجبلوا أم أسهلواـ أسعد عشقًا منا، وأطيبَ وصالًا.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 06/05/2022