التجريب في مجموعة «نصف العالم في كأس» لمحمد لغويبي

ينهض هذا العمل القصصي على الدهشة من أول رشفة إلى آخر جرعة في الكأس، فالغلاف بمختلف محمولاته يمنح العين جمالا ويثير في الذهن رجة و غرابة، أما العنوان فمثير ومحفز على السؤال، والرغبة في الاكتشاف، فكيف يمكن احتواء نصف العالم في كأس؟ كيف للصغير حجما أن يحتوي ما هو أكبر منه؟ هل التعبير حقيقي أم مجازي؟ أما التجنيس فمولد للأسئلة هو الآخر، ومحفز على الغوص في القراءة للتزود بالمعرفة وإرواء العطش. فلم «طوارئ قصصية» وليست نصوصا قصصية؟ لم اختار القاص كلمة طوارئ ذات الحمولة التحذيرية بدل «قصص قصيرة» المتعارف عليها؟ أهي رغبة في خلق الاختلاف و التميز، أم هي تحذير واجب وتنبيه ضروري للقارئ حتى يتعامل مع قصص المجموعة بشكل مختلف، لكونها لا تسير على صراط ما سبقها؟
إن صورة الغلاف مستفزة بجمعها بين السائل و الصلب، وبجمال الألوان المشكلة لها. يغلب السائل على بقية عناصر الصورة، فحتى الكأس التي تنتمي للصلب تصير بفضل الماء سائلة، لكونها من ذات لونه، فرغم انتصابها إلا أنها مغمورة بالماء، وفي جوفها ماء. والأكيد أن الماء سيغلبها ويصيرها على شاكلته.العنصر الصلب المتبقي هو جزء من شكل كروي يشير إلى الكرة الأرضية المغمور ثلثاها بالماء، ليظل الباقي ظاهرا على السطح ومهددا بالغرق.
هل الصورة أبوكاليبسية؟هل تنذر بغرق قادم؟ وهل هناك خطر ما يتهدد الأرض؟ .إنها تحفز على توقع النهاية اعتمادا على الأحمر القاني المرتبط بالغروب، هذا اللون يحملنا إلى هذا الاعتقاد أو هذا التصور، لكن الأزرق المتدرج في قوة لونه يمنح فرصة التخفيف من هذا الجحيم، ليترك بارقة أمل منعش للحياة،لا سيما وأن الماء يحمل معنيين متعارضين، معنى الإغراق ومعنى الحياة.
يتضمن «نصف العالم في كأس «عناوين قصص قصيرة، هي عتبات للقراءة والتأويل، مثل:قصة للبيع- عالم ليس لأحد- السمع و البصر- مسعود- بالإضافة إلى عناوين مختلفة من قبيل:رأس الأفعى- بياض الثلج- هواء البحر-لأمر ما- الثلاجة- عادات- مرمدة وأخيرا قصة للإيجار. تروم إذن المجموعة خلق الدهشة بلغة شعرية تناصر السرد ولا تخاصمه، من العنوان إلى القصة.

  1 -عوالم المجموعة القصصية:

قصص المجموعة تتداخل فيها الأبعاد، السيكولوجي والقيمي والاجتماعي والمعرفي  والفني، وتقدم سردها بضمائر مختلفة، المتكلم والغائب والمخاطب..والجملة القصصية تعتمد الإيجاز والتكثيف والتلميح، أما البناء القصصي فيتكئ على الاسترسال والتداعي والتقطيع، من هنا أرادت المجموعة مخاطبة قارئها الضمني، قارئ مختلف يشغل أدوات القراءة، بدءا من الاستمتاع إلى التخييل..إلى إدراك العلاقات، لذلك يمكن عد العمل محاولة للخروج بالقصة من السائد إلى الصنعة.

2 –  بعض تقنيات العمل:

التشظية:

في عالم القهر وإهدار كرامة الإنسان يصير الحكي مشتتا ومتشظيا فنيا، معبرا عن تشظي الشخصية المحورية وتفككها، وهو ما يحتاج إلى قراءات للملمته وإعادة بنائه من جديد، ذاك ما يلاحظ على معظم قصص المجموعة، وبخاصة قصة»لأمر ما «ص33.
يستدعي هذا النص قصة آدم والتفاحة ليستثمرها في سياق مختلف، سياق الموظف المقهور ، خالقا بها مفارقة دالة بين آدم أبي البشرية الذي كانت له الأرض سكنا وآدم القصة الذي وجد نفسه في جحر بقروض ثقيلة. ولم يكتف النص بتلك القصة بل عمقها بقصة نوح عليه السلام، إذ تنتهي القصة بطوفان أغرق العالم من حوله.
وكما تم تقطيع التفاحة إلى أربعة أجزاء، تم تقطيع الحكاية التي كانت تنمو مع كل جزء يتم التهامه من طرف آدم القصة ، لنصل في النهاية بعد التركيب إلى معرفة خفايا القصة وخبايا نفسية الشخصية.
يستدعي تشظي القصة تدخل القارئ في تنسيقها وإخراجها وعرضها، لكن القصة لم تكتف بالتشظي بل زاوجت بين اللذة والألم، لذة التهام التفاحة الحلوة وألم الأضراس والماء المكتسح للمكان..
لقد قامت القصة بخلخلة القص من الداخل وتخييب أفق انتظار القارئ باستمرار، بجعله يواجه ممكنات قصصية عديدة بكسر كل ما هو خطي والخروج عنه،وهو ما يزرع التمرد في الشخصية القصصية، إذ لا تبدو مهادنة، يوظفها القاص بنوايا مسبقة، وإنما هي هي في مستوى من المستويات ند للقاص تتفاعل معه ويتفاعل معها في دائرة المحتمل.
إن مثل هذه القصص، وبمعنى أدق، مختبر بقدر ما يعني الكاتب يعني القارئ، ذلك أن التجربة الجمالية لا تنحصر في الكاتب، بل تفيض عليه لتشمل القارئ/المتلقي من خلال فعله ونشاطه التأويلي «جمالية التجريب القصصي واستفزاز القارىء في «تقارير تونسية مهربة، أصيل الشابي، جريدة القدس».
يظل التشظي السمة المهيمنة على العمل القصصي، حيث يتجلى في نماذج أخرى منها:
«مرمدة»ص45، حيث البناء يعتمد التقطيع للدلالة على تجزيء العالم وسقوط التاريخ وحالات التشظي الإنساني، فالمقاطع جاءت مرقمة تبلغ عدد شهور السنة في غياب لجامع ظاهر بينها ،لا يمكن بلوغه إلا بالتأني والروية، بحثا في المؤشرات، ويتجلى التشظي كذلك من خلال قول السارد مثلا مخاطبا شخصية قصته:
«العالم بيتك الجديد…أيها الطريد، حين تركت البيت وحيدا فأصبحت على الجسر قاطع طريق «أمين» ثم آمنت بالنهايات «الصغرى» كيف تخرب القصة القصيرة؟
لا أحد يجيب (صيحة في واد)ص48
و في «قصة للإيجار «، البناء مقطعي أيضا، يدل على تشظي العالم وتيه الفرد وفقدان السيطرة عليه، وهناك فجوة فاضحة بين «الهو والهي « كل في فلك يسبح، وداخل عالم مجنون، يجعل الفرد فيه فاقدا للسيطرة، عاجزا عن فهم نفسه، مما يضطره «للتخلي عن أناه وبالتقسيط الممل ينسحب عائدا إلى الغرفة، حيث يغلق الباب وينام «ص52 وليس من شخصية / بطل في هذه القص، فقد اكتفى السرد بالدلالة عليها بضميري، هي،هو، مما يدل على أنها تمثل حالة وليس شخصا معينا. ويرى بعض الباحثين في تفسير ذلك أن الإنسان المعاصر والغربي خاصة، رقم أو كائن مستهلك، ليس من فاعلية له سوى قبول الواقع أو تحسينه إن أمكن بتوفير المزيد من السلع الاستهلاكية، فالأشياء هي الفاعلة في هذا العالم/الخراب ، ولهذا تم التركيز عليها بوصفها «مرايا الوجود المعاصر (عبد المجيد زراقط ، التجريب القصصي وتقنيات القصة الجديدة، «جريدة القدس).
وفي «عالم ليس لأحد «ص 7، نجد قصة تفاعلية بضمير المخاطب يخاطب السارد توأمه ويسرد قصته، وفي الوقت نفسه يسرد قصته هو، أي أن هناك تداخلا بين شخصيتين وحكايتين، حد التماهي مع وجود بعض الاختلافات الجوهرية بين الشخصيتين، فالسارد يهرب إلى المواجهة في حين يهرب توأمه منها.القصة هنا تمثيل بالصورة والحكي واللغة للعلاقات الاجتماعية التي صارت معطوبة، ولحالات الضياع الفردي وتشظي الجماعة، وتنتهي القصة بصورة عن المأساة التي يحملها السارد جراء غرق أخيه والتي جعلته يعيش غريبا في عالم ليس له.

توظيف العجائبي:

نلحظ أن العمل القصصي قد وظف العجائبي في بعض قصصه مثل:هواء البحر ص29، و هي قصة تستدعي «عالم ليس لأحد «ص 7، وتلقي الضوء على سبب قضاء التوأم غرقا في البحر، لقد كان ذلك انتحارا بسبب حبه للصديقة التي تجلس في هذه القصة إلى جوار توأمه وتحكي له القصة كاملة ، وبسببها تم استدعاء الشرطة ،لتنتهي نهاية عجيبة تتمثل في تبخر الحبيبة في الهواء ،كما لو كانت قصة مكتوبة ببخار الماء ، فالقصة إذن تخييل عجيب لحكاية حب ..أعجب.
كما يتمثل العجيب في قصة»الثلاجة» ص39 من خلال سارد يحكي عن جثته التي بعث بها إلى المشرحة، فكيف لجثة أن تملك صوتا وبالأحرى أن تتحدث وتسرد؟ وتنتهي بما هو أعجب،وإن كان بأسلوب مجازي. يقول السارد:
«و سأخرج الآن من الثلاجة و سأطير من الفرح «ص 41
تتعمد القصة توظيف العجيب والغريب، بحثا عن من هو الميت؟ من هنا يمكن القول إن الصنعة الحقيقية في العمل تكمن في اختراق الواقع، وصوغ التجربة صوغا دلاليا جماليا، والاحتفاء بهذا الواقع في تجليات حضوره المعرفي والإنساني.

الميتا سرد:

يتجلى في «قصة للبيع»ص5، حيث تطرح قضية أدبية ،قضية القصة المتمنعة أمام من يستسهلها ،لهذا فالعنوان يدل على تجارة الصنعة وكتابة القصة، تستضمر التواء يخفي أزمة القصة وكتابتها، كما تستثمر في العلاقة المعطوبة بين الذكر و الأنثى، إذ تطرح الشطط في توظيف السلطة الذكورية، و سلطة القصة نفسها ،ففي الوقت الذي تنتقد فيه السلطة الذكورية نجدها تنتقد الاستسهال والميوعة في كتابة «القصة القصيرة «إنها صرخة «بنيوية»ضد شطط الطرفين معا.

  3 – عن بقية قصص المجموعة:

«السمع و البصر «ص11: نلحظ توظيف الخرافات والمحكي الاجتماعي الموروث الذي تكشفه فوضى الحواس، إنه الجنون الذي يتمرد عليه بطل القصة.
«مسعود «ص15:تسرد بضمير الغائب، وتحكي عن سجين بلا تهمة، ماضيه غامض يثير الأسئلة وينتهي بالخروج من السجن بطقوس احتفالية من نزلاء السجن،ومن ثم الاختفاء أو الانتحار أو التلاشي، لقد خرج من سجنه إلى سجنه.
«بياض الثلج «ص15:تحكي القطيعة بين زوجين بسبب الاختلاف وعدم الفهم، كل يغني على مأساته.
«عادات «ص43: تراهن على ثقل اليومي وتعتمد التقطيع وتصوير التوتر والسخرية من الواقع وتعريته، ونقد أشكال السلطة.

4 – عن اللغة في العمل القصصي:

أما اللغة القصصية ففيها ترميز وشعرية خاصة بها، فهي نادرا ما تقول الواقع مباشرة لأن الرهان في المجموعة على «القصصية»كلغة وبناء وفكر، وكجنس أدبي يجرب ولا يعيد نفس التجارب،والقصة من هذا المنظور لا بد لها أن تختلف عن باقي أنماط الكتابة من حيث ضرورة الوعي بمتطلبات هذا الجنس فنيا و فكريا …فالمادة القصصية لا تتمثل في عناصر الحياة الواقعية الخارجية فقط، بل في ما يعتمل داخل الإنسان وما ترسخ في وعيه ولا شعوره، كما تتمثل في اللاواقع والمسكوت عنه،أي في ما هو عجائبي، المعبر عما ترغب في قوله الشخصيات.

   خاتمة:

إن المجموعة، «نصف العالم في كأس «تدرك أن «المرجعي مخادع في مستوى أدق إذ يستدرج القارئ المتفرج إلى عوالم متخيلة يبنيها بنفسه ضمن دائرة تجمع في أساسها بين فعل القراءة وفعل الإنصات. (جمالية التجريب القصصي واستفزاز القارئ،أصيل الشابي، جريدة القدس. )

* كاتب وناقد مغربي 


الكاتب : عبد الرحيم التدلاوي *

  

بتاريخ : 06/05/2022