تحلق طائرة عسكرية روسية في سماء مدينة بيرديانسك بجنوب أوكرانيا لكن لا أحد يعيرها اهتماما كبيرا. فهي “واحدة من طائراتنا ولا داع للقلق” على ما تقول سيدة جالسة على مقعد في ساحة صغيرة بعد ظهر يوم مشمس.
سيطرت القوات الروسية على هذه المدينة الساحلية المطلة على بحر آزوف في الأيام الأولى للحملة العسكرية التي تشنها في أوكرانيا منذ أواخر شباط/فبراير، من دون مقاومة تذكر.
في الأسابيع التي تلت ذلك ق طعت المدينة عن باقي أنحاء البلاد في وقت تخوض قوات موسكو والانفصاليون الموالون لروسيا معارك للسيطرة على مساحات من شرق وجنوب أوكرانيا.
تمكن مراسلو فرانس برس من زيارة بيرديانسك وكذلك ميليتوبول الواقعة على بعد نحو مئة كيلومتر غربا، في إطار جولة إعلامية نظمها الجيش الروسي.
وترتدي السيطرة على هاتين المدينتين أهمية استراتيجية حيوية بالنسبة لروسيا، فهما تشكلان إلى جانب ماريوبول الواقعة إلى الشرق، جزءا من ممر بري يربط الأراضي الروسية بالقرم، شبه الجزيرة الواقعة في البحر الأسود والتي ضمتها موسكو من أوكرانيا في 2014.
أقامت موسكو في المدينتين إدارتين محليتين كلفتا إعادة الحياة إلى طبيعتها نوعا ما، وهو ما تعترفان به علنا، ووضع أسس مستقبل مع روسيا.
وقال رئيس الإدارة الجديدة في بيرديانسك ألكسندر ساولنكو، للصحافيين في المدينة “نحن في مرحلة انتقالية، من أوكرانيا إلى روسيا”. أضاف “نرى مستقبلنا مع روسيا”.
وقد اتخذت بالفعل بعض الإجراءات مثل خطط يتم إعدادها لبدء دفع رواتب موظفي القطاع العام ومعاشات التقاعد بالروبل الروسي بدلا من العملة الأوكرانية، الهرفنيا.
في ميليتوبول ارتفعت لافتة شيوعية فوق ساحة النصر بوسط المدينة، وصدحت أناشيد وطنية من الحقبة السوفياتية من مكبرات للصوت ثبتت على شاحنة عسكرية.
لم ير مراسلو فرانس برس أي آثار للمعارك أو الدمار في المدينتين، على نقيض صارخ للمشهد المروع في ماريوبول، التي تبعد 70 كلم فقط إلى شرق بيرديانسك.
قالت زفيتلانا كليموفا البالغة 38 عاما، والعاملة السابقة في محطة وقود في بيرديانسك “جميع القوات (الأوكرانية) غادرت المدينة”. وأضافت “لو بقيت (القوات) لأصبحت (المدينة) مثل ماريوبول”.
وعبر العديد من الأهالي عن ارتياحهم لأن المدينة لم تلق مصير ماريوبول، بل أن البعض أبدوا حماسة للوجود الروسي.
وقال فالري بردنيك (72 عاما) عامل المرفأ السابق ذي الشارب الأشيب الكبير، “عندما سمعت (نبأ وصول الروس) غمرتني السعادة وأدمعت عيناي”.
ورأى أن مدنا أخرى في أوكرانيا، مثل العاصمة الإقليمية الجنوبية زابوريجيا أو خاركيف في شمال الشرق، “يجب أن تصبح روسية”.
ومع دوريات عسكرية روسية تجوب الشوارع وأحيانا تتنصت إلى الأحاديث، من الصعب خيل أي شخص يعبر عن معارضة لتواجد قوات موسكو.
لكن كانت هناك مؤشرات على أن ليس كل شخص في بيرديانسك لديه حماسة بردنيك. فقد أقر ساولنكو بأن عدد سكان المدينة تراجع من 100 ألف قبل بضعة أشهر إلى ما بين 60 ألف و70 ألف.
في ميليتوبول “المدينة مقسمة” على ما تقول إيلينا المعلمة البالغة 38 عاما وهي تمشي في الشوارع واضعة نظارة شمسية وقرطا على شكل صليب في أذن واحدة.
وتضيف “البعض سعداء والبعض ينتقدون الوضع”.
ومن المعروف أن القوات الروسية اعتقلت رئيس بلدية ميليتوبول واحتجزته لبضع أيام في آذار/مارس قبل أن يغادر المدينة في نهاية المطاف.
وقال مواطن آخر في ميليتوبول إن العديد من التظاهرات الرافضة للوجود الروسي خرجت في فترات سابقة لكنها توقفت الآن.
وتحضر ماريوبول بقوة في أذهان الجميع هنا. أولغا تشيرنينكو (50 عاما) واحدة من آلاف الأهالي الذين فروا من بيرديانسك.
فرت تشيرنينكو في نهاية آذار/مارس وتقيم حاليا في مبنى كان مركزا للشباب الشيوعي سابقا. في إحدى الغرف المشتركة يعرض جهاز تلفزيون بثا لقناة إخبارية روسية على مدار الساعة.
وتأمل هذه المرأة “العودة إلى الديار بحلول الخريف” إذا تمكنت القوات الروسية من السيطرة على كامل ماريوبول. وتعتقد أن بيرديانسك فعلت الشيء الصحيح ب”الاستسلام من دون قتال”.
تضيف “إذا أردنا الحفاظ على الأرواح لا يمكن القتال في المدينة”.
وقد تبدو بيرديانسك وميليتوبول هادئتين لكن الطوابير أمام البنوك ومكاتب الصيرفة تذكر بأن الوضع بعيد عن كونه طبيعيا.
وقالت كليموفا “لا توجد أموال نقدية، آلات البنوك لا تعمل” معبرة عن أملها في أن “تساعد روسيا في دفع امتيازات ومعاشات”.
وتسعى سلطات المدينتين إلى جذب المواطنين بإعادة الحياة إلى طبيعتها قدر الإمكان.
في ميليتوبول تابع الصحافيون مراسم افتتاح حلقة تزحلق قام خلالها عدد قليل من الأشخاص بالتزحلق وتوقفوا فور توقف التصوير.
في بيرديانسك زار الصحافيون مكتبا للزواج أقيمت فيه حفلات أعراس للمرة الأولى منذ شهر.
فجأة سمع دوي تلته أصوات مفرقعات وتطايرت القصاصات الورقية الملونة، لكن أحدا لم يخف.
“انتصار اوكرانيا”… هدف متعد د الأوجه
مع تكثيف العديد من دول حلف شمال الأطلسي المساعدات العسكرية لكييف، يعود الحديث عن احتمال “انتصار أوكراني” على موسكو إلى الخطاب الغربي، بينما لم يكن من الممكن تصوره في بداية الصراع، لكن معالمه متعددة الأوجه.
بين الوضع القائم على طول الجبهة الحالية والعودة المفترضة لشبه جزيرة القرم تحت العلم الأوكراني، شكلت طبيعة انتصار جيش الرئيس فولوديمير زيلينسكي محور توقعات عدة من محللين غربيين اتصلت بهم وكالة فرانس برس.
يستند السيناريو البسيط على الوضع على الأرض حيث تبدو الجبهة مجم دة.
تزامنا مع شن هجومها، قالت روسيا إنها تريد “اجتثاث النازية” و”نزع سلاح” أوكرانيا. لكن بعد فشلها في السيطرة على منطقة كييف، اضطرت إلى تقليص أهدافها.
يركز الجيش الروسي حاليا على الشرق حيث يحاول “تحرير” كل منطقة دونباس، التي تسيطر عليها موسكو جزئي ا عن طريق انفصاليين موالين لروسيا منذ 2014. ومنذ ذلك الحين، لم تشهد خطوط المواجهة سوى تحركات قليلة.
في هذا السياق، ترى ماري دومولين من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن فرضية “حرب مواجهة طويلة الأمد من دون تصعيد كبير” من بين السيناريوهات المحتملة.
وأشار الكولونيل الفرنسي السابق ميشال غويا إلى أنه يمكن اعتبار مثل هذا السيناريو “انتصار ا افتراضي ا للأوكرانيين”، سيسمح لهم بإنقاذ كييف بشكل دائم مع الحفاظ على منفذ إلى البحر.
وقال لوكالة فرانس برس انه اذا اقترح الجيش الروسي “وقف اطلاق النار، يمكن اعتبار ذلك شكلا من اشكال الانتصار لكييف”. ويمكن للروس “إعلان نصر، سيكون نسبيا لكنه نصر رغم كل شيء”.
ويمكن لموسكو أن تؤكد مع سكان إقليم دونباس استقلاله المعلن من جانب واحد، والاستيلاء على عدد من المدن الرئيسية على بحر آزوف، حتى لو كان ذلك غير مرجح في هذه المرحلة.
وقال غويا “لم نبلغ هذه المرحلة بعد”. وأضاف “يواصل الروس هجومهم، ويمكن للأوكرانيين الذين تمكنوا من طردهم من كييف أن يقولوا لأنفسهم أن بإمكانهم طردهم من دونباس أيض ا. في هذه الحالة، يبدو من الصعب تخيل اتفاق”.
وليس هناك ما يشير إلى أن الأوكرانيين سيقبلون هذا الخيار. “بالنسبة لهم، هذا يعني أنهم يفقدون جزء ا من أراضيهم”، وفق السفير الفرنسي السابق والمستشار الخاص في معهد مونتان، ميشيل دوكلو.
وقالت مارغريتا أسينوفا من مؤسسة جيمس تاون في واشنطن “بعد الفظائع العديدة وخطف مدنيين أوكرانيين، لم يعد أمام كييف خيار آخر سوى القتال لاستعادة كل أراضيها”.
السيناريو الأقل بساطة، يحاكي أحد مطالب كييف المتكررة بانسحاب القوات الروسية من الأراضي المحتلة منذ 24 شباط/فبراير.
وأعلن مستشار وزارة الخارجية الأميركية ديريك شوليت في عطلة نهاية الأسبوع لصحيفة لوموند الفرنسية أن الأوكرانيين “يريدون استعادة سيادتهم، وطرد القوات الروسية، وأن يكونوا قادرين على تأمين أنفسهم ضد احتمال حدوث شيء مماثل مرة أخرى. وسيكون عليهم تقرير إلى أين يريدون الوصول”.
وقال دوكلو “سيكون شكلا من أشكال الانتصار، لكنه يفترض تقدم ا عسكري ا وأن تجد الدبلوماسية طريقة لإنقاذ صورة” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وترى مؤسسة جيمس تاون أن الانسحاب الروسي سيكون بلا معنى إذا لم ترافقه ضمانات بأن موسكو لن تتدخل في السياسة الخارجية لأوكرانيا.
أخير ا، ماذا عن دونيتسك ولوغانسك المحتلتين منذ 2014؟
قال المؤرخ الأميركي إدوارد لوتواك إن كييف “لا تستطيع” التخلي عنهما ولا يمكن لموسكو “مغادرة الطاولة” بدونهما. وأضاف أن موسكو يمكن أن تقدم على أنه “انتصار”، تصويتا في المنطقتين حدد فيه السكان ما إذا كانت مقاطعتهم “يجب أن تظل أوكرانية أو تنضم إلى روسيا”.
السيناريو الأكثر تطرفا والذي يعتبره العديد من المراقبين غير واقعي: أوكرانيا والغرب يهدفان إلى عودة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في 2014، إلى السيطرة الأوكرانية.
قال السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا جون هيربست أنه من غير المستبعد أن تنجح في “استعادة سيادتها” في لوغانسك ودونيتسك، لكن “لن يكون هناك على المدى القصير، حل تفاوضي بشأن شبه جزيرة القرم”.
ورأى دوكلو أن عودة شبه جزيرة القرم “تبدو مستحيلة”. وأضاف “من شأنها أن تقوض نظام بوتين الذي شكلت بالنسبة له عامل شرعية هائل في بلاده”.
أما غويا فاعتبر الاحتمال “صعب ا”، ما لم يكن هناك “انهيار مفاجئ” للروس. لكن “ميزان القوى متوازن جدا بحيث لا يمكن تخيل انتصار باهر دفعة واحدة”.
الاتحاد الاوروبي يشدد عقوباته مع حظر تدريجي على النفط الروسي
أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية الأربعاء أن الاتحاد الأوروبي سيكثف ضغوطه على موسكو بفرض حظر تدريجي على واردات النفط وعقوبات جديدة “ليدفع (فلاديمير بوتين) ثمنا باهظا ” لحربه على أوكرانيا.
ورئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية البطريرك كيريل الداعم المعلن للحرب على اوكرانيا، من الشخصيات الجديدة المدرجة على القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي إلى جانب عائلة المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف والعديد من العسكريين الذين يشتبه بارتكابهم جرائم حرب في بوتشا، بحسب الاقتراح الذي اطلعت عليه وكالة فرانس برس.
وقالت أورسولا فو دير لايين خلال عرض الخطوط العريضة لدفعة العقوبات السادسة أمام أعضاء البرلمان الأوروبي المجتمعين في ستراسبورغ “نوجه بهذه الطريقة اشارة قوية الى كل الذين يقودون حرب الكرملين في اوكرانيا: نعلم من أنتم وستحاسبون على أفعالكم”.
وس لم الاقتراح ليل الثلاثاء الأربعاء إلى الدول الأعضاء التي ط لب منها المصادقة عليه.
يجب الموافقة عليه بالإجماع. وأوضح مصدر دبلوماسي أنه يمكن شطب أسماء وتخفيف اقتراحات.
الهدف المعلن هو الدخول حيز التنفيذ قبل تاريخ 9 أيار/مايو الذي ي حتفل به في روسيا باعتباره “يوم النصر” على ألمانيا النازية.
وأوضحت فون دير لايين أن اللجنة تؤيد “فرض حظر على النفط الروسي الخام والمكرر المنقول بحرا وعن طريق الأنابيب”.
كما تضرب العقوبات القطاع المالي مع استبعاد أهم بنك روسي “سبيربنك” الذي يمثل 37% من السوق ومؤسستين أخريين من نظام سويفت العالمي.
وأقرت رئيسة المفوضية الأوروبية بأن “الأمر لن يكون سهلا “. وقالت وسط التصفيق “على بوتين أن يدفع ثمنا باهظا لعدوانه الوحشي” على اوكرانيا.
قرر الاتحاد الأوروبي وقف مشترياته من الفحم ووجد موردين آخرين في الولايات المتحدة مقابل ثلث مشترياته من الغاز الروسي.
وأوضحت أن وقف استيراد النفط سيكون “تدريجيا ومنظما من أجل إيجاد شبكات إمداد بديلة والحد من تأثير (هذا القرار) على الأسواق العالمية”.
وقالت فون دير لايين “على الاتحاد الأوروبي التخلي عن شحنات الخام في غضون ستة أشهر والمنتجات المكررة بحلول نهاية العام”.
واقرت بأن العديد من الدول “تعتمد بشكل كبير” على الغاز الروسي. اقترح استثناء للسماح للمجر وسلوفاكيا بمواصلة عمليات الشراء من روسيا حتى نهاية عام 2023 لأن هذين البلدين يعتمدان كلي ا على الشحنات التي تسلم عبر خط أنابيب دروجبا بسبب عدم وجود اتصالات مع بقية دول الاتحاد الأوروبي، كما صرح مسؤولان أوروبيان لوكالة فرانس برس.
وأعربت المجر الأربعاء عن أسفها لعدم وجود “ضمانات” لتأمين موارد الطاقة للبلاد.
وشدد أحد المسؤولين الأوروبيين على أن “كل حزمة جديدة من العقوبات ضد روسيا أصعب لتبنيها لأنها تفرض خيارات سياسية على كل دولة عضو. الإجماع ضروري ولا ضمانات لتبنيها”.
وتعهد الأوروبيون في آذار/مارس خلال قمة بالتخلص “تدريجيا ” و”بأسرع ما يمكن” من اعتمادهم على الغاز والنفط والفحم من روسيا.
في عام 2021، زودت روسيا 30% من النفط الخام و15% من المنتجات النفطية التي اشتراها الاتحاد الأوروبي. وتؤمن 150 مليار متر مكعب من الغاز سنويا.
وقال إريك موريس مدير مؤسسة شومان في بروكسل إن “تنويع المصادر والإمدادات يستغرق وقت ا ويتطلب بنى تحتية”.
ذك ر رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي البرلمان الأوروبي الثلاثاء أن المشتريات الأوروبية تمول المجهود الحربي الروسي.
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، حققت الواردات الأوروبية من الغاز والنفط والفحم أرباحا للكرملين بقيمة 44 مليار يورو وفق ا لدراسة أجراها مركز أبحاث في فنلندا. الدول الأربع الرئيسية التي تشتري من روسيا هي ألمانيا وإيطاليا وهولندا وفرنسا.