«قلعة المتاهات» للقاص المغربي سعيد رضواني‬

لايتيح لنا النص السردي التعرف على هويته، لكننا نعرفه كفرد منا أي كمنتوج لتاريخ محلي، وكتجربة اجتماعية مؤطرة بوعي ثقافي ومعرفي وفني، بمعنى ذاك الكل المتجانس الذي يشكل المؤلف، غير أن سطوة المؤلف على المحكي لا تحضر بالشكل الكلاسيكي للسرد ، إنما يحضر كبؤر متفرقة وغير مدركة، فالنصية تتحقق من خلال تعدد الأبعاد وتنازع أنماط مختلفة من الكتابة داخل القول الأدبي، إنه نوع من التجاوز لسلطة المؤلف وتحققها بشكل مغاير وجديد. يقول رولان بارث «ولقد تتجلى سلطة الكاتب في خلط الكتابات ومعارضة بعضها البعض» ،تبدأ قصة «استدراج» بهذه الجملة «ترن الساعة معلنة عن الواحدة ليلا متبوعة بنقر على الباب» من هو صاحب هذه الجملة وما مصدرها، هل هو البطل ؟ المؤلف؟ أم الكاتب الفرد؟
 لا تتحقق فنية الجملة ولا سرديتها إلا بفعل القراءة، فالقارئ هو القائل، لأن شحنة المعنى لا تتحول إلى طاقة بدون تحقق الفعل القرائي، وبه ( القارئ)، تتخذ الكتابة شكلها ككائن حي ينمو ويتطور ويتفاعل، في ذهن القارئ وفي هواجسه وفي أفق انتظاره « أحدق في الظلام لعلي أجد إنسانا طرق باب بيتي خطأ فلا أجد أحدا» . الكتابة من خلال الجمل السردية لقصة «استدراج» هي تشكيل داخل فضاء الكاتب، تشكيل نفسي وتاريخي ولغوي وسياسي، تشكيل تمت بنينته كلغة سرد، لكنها كأثر لا تتحقق إلا من خلال ذات قارئة، بمعنى أدق أنها تنتهي كصنعة لتبدأ كفعل حي أو كنص يمنحه القارئ المعنى والدلالة والقيمة، ولا يستطيع النص التفاعل دون القراءة التي ليست سوى إعلان موت المؤلف وبداية النصية كفن ينتقل من فضاء الكاتب إلى فضاء أرحب وهو التاريخ الجمعي واللاشعور للقراء. من الذي يحكي في قصة استدراج، المؤلف أم البطل؟ إذا كان المؤلف هو الحاكي، فما تجلياته؟ وإذا كان البطل فما هي أدواره؟ وإذا كان الكاتب كفرد، فما هي مظاهر تجربته؟.
إن نظام التوازي عبر المتتاليات السردية المؤطرة ببؤرة وحيدة، ذات /قصة، مجرم /ضحية، زمن دائري، يقحمنا في بنية من التماثل داخل الحبكة، تحررنا من الفعل النقدي التقليدي، وتدفعنا إلى الاحتراب داخل بنية النص كعلاقة دالة تنتفي عناصر الارتباط بالمؤلف والبطل والكاتب كشخص، وتستدرجنا إلى الحكاية كمتعة فنية، غاية مسعاها تحقيق النصية المفتوحة على حرية في انتاج المعنى، النص كلذة خاصة يصنعها القارئ عبر علائق لغوية موضوعة بتصميم مسبق أو تداع حر أو فلتة لاشعوية للتعبير عن قلق ما إزاء فعل الكتابة كجرم أو كخوف من السلطة، أو كمتاهة مقلقة تعيد إنتاج نفسها في عالم محكوم بنفس الفعل ونفس الزمن ونفس الحكاية، وعناد المؤلف بإصراره على هزمها بفعل الحكي المنتج لآثار عديدة أثناء فعل القراءة، التأمل، والمتعة، القلق، التشويق، والانتصار لسلطة الحكي وقهرها للتاريخ واللاقيمة، وضآلة المعنى. لهذا كرر الكاتب جريمته/قصته في وجه المجهول الذي يطارد كياننا.التاريخ لا يمنح الكاتب لغته لأنها تتداول وفق معان سابقة على النص، لهذا ينتج الكاتب لغة تمنحه بناء معاني جديد أو أسلوبه الخاص في عرض اللغة كلفظ وكتركيب وكمعنى، غير أن إنتاجه لايوفر له حرية مفتوحة طالما أن اللغة ككلام سابق تنطوي على ترسيب من المعاني يستحيل إعادة إنتاجها دون إحداث بنية تفاعلية تنتج المعنى الجديد الذي ليس في نهاية المطاف سوى الابداع الفني.
تبدأ قصة «قلعة الحروف والكلمات» بنفس سردي أسطوري، يوحي به فضاء القصة، البحر والرمال والشيخ ، الكتابة، الحكمة، « وصل الهواء إلى رئتيه، وأدرك عندئذ أن موجة قد طوحت به إلى شاطئ مجهول، لكنه لم يدرك أن الرياح التي طوحت بقاربه إلى هذه الوجهة هي نفسها الرياح التي ستطوح بحلمه الكبير في أن يخلد تجربته ككاتب»، هنا يعبر الكاتب عن تفرده، يعلن أسلوبه في نسج القصة، حيث ينبسط تصوره للتاريخ والقيمة، تلك الغائية الاجتماعية الدافعة لممارسة القول النصي، حيث يتفاعل الابداع مع المجتمع، تفاعل دلالي يلامس التاريخ ويسائله، «وعليها سيمارس كتابة من نوع آخر كتابة مختلفة، كتابة مملكة صغيرة بالطوب والحجر، بدل الحروف والكلمات، مملكة تسكنها سلالة من الأبناء والأحفاد، كتابة بالحجر والبشر». سيظل هاجس بناء عالم مختلف له أبعاده، ويتصرف في زمنه كما يشاء، له سكانه وأساطيره الخاصة، المبنى العام الذي يحكم فعل الكتابة ويؤسس الأسلوب كوسيلة لإضفاء الواقعية على المتخيل، فبهذا الغائب المحكوم براوٍ يمتلك سلطة توزيع الأدوار وبمؤلف يركب العلامات، وكاتب يرصها داخل أسلوب انسيابي في الكلام، ينكتب تاريخ الإنسان، فالغائب المحكي كسيرة في القصة مثقلا بكثافة ( الإسلام، المسيحية، الغرب، الشرق، الثروة، الفقر، الحضارة، الخير، الشر، السلالة، الاحلام…)،وتبقى العلامة السردية الحاضر كتبئير نصي هي المأساة، ( انتحار مفاجئ للأب دون وجود ما ينبئ بذلك في سيرته المليئة بدماثة الخلق وجهد العمل)، والمأساوية حضرت كرغبة دائمة عند الكاتب في نفي التاريخ والتوقف عن استهلاكه، وتجسير المرور نحو الحلم كتعالٍ ونبل يقابل التدني والقبح اللذين ينضح بهما العالم ( تحويل الابن حلم الأب في بناء قلعة الحروف والكلمات بجدران على شكل أحرف إلى عمل أدبي متناسق كجدران وبنايات)، فالقصة هنا هي كتابة المستحيل، التدمير والانبعاث، ذلك النزوع الراسخ لكتّاب الحداثة في صناعة التجدد، وترسيخ دلالات جديدة، وأنسنة الاحلام، «نم مطمئنا أيها الابن في كتابك فأنت النثر وأنت الشعر، وأنا من سيدبج على هذه الأرض، بالحروف والكلمات، جنب هذا القصر الرملي الصغير، حكايتك وحكاية أبيك، في قصة ستكون بدايتها وصل الهواء الى رئتيه…….ونهايتها كتابة على الأرض».الحكي من صميم الوجود الانساني، وقد انطلقت الحكاية منذ تكلم الانسان، والحكاية مشترك إنساني عام قابل للتداول خارج السياق الاجتماعي والتاريخي المنتج له، ويمتلك قدرة على تجاوز الزمن والحدود الثقافية، وإذا كان المحكي يمتلك هذه القدرة الخارقة على التجاوز والاختراق، فهل هو قابل للإخضاع؟. وإزاء تنوع المحكي و انشطاره بين النفسي والجمالي والتاريخي، نقف على مفهوم الوظيفة، أو الوظائف التي تقدمها المحكيات، فقصة «قطار لومباردي» تنبني على حكاية قطار لومباردي الأسطورية، القطار الذي يظهر ويختفي، وتوظيف هذا المحكي داخل القصة جعل محكيات عدة موازية يعرضها الراوي الذي يقل قطارا مأسورا بالسفر نحو محكي جديد، «يشعر كأن هنالك يدا خفية متآمرة ساهمت في انتقال سلس حولته من قارئ لحدث إلى مفكك للغزه. يخرج القلم ويشرع في كتابة مقالة تفسر للعالم حكاية انزلاق قطار من السكة إلى اللغة»، حكاية قطار لومباردي ولدت لتؤدي وظيفة الغرابة والدهشة وسحر الحكي، والمحكيات المتقطعة داخل حكاية القطار اقحمت للغرض ذاته ، وللوظيفة نفسها، وظيفة الدهشة والغرابة والجمال، فالقيمة الدلالية للمحكيات كسرد تتحدد في بعدها الإشاري الرمزي المحقق للمتعةو الاشباع، « يدرك أن ذلك ليس سوى حياة على الورق ،حياة يتلاعب بمصيرها أحد القصاصين»، فالزمن هنا ليس حقيقيا ولا يوجد إلا ضمن منظومة مرجعية محكومة بالمحكي، تتوالد داخلها متواليات سردية تنتهي وتبدأ في ديمومة مستمرة من العلائق والشبكات ينسجها الراوي حسب الوظيفة المتوخاة (إغراء، مراوغة، فك لغز، تلميح…)، « مثل شخوص يضيئها بريق الأحرف والكلمات بريق الكلمات والجمل، التي تتغذى منها ومما يحيط بها»

 


الكاتب : مصطفى بوتلين

  

بتاريخ : 09/05/2022