الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
لم يحدث قطّ أن نظرنا إلى الحرب برؤية حسنة، تستحضر مزاياها، أو على الأقل في علاقتها «الجيدة» بالأدب والفن، وما يدينان به لها.. أليست أعمال من كبريات المنجزات الخالدة، كانت الحرب موضوعها الرئيس، أو أنها كانت نتاج ما توَلّد عنها من مآزق وأزمات ومنزلقات في المسويات الفكرية (الفلسفية والعلمية…) والإنسانية (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية). لسنا، هنا، ندعو إلى «مساعدة الزلزال»، بتعبير الراحل أحمد بركات، لكن هي دعوة إلى إعادة النظر في هذا الابتلاء البشري الذي يطاردنا منذ أن رفعنا رؤوسنا عاليا واستقمنا نمشي، بل إنها [أي الحرب] لعنة قد لامستنا منذ الشرارة الأولى حينما همّ قابيل بضرب هابيل، في الأسطورة. بل إنها تكاد تمتد إلى الصراع الذي شبّ في السماء بين الرب والشيطان، ليكون الإنسان ضحية له وملعونا للأبد بسببه.
تسكننا الأساطير، بل توجّهنا في أحايين كثيرة، تصير بوصلة لمشاعرنا وأفكارنا. فماذا إذن، إذا نظرنا إليها نظرة أنْسَنَةٍ وإنسانية، وعدنا إلى تفاصيلها، كما نعود إلى تلك الآثار الفنية والأدبية، مطاردين الخيط الناظم بينها؛ سوف نجدها تشترك بحبل سري عنوانه «الصراع»، أو أكثر دقة «الحرب»: بين الأعلى والأسفل، بين السماوي والأرضي، بين الإلهي والإنساني: سيزيف، هرقل، بروميثيوس، جلجامش.. والإلياذة والأوديسا اللتان تأسستا على البعد الأسطوري في تمجيد الحرب، بل إن شهرزاد لَتحارب وتصارع شهريار لكي لا يسفك المزيد من الدماء (أدب في مواجهة الحرب).. وغيرهما الكثير الذي يمكن أن نعثر عليه في المِخْيال الشعبي والأسطوري لحضارات العالم. لقد تأسست أعمالنا الفنية والأدبية الأولى، إذن، على تمجيد الحرب.. على الإعلاء من المنقذ والإنسان الخارق الذي يعتق شعبه من كل الأخطار والويلات وينتصر لهم، أو يضحي بنفسه، ويصارع/يتحارب من أجلهم ومن أجل خلاصهم ومستقبلهم، (المسيحية انبنت على هذه الرؤية).
إننا منذورون للحرب، غير قادرين على الانفلات منها، وأينما وليت وجهك تجد حروبا، تاريخيا وجغرافيا. بل لم يكن للدول أن تُبنى لولا الحروب. ومن زاوية مقابلة، يمكن القول بأنه لم يكن للأدب والفن أن يكون لولا حالة الحرب التي ما تفتأ تخمد نيرانها حتى تعاود الاشتعال. نار الحرب كنار العنقاء، بقدر ما هي حارقة وقاتلة فهي متجددة.
تَولّدت في الزمن القريب، تيارات فنية وأدبية عديدة، شهد روادها الحروب الأهلية والصراعات المتفرقة في القرن التاسع عشر، وما تلاها من حربين عالميتين في القرن الموالي. إذ تبنت إحداها العدمية بقسميها الموجب والسالب، وأخرى نحت إلى الانغماس في الأفكار العبثية، وأخرى اختارت نظرة وجودية تعيد الاعتبار للفرد، من حيث أسبقيته للوجودية… بينما دعت أخرى إلى تفجير كل المؤسسات والبنى لتشييد عالم مستقبلي جديد. بين كل هذه التيارات التي خرجت من رحم الحرب، شيّد أدباء وفنانون عوالمهم التي تحدثنا بشكل مباشر عن «السلام والحرب»، أو تجعل من هذا الابتلاء الأبدي ذريعة ومدعاة للإبداع، ليتناولوا عبرها وبنفحة تهكمية أو «دونكيشوتية» الواقع والعالم، أو يجتروا ويلاتها على «البؤساء»، أو يبرزوا بـ»الأسود والأحمر» اختلافات الجنود المقتادين صوب الهاوية بين اليوم والأزمنة الغابرة، أو يتناولوا عالم ما بعد هبوب رياح اللعنة المدمرة، عالما ديستوبياً من جغرافيات ثلاث، أو يتحول فيه الكل أوتوماتيكيا محيّنين جينيا، حيث الكل» متساو لكن بدرجات».
ليست الحرب مدعاة للفرح والسرور، لا يجني منها المنتصر بدوره سوى الخسارات، لكنها مدعاة إلى التفلسف والتفكير.. فهي، بالنسبة لكاتب الفجر، مطيّة ليُبعث فينا السوبرمان (أسطورة معاصرة، ومخلص لا يوحى إليه وبديل لكل الأنبياء). وإذا كان «علينا أن نتنفس الحرب لنعيش السلم»، فلا بد من التفكير فيها بنظرة مغايرة. حيث إنها ليست مغامرة نعيشها بل مرض نصاب به، ولنشفى منه لا بد أن نعرفه أولا، وأن نحلل تركيبه الوراثي، وأن نبحث عن مصل مضاد غير ذلك الذي جربنا.
بحث البعض، بين الحربين العالميتين، عن المصل عبر كولاجات دادائية تعيد رتق تفاصيل العالم في تركيب جديد، أو من خلال ولوج ميادين الأحلام مخترقين الواقع إلى ما فوقه، أو الارتهان إلى تفكيك الحرب داخل مشرحة الشيء ونقيضه، أو إعادة رسم معالمها من زوايا هندسية مربعة ومثلثة حتى يستقيم النظر إلى بنائيتها.. أو إخراجها إلى الهواء الطلق وتعريضها لظواهر التعرية والانفلات والزوال، حتى تصبح مينيمالية، يمكن عرضها ضمن سياق أدائي أو إنشائي يعيد ترتيب الفوضى الفلوكسيسية التي تخلفها، فتوضع بجانب مبولة وعلبة براز وعصا قبيل في متحف مستقبلي قابل للانفجار.