حديث محبرة.. الكون إيقاعٌ ونغمٌ

 

لا يمكن بحال أن يكون لنا ذاك البعد الآخر..اللامادي، الروحي الذي ننعم ونختص به كبشر، ونتميز به كبني آدم، ونعتز به كجنس ترابي فانٍ مستخلف في الأرض، لو كان الكونُ أصمَّ، والعالمُ أبكمَ، والجهاتُ خرساءَ، والأركانُ طبولا جوفاءَ، والألوان اثنين: أسود وأبيض، والسماتُ متشابهةً، والوجوهُ واحدةً طويلةً أو مكورةً، والأنوفُ أخواتٍ فطساءَ أو عقفاء، والجباهُ بارزةً أو مقعرةً، واللغةُ واحدةً يتكلمها الإفريقي والأسيوي والأوروبي والأمريكي والأسترالي: عربا أو روما، أو عجما، أو حبشا، أو بيضانا أو سوداناً، أو حراطينَ.. الخ الخ، والفكرُ كربونيا مستنسخا يوحدنا ويشبكنا كصورة النعجة المشهورة ضُولي، وهلُّمَّ صوراً، وتسميات وصفات ونعوتا وسحنات.
أما ذلك البعد الآخر، أما تلك الخاصية بل خاصية الخاصيات، فهو / هي الاختلاف والتكاثر، والتعدد، والأصوات، والأصداء، والألوان، والزخرفات التي تبهجنا وتبهرنا، والأضداد التي تُسَوّينا، والاستعارات التي بها نحيا، والتي بها نشقى ونسعد، ونبلى ونتجدد.
فهل في وسعك ـ أيدك لله وأيدنا بروح منه ـ التفكير، لحظةً، في هوة العدم، في قرارة الخواء، والصمت المطبق المخيف، والظلام الطويل الوبيل المروع، والشواش العظيم، والزلزلة الرهيبة المتواترة، واللونين يتعاقبان، يجريان، يتداركان، يتصلان وينفصلان إلى ميقات يوم معلوم وغير معلوم؛ يصيبان الإنسان بالهم والكدر والضجر والكآبة. ومن ثَمَّ، فالخالق خلق وقَدَّرَ، وأحسن التصوير ودبَّرَ، وأودع في الكون الروح والريح، أودع فيه الألوان والجمال والسحر، والحس والحركة، والإيقاع، والنواميس والقوانين، كلٌّ يسير وفق هدف وغاية، ويجري نحو ما قُيِّضَ له، وما اجترحه عقل الإنسان، وسعيه المشكور، وابتكره نبض القلب والوجدان. فالإيقاع، بما هو حراك ودينامية، هو كل شيء. هو مربط الفرس، وقطب الرحى، وناعورة الأبد. وهو سارٍ متغلغل في الكون كما قال رأس المدرسة الأكبرية، سلطان العارفين الشيخ محيي الدين بن العربي. لا وجود لشيء من دون إيقاع، ولا اهتزاز، ولا ارتجاج، ولا نَوَسَان، إذ ما معنى الروح والريح والهواء والنسمة، والنأمة، والدبيب، وأصوات الإنسان والطبيعة والحيوان، وباقي الكائنات الأخرى؟. ما معنى الخرير والرسيس والهسيس، والصفير، والتغريد، والحفيف والفحيح، والصهيل والزئير، والهديل، والعواء والمواء، والغناء والصداح، والشجا، والجفجفة، والارتعاشة، والهدهدة، والنمنمة، والخشخشة.. الخ.؟ ما معنى ذلك جميعا إنْ لم يكن إيقاعا ونغما وموسيقا، وعددا وطربا؟
لقد تفطن فلاسفة الإغريق قديما للمسألة، لأمهات الحياة، ولركائزها، وما به قوامها أيْ الأسطقسات: الماء والهواء، والتراب والنار. واهتدى أحد أعلامهم الرياضيين الفلكيين والفيزيائيين، إلى أن الكون عددٌ ونغمٌ، وهندسة وإيقاع، وتوازٍ وانسجام، وتناسب، فطَوَى بذلك، بجرة التماعة فكرية عبقرية، أدْهُراً عرفت تأتاة، وتذبذبا، وترددا، وخبطا، وحيرة. حيرة الإنسان قبلهم الذي كان ملتصقا بالأرض، مهموما، ومنهما بإشباع البطن والغريزة، مقتصرا عليهما، بعيدا عن التفكير في هذا الكون المتسع الوسيع المديد الذي ما انفك يتمطى ويتمدد بفعل الحراك الأبدي، والعلة الأولى، وداعي الحياة السرمدية.
ومعنى قول الفيلسوف فيتاغوراسْ السابق أن الكون كائن ومُكَيْنَنٌ وفقا لنواميس وقوانين، وخفايا وخبايا، وذرات، ومونادات، ودقائق حساب لا يحيد عنها ولا يزيغ، وإلا حلت الطامة، ونزل الهلاك، ووقعت الواقعة، وغَشيَ الناسَ ذُهولٌ مَهُولٌ يعقبه فناء عظيم.
وحسبنا أن نضرب مثلا بالموسيقا، بكل أصنافها وأنواعها وأضربها. وبالشعر، بأشكاله، وأغصانه وأفنانه، وطيوره، وبالطبيعة مصدرا سخيا رخيا دافقا بالجمال والفن والإلهام والبعث، والتجدد، والحياة. وحسبنا أن نقف عند هذا الحد، لنترك الكلمة للأستاذ الجامعي والموسيقي الفرنسي بييرْ سوفاني، وهو يقارب فكريا وفلسفيا مفهوم الإيقاع « الزئبقي «، مؤطرا إياه ضمن مجالات بأعيانها، بعيدا عما شرعت الخوض فيه من عمومية الإيقاع، وصوره وظلاله، وانوجاده في كل نأمة ونسمة وبسمة، وركن، ومكمن، وزاوية، وأفضية، وأزمنة، وشعر، وموسيقا، ورقص، وتشكيل، وغيرها.
وإذاً، إلى المقالة التي عَرَّبْتُها، وتصرفت في جزء يسير من مفاصلها خدمةً لانسجام العبارة، ومتطلب اللغة والأسلوب.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 03/06/2022