حفيد ابن بطوطة عبد الحميد جماهري والدوخات الصينية التسع 1/2

 

تنوير لا بد منه: (احترازات منهجية):

أنجزت هذه المداخلة التي اخترت لها عنوان: «حفيد ابن بطوطة عبد الحميد جماهري، والدوخات السبع في الصين العجيبة» في سياق حفل توقيع كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا…من المستقبل(2021) الذي نظمته الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين، لجهة بني ملال. خنيفرة، بتنسيق مع جامعة السلطان مولاي سليمان، والجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، فرع بني ملال، يوم 26 ماي 2022 بمقر الأكاديمية، لفائدة تلميذات وتلاميذ الأكاديمية بالأساس، وأساتذتها، وذلك ضمن استراتيجية الأكاديمية القاضية باستضافة قدوات وطنية، من مختلف مشاربهم المعرفية، وتجسير العلاقة بين الأكاديمية والجامعة، بين حال التلاميذ ومآل الطلبة… وهي المداخلة التي سأقترحها على القراء الكرام، دون تخصيص، وتعميما «للدوخة» وتداعياتها…
وقد أعددت هذه المداخلة على أساس قراءة عاشقة للكتاب/ الرحلة، تتيح قدرا من تداعيات حرة، وتتضمن نصيبا من تأويل «جانح» مُؤسّس، وما يقتضيه العشق من «دروشة» متعالية، و»طاقة خلاقة»، شبيهة ب»التشي» الصيني /الروح أو النفس، وهي تخترق الكتاب وتتجول في جسده بسرعة وتلقائية، وتخرج منه بحرية وانطلاق لتعود إليه في حلول صوفي لا ينفصل. ولتحقيق هذا المبتغى، أو على الأقل الاقتراب منه، أسجل الاحترازات الآتية، وألتمس من القارئ التقيد بها، حتى نهاية المداخلة، وما بعدها:
أولا، سأستبدل حفيد ابن بطوطة، أو الحفيد، بالكاتب الفعلي عبد الحميد جماهري، وبالتالي سأستغني عن استعمال اسمه الكامل، بذيوعه وشهرته وحجيته، وسأقتصر فحسب، وعلى امتداد المداخلة، باللقب الذي اختاره الكاتب نفسُه لنفسِه، في قمة دهشته ودوخته في أثناء عودته من مستقبل الصين، وأمام تمثال جده الرحالة المغربي الشهير: ابن بطوطة، ووريثه الشرعي في المنجز والمرتقب،… فوجب التنبيه.
ثانيا، سيغلب الهاجس البيداغوجي، والتعليمي والتعلمـي على هذه المداخلة بالنظر إلى حيثيات إعدادها ومنتهى مقاصدها. حيثيات يراعي المناسبة وتستحضر إشراطاتها، خاصة وأنها أعدت للتلميذات والتلاميذ، ومن في معناهم، أو معنى من يؤطرهم، وهم مستقبل دوخاتنا القادمة، من جهة، ومن جهة أخرى، تستحضر خطى حفيد ابن بطوطة، بخصوصية الكتابة عنده، بمرحها الكبير، وفرحها الباذخ، ولعبها الجدي، ومن الكتاب إلى الكتاب.
ثالثا، اختياري لمفهوم الدوخة أو الدوخات، كمفهوم إجرائي لقراءة كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا… من المستقبل، محكوم بدرجة حضور المفهوم في الكتاب (الدوخة والدوخات، ص139)، وقوته الإجرائية في مواكبة رحلة غرائبية كالتي عاشها الحفيد، بشغف ودهشة طفوليتين، وأبى إلا أن يوثقها نوعا من التوثيق، ويحكيها لنا كما عاشها. فالدوخة من المفاهيم التي قام عليها الكتاب، وعلى أساسها يُفهم. فالدوخة مردوفة، في سياقات متعددة، بما يلزمها من دهشة وانبهار وغرابة، وحيرة وعجب..، بمعنى، أن مضمون الدوخة في هذه المداخلة، بعيد كل البعد عن توظيف «سياسوي»، كما ورد عند وزير سابق في حكومة سابقة، في سياق سابق(المداويخ)، وبعيد أيضا عن كل استعمال «شعبوي» سائر. أقصد بالدوخة إحساسا بحدوث خلل ما في نسق معين. بعبارات أخرى، أعني بالدوخة حصول فقدان التوازن. ويكون، إما عصبيا أو نفسيا أو عقليا، أو جسديا، أو هي جميعها، لسبب صادم أو آخر. مثلا، سيارة بدون سائق في تمثل ربط السيارة بالسائق؟ دهشة وغرابة وحيرة فدوخة…فجنون..
رابعا، يتعلق الأمر بمحضر ومعاينة بالتراضي (Le constat à l’amiable): فقد سبق أن دخلت الصين أول مرة من بوابة كتاب: نحن والصين، الجواب على التجاوز الثاني، للأستاذ فتح الله ولعلو منذ (2017). وهو كتاب يتحدث عن الحدث الاقتصادي الصيني، ومسار إقلاعها، وطبيعة العلاقات بينها وأفريقيا، والعالم العربي والدول المغاربية، فالمغرب… وخرجت منه سليما ومعافى، منسجما ومتزنا؛ لكن الذي حصل في تجربة دخول كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا… من المستقبل، للحفيد، وقد دخلته، بلهفة وتوثب وفرحة، هو خروجي منه حائرا وكئيبا ومندهشا، وفاقدا للتوازن دائخا…؟؟؟… والحكم في تقدير «التعويض»، لمن دخل الكتابين معا وعاد منهما؟؟
خامسا، انطلق الحفيد في كتابه من فرضية إقرار وإذعان: دون مقدمات، قائلا، وقد سلّم نفسه للدوخة: «من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها»(ص5). بمعنى، قد تذهب إلى الصين، بكامل قواك العقلية والنفسية… وتعود… لكن لن تعود إلا مندهش وحائرا وكئيبا، وبالتالي دائخا… وقد تستفيق وقد لا تستفيق..
في امتداد التنوير والتدويخ

…من لم يدخ بعد العودة من مستقبل الصين، ولم يفقد قواه العقلية والنفسية، ولم تتزعزع ثقته في ذاته، وفي وجوده الحضاري، ومن لم يُصب بالدوار، وفقدان توازنه، فبركاته سماوية، فلنبايعه وليا صالحا، أو لنُتوجه سندبادا بحريا للقرن الجاري…؟؟؟
يقول المغاربة في مثل سائر(لي داخ… يشد الأرض…). وقد دختُ وأنا أقرأ كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا… من المستقبل، لحفيد ابن بطوطة، وأصبت بالدهشة والعجب والدوران، وحرت هل أصدق عيني الحفيد، وما خطه بعد عودته من المستقبل/الصين، وهو قدوة عندي في اليقظة والنباهة والمواقف والثبات عليها، وحُجة عندي في الكتابة والتأليف والتصديق عليها. اختلطت عندي كقارئ، الموازين والمقاييس والأحجام والتمثلات، وتداخلت الأزمنة بالأمكنة، ولم أعد أدرك موقع الأرض من السماء، ولا قادر ا على رسم الحدود بين الواقع والخيال، ولا عرفت أين يبدأ العلم وينتهي الخيال الجانح، وامتدادهما في الخرافة والأسطورة، وقد تشبعت بهما والحفيد، بل لم أقدر أن أفصل الصّدق في الكتاب، وتلك حالة الحفيد، فأطمئن إليه، عن الكذب و»مهن الوهم» فأجتنبهما، وتلكم سُنة الكتابة وطبعها. حيـرة وتيه، ودوخة وجودية،بحق…
بالفعل، (لّي داخ إشد الأرض)… بمعنى من فقد التوازن، ودارت به الدوائر، خياره الأوحد أن يجلس على الأرض، لاسترجاع قواه المفقودة، واستعادة توازنه المختل، لنهضة ثانية، وأفق آخر… إنها يقظة بعد دوخة، وفِيقةٌ بعد غَفوة..إن حدثت. «شدّيت» الأرض وأخذت القلم، وكتبت ما كتبت، مما سأحكيه للقراء الكرام في تسع دوخات دُختها، وقد تلزمني وحدي، وأنا أستحضر تمثلي عن الذاهب إلى الصين، والعائد من مستقبل غرائبي وعجائبي لصين جديدة عجيبة، بتعبير الحفيد، وهو من خطّ الكتاب بيمينه، وتأمل ماضي الصين العريق، ورصد راهنها ومستقبلها المدهش الرهيب والمدوخ، وهو يحمل هم بلده معه أينما حلّ وارتحل… وإن بقبعات مُنصهرة، وبلون قزح في سماءٍ صافية، وهو في قمة عُمره المشمشي:
أولا، قبعة الكاتب الشاعر المندهش الذي ينتقي الكلمة ويحشوها حتى الثمالة، ويسبك العبارة سبكا، ويدقق في النظم كأنه يصوغ قصيدة مدحية سلطانية، أو يسبك قلادة إمبراطورية (ص212)/213)، وثانيا، قبعة الكاتب الصحافي المهني، والخبيـر الإعلامي ، يزن الحديث عن المواقف والأحداث والأخبار والشخصيات، ويجبـر الخواطر، ويتعامل مع البشر والحجر، بميـزان دبلوماسي «هادئ» ونافذ، وعُدته بلاغة السخرية التي تقتل وتُحيي، وقد تكسر الخاطر، وثالثا، قبعة الكاتب المتـرجم، وهو يمد الجسور بين اللغات والحضارات والتجارب والرؤى، ورابعا، قبعة الكاتب الممارس السياسي، بمكرها الأبدي، ورهان الموازنة بين المبادئ والمصالح، ومعادلة اليمين واليسار، وخامسا، قبعة الكاتب المنتمي لحزب وطني، بأفق حداثي، ينتصر للحياة في خلودها، على شاكلة جلجامش … كل ذلك، تحت جلباب «شيخ متنور» استبطن القرآن الكريم، و»محا اللوحة»، وصارت لغة الكتابة عنده مرصعة به… الدوخة دوختان إذن: دوخة أولى، تصيبك وقد خرجت من الكتاب، ودوخة ثانية، تأتيك وأنت تتلمس همسات الحفيد، وهسيس لغته الفاتنة، وبلاغته اللاذعة، وخبرته الصحافية والإعلامية في تدوين الدهشة … والدوخة تَبْعَة دوخة… مجنون، ومجنون من صدّق ما قرأه في كتاب الحفيد، مما سأعرضه عليكم من الدوخات التسع، خرجت بها من دهشة قراءة الكتاب… ولَكُم أن تندهشوا، كم يحلو لكم، وأن أدوخ كما أشاء …
في التوطئة للدوخات التسع:

يتكون عنوان كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا… من المستقبل، للحفيد من ثلاثة مكونات متفاعلة ومتضامنة، نُداعبها على الشكل الآتي: ذهبنا إلى الصين… جملة خبرية في لغة البلاغة، تتوجه بخبـر أو معلومة، بلغة الصحافة، إلى مخاطب، سامع أو قارئ، خالي الذهن، لا يجادل أحدهم في صدق الخبـر/ المعلومة أو كذبها. إنها جملة تقريرية، تسلم بأن المسمى عبد الحميد جماهري، وبصيغة ضمير الجمع، تواضعا أو إشراكا، قد ذهب بالفعل إلى الصين… هو ومجموعة من مرافقيه… وعاد، أو عدنا… في سطر مستقل، مع ثلاث نقط الحذف (…) للقارئ أن يملأها بما يشتهيه ويراه مناسبا… كل ذهاب يقتضي ضمنيا العودة… وقد تمت بالقول والفعل… فقد عاد الذاهبون إلى الصين، ورفاقه بسلام، ولكن ليس ككل عودة تقتضي ذهابا ورجوعا عاديين…. فالنقط المحذوفة بعد العودة، توحي بأنها تتضمن أحداثا ووقائع وحقائق وأهواء ووجدان، وغرائب وعجائب مذهلة ومدوخة…عاشها الذاهب ومن معه، كما تشي بذلك صورة الغلاف التي تحيل، وفي وِضعة أمامية، بلغة السينما، على صورة الكاتب، وخلفه سور الصين التاريخي العظيم. وهو إحدى عجائب الدنيا السبع التي تذكر بالماضي الصيني التليد وأهلها، وهم يطلبون الأمن ويسعون للاستقرار. ولكن المفارقة التي يتقن الحفيد، غفر الله له، رصدها ومحاصرتها، ومعاقبة أصحابها، هو عدم جدوى السور بعظمته المعمارية، ومتانة بنيانه، وحصانته العسكرية. فقد تم اختراقه، بإرشاء حراسه، والقائمين عليه، فحصل الغزو لمرات عديدة. هكذا، أدرك عقلاء الصين أن بناء الإنسان، هو المدخل الأول والأخيـر لتحصين السور (سؤال الأخلاق) وبناء الدولة والتمكين لها داخليا وخارجيا. ذلك ما اهتدى إليه النموذج المغربي التنموي الجديد، لما اعتبـر تعزيز الرأسمال البشري/ الإنسان أولى الأولويات في كل نهضة أو «قومة» أو تنمية (ص92 وما بعدها…). فالرهان على بناء الإنسان، وتحصين سُور القيم عنده…أهم من السور نفسه على عظمته.
ودائما في دائرة غلاف الكتاب، وتداعيات عتبته، التأكيد، من منظور مغربي، وعربي إسلامي، أن الصين لا ترتبط دوما بالسور العظيم، على الأقل في مخيلتنا الثقافية نحن المغاربة فحسب، كما ارتبطت في مخيلة الصينيين بالرحالة العالمي الشهير ابن بطوطة الطنجاوي (703-779 هـ / 1304 – 1377م)، لذلك لا غرابة أن يخصص له حفيده شهادتين دالتين، الأولى، ها نحن نقترب من مدينة ابن بطوطة(من ص77 الى ص89/) والثانية، في حضرة ابن بطوطة بمدينة تشيو انتشتو(من ص81- 89)، من ناحية، ومن ناحية بعدما حرص على تثبيت صورة مع جده، على يمين غلاف الكتاب، وبِوضعية جانبية، بما هي مَحْكي يُوزع أحداثه على صفحة الصورة، وعلى العين الرائية أن تكتشف الانسجام فيها، والدلالات المرجوة. فعنوان الكتاب، والصورة المرفقة، ترجح دعوى أن الكتاب عبارة عن رحلة حفيد ابن بطوطة من المغرب إلى الصين، وعودته من الصين إلى المغرب، كما يعود كل العائدين في سفر أو رحلة، واقعية أم متخيلة. لكن المفارقة أن العودة ليست كالذهاب، ولا الذهاب كالعودة. كأننا أمام جنس تركيبي، يعرف في الأدب بالخيال العلمي:
خيال، تُخرق فيه قواعد المنطق، الصوري والرمزي، وتُضمر فيه قوانين العقل والعقلانية، وتخيب بالتالي أفق الانتظار، وعلمي، لأنه ينتمي إلى مجال العلم، ويعتمد آليات البحث العلمي، وصرامته المرعية، لكن تتجاوز قدرات الإنسان على الفهم والاستيعاب والتمثل، إلى درجة الحيـرة والغرابة والدهشة والدوخة. منتوج علمي يتجاوز قدرات الإنسان الطبيعية، ويدخل في باب الخيال الجانح ويصعب قَبوله وتصديقه. ذلك ما باح به الحفيد قائلا: «غير أن الذي رأيته في هذه الزيارة يبدو لي غير قابل للتصديق» ص 12(صدق أو لا تصدق…). مع ذلك، كتبه الحفيد ظنا منه أننا سنصدقه، وهو نفسه لا يصدق ما كتبه. وليلتمس لنا العذر ونلتمسه له، فنحن جميعا زوارا كنا أو قراء ، في حالة دوخة عارمة، لا تختلف عن دوخات السندباد البحري السبع، في سفرياته السبع المشهورة على بساط الريح، في الليالي الخالدة (من ليلة 530 إلى ليلة 560)… سبع دوخات ودوختان، تلك هي التي عدت بها من صين الحفيد؛ وإن صعب تصديقها، فضمان متعتها والانبهار بماضٍ لا يُثقل، والإعجاب بمستقبل لا يسحق، قائم مضمون… دوخات ممتعة…
الصين والصحافة والإعلام، والتنبؤ المغربي

تأتي هذه الدوخة الأولى التي أصيب بها حفيد ابن بطوطة، وأصيب بها كل من دخل الكتاب وعاد منه، على إثر تجربة عاشها في الصين مع الصحافة والإعلام. وآياتنا في ذلك، تجربة صحيفة الشعب اليومية، التي كتب الزعيم ماو سيتونغ، صديق المهدي بنبركة وقتها (ص188)، عنوانها بخط يده. والصحيفة هي لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وما تعرفه من تحولات سريعة، وتطورات إيجابية جديرة بالتأمل والاعتبار. تأسست الصحيفة الورقية في سياق الثورة الماوية يوم 15 يونيو 1984، وتحولت منذ فاتح يناير 1997 إلى صحيفة إلكترونية. فصارت منصة معلوماتية ضخمة، بمجموع قراء المواقع يصلون إلى 100 مليون قارئ، وتُشغل 3000 شخص، معدل أعمارهم وأعمارهن 29 سنة، أغلبهم نساء (ص61). وقد دخلت بورصة شنغاي الدولية، بما مقداره 3 مليارات دولار. وتنطق بالعربية والصينية والفرنسية والانجليزية والاسبانية والروسية واليابانية.(.ص22)، أي بكل لغات العالم الحية المؤثرة.
معلوم أن حفيد ابن بطوطة مسكون بالصحافة والإعلام، ولهما حبّس حياته. فما عرفته التجربة الصينية من تحولات نوعية في هذا المجال، والنجاح الذي حققته، وانتقالها المبكر إلى عالم الرقمنة، أعاده إلى تجربة مغربية بتنبوءاتها، وفتوحاتها. تلك التي عاشها وكتب عنها، زميله ورفيقه محمد البريني، وخلدها في كتابه: الكهف والرقيم (2018). كتاب خطه صاحبه بكثير من الحُرقة والمغص، وضمنه خبرةً طويلة ذكرت الحفيد بما يحصل في الصين وبما عاينه وشهد عليه. فقد كانت معركة محمد البريني، الدفاع عن فكرة الانتقال من الصحافة الحزبية، الناطقة باسمه، بإكراهاتها الماضوية، وثقلها الرمزي والتاريخي إلى مرحلة السوق، وما يطلبه المستهلك (ص93/94/95). كانت الضريبة غالية، تلك التي دفعها الصحافي المتنبئ سي محمد البريني وقتذاك، ومع ذلك أصر على المواكبة، كالمجنون، وواكب، ونجح قدرا من النجاح، بعدما أدرك أن المعلومة قد تحولت من الحق في الحصول عليها إلى بضاعة معروضة في السوق (ص104.). تلك حكمة، ما سماه الحفيد، بالفورة الرقمية الجائحة، زمن تحويل الصوت إلى حروف (اعلم حفظك الله أن لهم تقنيات تحول الصوت إلى…حروف، (ص111).
إن مجال الحسابات الضيقة التي كانت تحكم الصحافة الحزبية في سياقات سابقة قد انتهت شروط وجودها، فوجب النظر إلى المستقبل وتقلباته، وبالتالي النظر إلى الصحافة على أساس أنها صناعة تتطور، تقنيا ومهنيا، ومحكومة بمنطق السوق وإرغاماته… (ص108/109)… تلك هي ضريبة الديكتاتورية الخفية للرقمية، بلغة صاحب كتاب» الإنسان العاري» مارك دوغان وكريستوف لابي، لعل مجموعة علي بابا من أهم تجلياتها في الصين العجيبة.
صين الأمس غير.. وصين مجموعة علي بابا…غير

كانت الصين على هامش التاريخ الحديث، ولا تذكر إلا في حالة انغلاق وانكماش ذاتي، أو في حالة حروبها المتتالية جراء التدخلات الأجنبية لكثيـر من دول الجوار الأسيوية، خاصة اليابانية منها، وغيرها، أو دول الغرب الأوربي مثل البرتغال وبريطانيا وفرنسا، وغيرهم، أو ما كان يعرف بـ »التغلغل الإمبريالي»(نحن والصين، من ص167 الى ص177)، كما كانت تعرف فقط بأنها دولة المليار و400 مليون «فم وعقل وسرير ومسكن..ووو» (ص181)، إناثُها أكثر من ذكورِها، لكن سرعان ما ستعرف يقظة «مدوخة»، على مختلف المستويات، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية وغيرها.
إن صين الأمس غير… وصين اليوم غير…فقد بدأ الإنسان في الصين، ينتقل من الذكاء الطبيعي أو البشري ومحدوديته إلى الذكاء الصناعي أو الرقمي، وما يوفره من أفق بلا حدود . في هذا المضمار، أسس جاك ما Jack Ma (1962- ؟؟ ) مجموعة علي بابا سنة 1999. وكان في بداية مشواره أستاذا للغة الإنجليزية لمدة خمس سنوات، بأجر يناهز 15 دولار شهريا. غادر المهنة إلى مهن أخر، وبعدها ذهب إلى أمريكا لممارسة مهنة الترجمة، وتعلم في هذا السياق بعض أسرار الأنترنيت …وعاد إلى الصين لبناء المستقبل الذي دوخ الحفيد ورفاقه، وجاء إلى بني ملال، وتلك فرصة لنتحقق من دوخته، أزالت أم لا تزال مستمر؟؟ أطلق «جاك ما» موقعا إليكترونيا للبيانات تحت مسمى الصفحات الصينية. لم يستسلم لفشل المشروع، بل أسس وبعض رفاقه موقعا أطلقوا عليه: علي بابا. اسما سحريا جاهزا للمنافسة العالمية من حكايات ألف ليلة وليلة، ومن عوالم السندباد البحري برحلاته الغرائبية السبع، تارة في جزيرة الوقواق الخرافية، وأخرى في وادي الأفاعي العملاقة… وكلمة السر السحرية: «افتح يا سمم»… «اقفل يا سمم»… كلمة السر أو القّن الذي اجتاح العالم اليوم، زمن عولمة بلا معالم، هيمنت فيه الرقمنة، واستبدت… ولكن استفادت منها الصين أيما استفادة، «منذ انطلاق الموجة الأولى في 1980، أي عولمة التجارة والمال، والموجة الثانية بانطلاق عولمة التقنية والخدماتية، وفي الموجة الثالثة، العولمة العلمية التي ستبيح للصين القدرة على الانتقال من شعار إلى آخر…»(ص202).
لن أتحدث عن الأرباح الخيالية للمجموعة، وهي بالمليارات، كما أوردها الحفيد في كتابه، لكن حسبي أن أدُوخ معكم، وهي تخطط لجلب مليارين من الزبناء (الهدف الأول)، وخلق 100 مليون منصب شغل قبل سنة 2036، (الهدف الثاني)، كما يبهرنا الحفيد، فضلا عن تقديم 120 ألف خدمة في الثانية، وتوفير خدمات القروض في ثلاث دقائق، والجواب عنها في الثانية، وبصفر إنسان…آليا… شيء عجب…أليس من حق الحفيد أن يدوخ/ وندوخ معه؟؟ الحق في الدوخة مشروع في مثل هذه الحالات…
وإذا أضفنا إلى ذلك، وهي مجرد عينات نستدل بها على واقع الدوخة ولوازمها، ما عاشه حفيد ابن بطوطة، وشهد عليه في هذا المضمار، إذ ستكتمل «الباهية»، ويطيـر العقل، وتَذْهَلُ كل مُرضعة عمّا أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، ونراهم سكارى وما هم سكارى»، وهو يحكي عن الربوهات، أو الإنسان الآلي، أو بعبارات الحفيد، ابن عم الإنسان الإلكتروني، وأبناء عمومتنا الميكانيكيون .(ص102)
الصين أو بلد العم ماو، من بين الدول الأربع الكبرى المتقدمة في مجال تقليعات الربوهات في العالم، بعد كوريا الجنوبية واليابان وأمريكا وألمانيا. وتجربة النادل الإليكتروني مذهلة ودالة في سياقها. ونتـرك الكلمة للحفيد، ليصف لنا عجب هذا الروبو، وما تسببه من دهشة وانبهار، «كان عبوره، في الفندق، بتلك السلاسة، بين الكراسي والأرائك، وبين الطوابق، مثار متابعة واستفهام، عن طريقة الاشتغال التي تجعله يفتح باب المصعد بمجرد وقوفه أو بتشغيله جرس الغرفة ما إن يكون أمامها، طريقة في البحث عن مستوى الذكاء الاصطناعي الذي يسير بنا نحو عطالة سعيدة في مستقبل قريب»، (ص103.)
الأعجب من ذلك، والأكثر تدويخا، (يا مُثبت العقل… !!) ما يفوق الخيال في مجال الطب، يقول المدوخ إلى الله، بفرح طفولي، والعهدة عليه، وقد تحول إلى كبسولة في بطن الصين: «دلتني المرافقة لنا على كبسولة طبية يبتلعها المريض، تتجول في بطنه ثم ترسل المعلومات إلى الحاسوب، ليقرأها الطبيب: وداعا أيتها الإيكوغرافيا التقليدية التي يكرهها كل المرضى عندما يتعلق الأمر بالباطن… وداعا أيتها الفيبروسكوبات التي تجلب الغثيان إلى المريض.. أهلا أيتها الكبسولة الصغيرة، مثل حبة أسبرين التي يبتلعها المريض، مع جرعة ماء…ص135)… هي «كبسولة يبلعها المريض، فتتجول في بطنه، وتنقل كل مشاهداتها… (هل أنا كبسولة في بطن الصين الهائل أنقل إليكم ما رأيت؟) (ص147).
الحق في الدوخة مشروع ومطلوب لما تكون، بخلفيات وطنية صادقة نابعة من الأعماق. فأين المغرب من الصين؟ (لي داخ إشد الأرض… )، والدوخة على دوخة…تزيد في العجب والتيه، إذ كيف يمكن أن يتعايش الماضي أو التاريخ مع المستقبل، والطب الصناعي إلى جانب الطب التقليدي. يحكي لنا الحفيد، تجربته مع الطب التقليدي الصيني، و قد نصحه الطبيب، بعد زيارة له، بأكل الفواكه، وبعض أنواع الخضروات، لكن باللون الأسود، تلك حكمته، يؤتيها من يشاء. والمعروف عند الحفيد، وبسخريته المعهودة، وخفة روحه ولطفها، أنه البدنجال أو الدنجال أو البودنجال (تعددت الأسماء والاسم واحد…)…. تعايش الماضي في المستقبل، الأول يُنضج، الثاني يَتجاوزه. وعندنا في العالم العربي الإسلامي، صار الماضي عندنا مهترئا، والمستقبل منخورا، على حد قول أمين معلوف…والعزة لله وللصين…
الوجه الصيني و»الوجوه المغربية»

من مظاهر الذهول والدوخة التي عاشها حفيد ابن بطوطة، ونعيشها معه، حكايته مع الوجه الذي نحمله معنا، ونحرص، كل صباح، على نظافته وتجميله لنخرج به للعالم وللناس، لنخبرهم عن قيمتنا الاجتماعية والاعتبارية، وما يتطلب ذلك. من هنا أهمية الوجه عند الإنسان، وارتباطه بالوجاهة والسلطة والنفاذ. لكن الوجه في الصين غيـر الوجه في المغرب. صحيح، ينصحنا الحفيد هناك في الصين، ويترجى منا في المستقبل هنا في المغرب، ألا ننسى وجوهنا في بيوتنا ونحن نهِمُّ بالخروج إلى العالم الخارجي. الصدمة وما تسببه من ذهول، هو أن البطاقة البنكية والهاتف النقال لم تعد تؤدي الوظيفة التي ارتبطت بها عندنا، وانتهت عندهم. فمع الوجه في الصين وليس في المغرب بعد، ينتهي زمن الانتظار والتلصص والتعرق في طابورات واحتجاجات لا تنتهي إلا لتبدأ. وجهك وحده كاف في الصين، فهو رأسمالك الأبدي، وحقيبة نقود في وجهك، تستعملها في الفنادق والأبناك والشبابيك الإليكترونية، والمطاعم و…شريطة ألا تكون صاحب وجهين، كما عندنا في المغرب، بسخرية الكاتب اللاذعة ، وهو يرصد المفارقات ويعاقب أصحابها شر معاقبة. لذلك يستحضر الحفيد موروثنا الثقافي المغربي للذكرى والمقارنة:( الله يجِيبْ لينا فوجه من ندوزو).. الوجه طريق معبدة عندنا، وبقدر الوجه ومقامه، يوصلك لما تريد وتحب وترغب، بحق وبدون حق( الدنيا بالوجوه .. والآخرة….بالزراوط.. أو تهذيبا، الآخرة بالفعايل..)، أما الوجه عندهم في الصين فالوجه واحد لا شريك له (الوجه المشِروكْ عْمْرُو ما يتغسل…)…
بقية المقال غدا السبت


الكاتب : إدريس جبـري

  

بتاريخ : 03/06/2022