يوم كان للكُتاّب صولات وجولات.. وإباء!

أحمد المديني
ينتظم هذه الأيام في الرباط المعرض الدولي للكتاب والنشر في دورته السابعة والعشرين الاستثنائية بعد أن تعطل العام الماضي في موقعه بالدار البيضاء بسبب جائحة الكوفيد. عندي أنه حيثما انعقد محفَلٌ للكِتاب وعائلةِ الأدباء والمفكرين يتيح تجمّع شعب القراءة فهو عيدٌ بهيج، لا سيما في البلدان التي تشكو من تدنّي مستويات التعليم والبحث، والكتابُ فيها ما زال غريبا أو بعيدَ المنال مادةً ولتكن سلعةً طبيعية تُتداول وتُستهلك في كل مكان، وخصوصا يتربّى عليها الناشئة فيصلون إلى المعرفة بأيسر السّبل وأقربِها المكتبةُ مؤسَّستُها الأولى من المهد إلى اللحد. وبما أننا في بلد المكتبات فيها عزيزةٌ جداً وآخرُ مكان يطرقُه متنزه وعابر سبيل، أو يخطر ببال من له مال ليستثمر ويفيد وهو يؤمن برسالة في مجتمعات مبتلاة بهموم البطن اضطراراً، أو ما ترى فيه الحاجاتِ الأولية تغذية العقل والروح ليست من ضمنهاـ؛ فيُعدّ تنظيم معرض وطني ودولي للكتاب عيدا حقيقيا يذكرنا بأن الإنسان حيوان ناطق وقارئ.
كلما حضر معرض الكتاب تعود إليّ جزيئات من طفولتي، في الدار البيضاء بالذات، حيث ذلك المكان المجوّف الهائل بسقفه الإسمنتي المبقّع باستدارات أسطوانية ينفذُ منها ضوءٌ شحيح. كنت أنظر إليه في صغري عملاقا وديناصورا، ولكني وأنا برفقة والدي وإخوتي لم أكن أطرقه إلا نادرا ودقائق. فهذا المبنى في أقصى شمال المدينة القديمة المسوّرة، المشرف على بحر الظلمات، وعلى المسبح البلدي الشعبي المسمى يومئذ (مريزيقة) على خطوات وبجواره الأوكواريوم، ثم في أوائل السبعينيات تُنصب فيه خيام للشيخات حيث يفرغ باعة الخضر بالجملة شكاراتهم حتى مطلع الفجر؛ هذا المبنى يا سادة يا كرام حمل اسما فرنسيا تردد على كل لسان هو (la foire) أي التظاهرة الاحتفالية والمعرض، عامة. نحن البيضاويين نقصده زرافات ووحدانا من جميع الطبقات، لم يكن في زمننا فحش الفوارق الطبقية لهذه الأيام. في المبنى الإسمنتي الضخم تعرض ماكينات فلاحية حديثة، شاحنات، سيارات، دراجات نارية، معروضات من صنع السجناء، أروقة تُقدم فيها بلدان أجنبية منتوجاتِها إلخ، بينما الأهم بالنسبة للأطفال والشعب عموما ما هو خارج الجوف الواسع جدا نمرّ به مرور الكرام لننصرف للأهم، من عاش طفولتنا يعرفه: الألعاب النارية وسياقة السيارات الكهربائية في مضمار، والقنص ببنادق لربح أي لعبة، دخان المشاوي يُهيّج الشهية لتناول لذيذ القضاب، كله بما يتيسر من مال، نخرج خاويي الوفاض وقد نلنا متعة المشتاق، ولكن لم يك ثمة أبدا كتاب!
ياه، احتاج المغرب إلى قرابة ثلاثة عقود بعد استقلاله ليحظى كتابُه ومثقفوه وشعبُه كله باللقاء والاقتناء والحوار في مناسبة تسمّى معرض الكتاب، في ذلك الموقع الذي صار اليوم قاعا صفصفا تنعب فيه البوم تقريبا ويرتبط في الذاكرة أيضا بوقت دموي أسود ليتنا ننساه، وما ينبغي أن يُنسى، ولا رواد العرس الأول للكتاب سنة 1986 أولُهم الأستاذ محمد بن عيسى وزير الثقافة عهدئذ أعرف أنه قام بمغامرة بل ومجازفة آمن بها وحققها، فيما راهن الخصوم على الخسران؛ هو وفريق الجنود المجهولين الذين نهض بهمتهم المشروع ونما ورسخ، أستحضر من ذاكرتي بعض الأسماء الأساتذة عبد المجيد بن يوسف، مصطفى الضو، رشيد جبوج، وجواد بونوار الذي وافته المنية أخيرا يستحق باسمه ونيابة عن الغائبين والحاضرين، المكافحات والمثابرين، إلى نصب تذكاري وشهادة تقدير متأخرة من وزير الثقافة الحالي باسم الدولة، لعلنا نعيد للذاكرة المغربية ولأهلها هنا بعض الحق المبخوس، وعسى أن يُسمَع النداء.
وأحب أن ألتفت إلى الماضي البعيد، فالحاضرُ يفلت من رؤية جيّدة، والآخرُ بِتّ أراه ببصيرة. إن تاريخ المغرب المستقل الحديث، وأَضيفوا له ما شئتم من حسنات النعوت، مدينٌ جلّه في استقلاله وخروجه من غياهب الجمود وخطواته في طريق التحرر والتنوير والحقوق الأساس، وفي نشر التعليم والمعرفة وتفتّح روح الإبداع، والحفاظ على عقيدتنا ولغتنا وروابطنا القومية، إلى رعيل الكتاب الرواد منذ الثلاثينيات وصُعُدا. لم يكونوا حملة أقلام بالاحتراف ومن أجل تسطير الكاغد والتباهي بالذات، شأن جحافل هذه الأيام، وإنما حملة مشعل رسالة وطنية كل كلمة يكتبونها وقول يرسلونه ودرس يلقونه في القرويين، مثلا، خطةً لاستقلال بلادهم ومنافحةً عن تاريخها وحصنا لهويتها العقيدية واللسانية والسيادية، لذلك أدب المغرب للمرحلة الاستعمارية باستثناءات طفيفة وطني كله، من أراد أن يتفقه في هذا الموضوع بعلم ويقين ليرجع إلى الرسالة الجامعية القيّمة لأستاذنا إبراهيم السولامي: «الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية، 1912ـ1956» (دار الثقافة، 1973)؛ نسيناهم لأننا شعب عدوّ لرواده ولذاكرته!
وأقترب من زمن عشت فيه وأنا منه وما أزال، كان للكتاب المغاربة فيه صولات وصنعوا جولات، وقالوا لا في وجه الطغيان وسدنته وسُعاة الفكر الرجعي، وهو تاريخ لا يبلى أو صفحة تُطوى من كتاب، مؤتمر اتحاد كتاب المغرب سنة 1973 في مدارس محمد الخامس بالرباط، لذا ما أسعدها صدفة أن ينتظم معرض الكتاب في الرباط، لو بيدي لنظمت بمناسبته زيارة لهذه المعلمة التي شهدت أخطر مواجهة بين كُتاب الاستخذاء والظلام وجيل الأدباء الأنداد في جبهة التحرر ومن أجل قيم التغيير والتجديد، وللشهادة لم يكونوا وحدهم فقد آزرهم بقوة وإباء آباءٌ مستنيرون أفذاذٌ سيدُهم الفقيه العالم والزعيم الوطني علال الفاسي رحمه لله.
ولو بيدي، والمناسبة شرط ـ يقول الفقهاءـ لذهبت بكتابنا وزوارنا وكلِّ أصحاب الوجوه البيضاء الناضرة إلى قاعة علال الفاسي بالذات في المركز الثقافي القديم بحي أكدال واستعدت أجواء المؤتمر الخامس لاتحاد كتاب المغرب (22ـ23/05/1976) ولجلسنا بهدوء ووقار نستمع إلى درس وعِبر كتبناها بنبض القلب ونزف الدم نعلن فيها عن هوية أخرى لثقافة مغربية جديدة، وكيف يمكن دعم وإعلاء أسس أدب مغربي من قلب الصراع الاجتماعي ويستوحي قيم الثقافة القومية، ولسمعنا من الأستاذ محمد برادة الذي انتُخب في المؤتمر رئيسا للاتحاد خلفا للفقيد عبد الكريم غلاب الذي شاركتُه عضوية المكتب المركزي ثلاث سنوات سابقة مع الأماجد الراحلين أحمد المجاطي وعبد الجبار السحيمي ومحمد العربي المساري؛ لسمعناه يتلو بهيبة وشجاعة أديب مناضل باسمنا جميعا نحن كتاب الصفّ التقدمي المستنير الوثيقة التاريخية (ميثاق الشرف اتحاد كتاب المغرب) يكفي أن أستشهد بفقرة واحدة منها: «(…) فإننا نكتب، وهذا اختيار واع، لاؤلئك الذين يؤمنون ويعملون من أجل التغيير: تغيير الهياكل وعلائق الإنتاج وتغيير الفكر وتغيير الثقافة للأدب بهدف تحقيق ثقافة وطنية ذات مضمون تحرري ضد الأوضاع الفاسدة. نكتب لنغير ولنتغير». وكنا إذذاك شبابا، كنا فرسانا مغاوير، يعرف ويعي الكاتب لِمَ ولمن يكتب، ولا هو يسكن سُرّته، ولا يستخذي ويكدي أو حاملا معه مرآة ليراه وحفنة كلمات علبةَ ماكياج، يقفز كالقرد بين المواقع سواء عنده يباع يشترى يستجدِي. أين نحن منها، أخاف أن أستعملها تلك الكلمةـ أظن (كرامة) أم لعلها (إباء) ـ فأكون قد نطقت كفرا أستغفر ربي. هي حكاية قديمة لا غير، لذا تبدأ الحكايات باستهلال: كان يا ما كان في سالف العصر والأوان!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 08/06/2022